الثلاثاء 19 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكتاب في «عين» أبوظبي.. والشعر في طرقاتها

الكتاب في «عين» أبوظبي.. والشعر في طرقاتها
9 ابريل 2014 10:56
لا يعرف سرَ الهوى إلا من يكابده، كذلك الكتاب لا يعرف أوجاعه إلا الراسخون فيه، الحاملون على أكتافهم همّه، الممسوسون بحبه، لكن المشتغلين في الثقافة ليسوا كلهم هذا الشخص. بعضهم يستقرّ في وعيه أن الكتاب سلعة، مثل أي سلعة، ناسفاً كل ما يحمله الكتاب من عمق حضاري وإنساني لا علاقة له البتة بالتجارة ولا بأرقامها... وعندما يصبح الوعي سلعة ينبغي على المرء أن يتحسس رأسه... لكن، وعلى الجهة الأخرى، عندما تحمل مدينة ما على عاتقها همّ الكتاب ونشره، والمعرفة وتعميمها، فإن الإنصاف يقتضي أن يقف المرء متأنياً لقراءة التجربة. في الإمارات عامة، وفي أبوظبي خاصة، ثمة حكاية متشعبة عن مدينة عقدت قرانها على الكتاب، وأقامت معه حلفاً متيناً، وعرىً وثيقة، نسرد هنا بعضاً من تجلياتها... وفصولها. يظن كثير من المثقفين، وبعض الظن إثم، أن الكتاب لا يحضر إلا في معارض الكتب، وبالتالي يتحدثون أحياناً عن حضور موسمي لـ “خير جليس”، بيد أن هذا التجلي الظاهري للكتاب وراءه، حضور عميق، جذري، مؤسّس (بكسر السين، لا كسر الله لكم قلباً) يفعل على نحو تدريجي، في العقول والنفوس.. صحيح أنه فعل بطيء، لكن من قال إن ثمار العمل الثقافي تنضج أو تؤتي أكلها سريعاً.. الثقافة استثمار طويل المدى (ليس بلغة السوق بل بلغة الوعي الوجودي لسيرة الإنسان مع الحضارة والمكان)، ولهذا، يعلم الراسخون في دهاليزها وعوالمها أن ما يبذر اليوم قد يحتاج إلى عشرات السنين لكي يزهر. في الثقافة، يصح المثل القديم الذي تعلمناه صغاراً مع ذلك الشيخ الجليل: “غرسوا فأكلنا ونغرس فيأكلون”... في الثقافة، لا ينتظر الباني أن يرى نتيجة بنائه ترتفع بين ليلة وضحاها.. يكفي أن يضع الأساس، أن يبذر البذرة في التربة، وأن يسلّمها إلى النور والشمس والهواء لكي تتكفل بتغذيتها. النور والشمس والهواء هنا هي عملياً، الرعاية والاهتمام والدعم وبعد النظر وحكمة البصيرة والرؤية البعيدة المدى أو ما يحب المثقفون تسميته (استراتيجيات ثقافية) والتخطيط، وغير ذلك مما يجعل الطقس خصباً والرياح مواتية لكي ينمو الغراس... ويطرح. بادئ ذي بدء، تقول الحكاية التي تنسج أبوظبي فصولها على مهل مع الكتاب، إن هذه المدينة قررت عن سابق إصرار وترصد، أن تