الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الموت يسبق الإعدام

23 مارس 2012
(القاهرة) - استيقظت القرية الآمنة على الصراخ في بيت «عبد الناصر» بعد صلاة الفجر، زوجته تولول وتشق صرخاتها السكون الذي يخيم على البلدة ومعظم أهلها يغطون في نوم عميق إلاَّ من قام منهم لأداء الصلاة أو من توجه لعمله. الزوجة تتصرّف بجنون، بينما ابنتاها الصغيرتان غير قادرتين على الكلام ولا البكاء، فقد عجزتا عن فعل أي شيء من هول الموقف وأُصيبتا بالخرس وتزاحم الأهل والجيران على الدخول واعتقدوا في البداية أن حريقاً شب في المنزل فأسرعوا للمشاركة في الإطفاء، لكن المشهد كان أكبر من أي خيال. خمس من بنات الرجل مذبوحات أثناء نومهن في غرفتهن والدماء ملأت المكان وسالت على الأرض ولطخت الجدران وتبدو الغرفة لأوّل وهلة كما لو كانت «مجزراً» بدائياً تناثرت فيه الذبائح ولم يصدقوا ما وقعت عليه عيونهم اعتقدوا في البداية أن حيواناً مفترساً اقتحم الدار وقام بهذه الفعلة البشعة حتى أن بعضهم بدأ يبحث في المكان عن أي أثر له خشية أن ينقض على الذين تجمعوا، خاصة أن بقية باقية من الظلام لم تنقشع بعد إلا أنه كان مخطئاً في ظنه ولم يجد شيئاً والمرأة نفسها لم تسعفهم بالجواب عمّا حدث لأنها ما زالت تواصل الصراخ وفي يديها بعض الجروح التي تنزف ولم تمكنهم من تضميدها وهي في حالة هستيرية ومعذورة بالطبع، فلا أحد مهما كانت قسوة قلبه يستطيع أن يتحمل المشهد الدامي، فما بالك وهذه الجثث الصغيرة المتراصة لبناتها اللاتي افتقدتهن في لحظة واحدة؟ والغريب أن الزوج غير موجود بالمنزل واعتقد البعض أيضاً أنه خرج يطارد القاتل. الموقف كان أكبر من كل عقل وتفكير ولم يستطع أحد أن يذهب إلى الحقيقة المرة من البداية، وفي كل حال، فإن المصيبة كبيرة والجريمة غير مسبوقة ولم تحدث بهذا الشكل ولا بغيره ومما يزيدها غرابة ويزيد الموقف تعقيداً قبل أن تتكلّم الأم أن هؤلاء الناس رغم وجود الثأر عندهم فإنهم لا يقتلون النساء ولا الأطفال. ألح الرجال على الأم الثكلى بأن تتكلّم حتى يتصرفوا بسرعة وبطريقة مناسبة، فجاءت كلماتها متتابعة تكاد لا تفهم وهي تردد كأنها تهذي بأن أباهن هو الذي ذبحهن وهن نائمات وضرب الجميع كفاً بكف وهم يستغفرون ويحوقلون وامتلأت الدار بالرجال والنساء والأطفال ومع شروق الشمس حضر رجال الشرطة والطب الشرعي وعثروا على سكينين ملطخين بالدماء في الغرفة وتأكد أن الأخوات الخمس قتلن ذبحاً وفارقن الحياة. الأم ما زالت في حالة انهيار ولم تستطع أن تستجمع قواها، وقالت إنها بعد أذان الفجر بقليل قامت من نومها مفزوعة على صراخ بناتها فأسرعت إليهن فوجدت أباهن يمسك بسكينين بكلتا يديه وينهال عليهن بالطعنات في أي مكان بأجسادهن تصل إليه يداه وصرخت وحاولت منعه، لكنه كان قد تمكن من ذبح خمس من بناتهما السبع ونجت الاثنتان الصغيرتان وقد أصاب زوجته بجروح في يديها وهي تحاول الدفاع عنهن ومنعه من ارتكاب جريمته. وقالت الزوجة إن هُناك خلافات كبيرة بينهما، لكن لم يخطر ببالها أبداً أن تصل إلى هذا الحد والانتقام من الفتيات البريئات اللاتي لا ذنب لهن فيما يحدث وقد وصل بها الأمر إلى طلب الطلاق لأنه يسيء معاملتها ومعاملة البنات ويضربهن جميعاً وحاولت أن تسير في طريق الانفصال لتمنعه من الاعتداءات المستمرة عليهن والتي يكون أقلها السب والإهانات إلا أنه كان يرفض ويواصل معاملته السيئة ولم تجد شكاواها المستمرة أي صدى عنده ولم تفلح تدخلات المصلحين في إنهاء تلك الخلافات بأي شكل وأصبح البيت على كف عفريت ويتعرض لزلازل مستمرة وهربت منه السعادة والاستقرار وتحول إلى جحيم على الجميع، رغم أنه لم يكن كذلك من قبل، فهي لم تكن تكره زوجها ولا تعترض على أي شيء ولا تطلب إلا ما هو في حدود إمكاناته وبناتهما كلهن في خدمته وقد كانت تتعجب من فيض حنانهن عليه وهن يتبارين في وضع الطعام في فمه أو إحضار الشراب له وحتى الحذاء إلا أنه انقلب عليهن بعد أن دبت الخلافات فأثار الرعب في نفوسهن مما جعلهن يبتعدن عنه خوفاً منه وقد عرفت يداه الصفع والضرب بأي شيء. وقبل دفن القتيلات الخمس سرى في القرية الحديث الهامس وقالوا إن الرجل قد قتل بناته لأنه فقد عقله بعد أن كان يريد أن ينجب ولداً يحمل اسمه وهو بطبيعته منذ كان صبياً يكره البنات ولم ينجب أحد مثله هذا العدد الكبير من الإناث وربما كان له بعض العذر في طريقة التفكير التي تسيطر على الجميع هنا، لكن لا عذر له في الاعتراض على أمر الله ولا فيما أقدم عليه ولم يحاول أحد أن يبرر فعلته، بل استنكروها جميعاً فمهما كانت الخلافات ومهما كانت رغبته في إنجاب ولد فلا يجوز أن يصل الأمر إلى هذه المذبحة البشعة. هُناك في الحقول كان الأب القاتل يجلس تحت شجرة يدخن السجائر واحدة تلو الأخرى ولم يبد أي مقاومة عندما توجه رجال الشرطة للقبض عليه وأقاربه كانوا مشفقين عليه فها هو يقاد إلى السجن في وقت فقد فيه بناته الخمس وذبحهن بيديه ولن يحضر دفنهن ولا تلقي العزاء فيهن وتضاربت المشاعر بين التعاطف معه وهو في هذا الموقف الصعب وبين من قال إنه يستحق كل ما يحدث له لما اقترفت يداه. جلس الرجل أمام المحقق يتهم زوجته بأنها وراء ما حدث لأنها نكدية وجعلته يكره الدنيا كلها ويكره بناته كلهن، فقد انسقن وراءها وابتعدن عنه وليس حقيقياً أنه قتلهن لأنه يريد ولداً وإنما ليتخلّص منهن وقد كان يعتزم أن يقتلهن جميعاً وزوجته معهن، لكنه لم يتمكّن من ذلك ومع هذا فهو ليس نادماً وتركه الجميع وحده في هذا الموقف، بينما تجمعوا في الجنازة المهيبة التي تضم خمسة نعوش متراصة محمولة إلى مثواها الأخير ولا يوجد من لم تدمع عيناه بين المشيعين وقد أصيب بعضهم بالانهيار. أحالت النيابة الأب إلى محكمة الجنايات ولم يجد محاميه ثغرة ولا وسيلة يدافع بها عنه، فالجريمة بشعة ونكراء وثابتة عليه بأقوى الأدلة التي لا تقبل الشك وهو اعترافه بالتفاصيل الكاملة إلا أن المحامين لا يعدمون حيلة في البحث عن مخرج فطلب المحامي إحالة المتهم إلى مستشفى الأمراض النفسية لتوقيع الكشف الطبي عليه بحجة أنه مجنون وغير مسؤول عن تصرفاته ولا جريمته، فاستجابت المحكمة لطلبه وأودعته المصحة تحت الملاحظة لمدة خمسة وأربعين يوماً ليأتي بعدها التقرير الرسمي مؤكداً أن المتهم مسؤول تماماً عن كل ما فعل وأنه يدرك تصرفاته ولا يعاني أي أمراض نفسية ولا عضوية، وبعد المداولة أصدرت المحكمة حكمها بالإعدام شنقاً على المتهم الذي لم يتحرّك له ساكن وهو يستمع الحكم بشنقه وسار بين الحراس بلا إحساس. لم يتوقف محاميه عن المحاولة عساه أن يخفف عنه الحكم إلى أي عقوبة بعيداً عن الإعدام حتى لو كانت السجن مدى الحياة وان لم يكن منصوصاً عليها في القانون وتقدم بالطعن في الحكم أمام المحكمة العليا التي وافقت على إعادة المحاكمة لتعيد فحص الأوراق وتمحيصها ربما تجد فيها ما ينقذ رقبة المتهم من الموت، لكن المحكمة الجديدة بعد أن طالعت كل الأدلة والاعترافات والتحقيقات وتقرير مستشفى الصحة النفسية لم تجد إلا أن تؤيد الحكم السابق بإعدام الأب القاتل شنقاً. تم نقل «عبد الناصر» إلى السجن ووضعوه في زنزانة انفرادية تحت حراسة خاصة وهو يرتدي الملابس الحمراء فاللون الأحمر هو زي المحكومين بالإعدام وكان ينتظر التنفيذ في أي لحظة ولا أحد يدري كيف كان يقضي وقته وهل كان خائفاً من تلك اللحظة أم لا فهو لا يتحدث مع أحد ولا يبدي أي مشاعر أو ملاحظات ويلوذ بالصمت ويأتيه الطعام في موعده ولا يفعل شيئاً غيره وان كان لا أحد يدعي الشجاعة أمام الموت، لكن الغريب أن الرجل زاد وزنه في هذه الأيام. شهور مضت بين الجريمة النكراء وهذا اليوم الذي توجه فيه الحارس ليقدم له طعام الإفطار فوجده ملقى على الأرض في زنزانته بلا حراك وتم إخطار طبيب السجن الذي أكد أن الرجل القاتل فارق الحياة بسبب أزمة قلبية مفاجئة، بينما ضباط السجن يتعجبون، فقد رحل الرجل قبل تنفيذ الإعدام فيه بيوم واحد. تسلّمت أسرته الجثّة، لكن لم تكن جنازته مهيبة، كما كانت جنازة ضحاياه واليوم تذكر الجميع ما قدمت يداه من قبل فلم يحزنوا كثيراً وأولهم زوجته وابنتاه اللاتي لم يشاركن في الوداع الأخير.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©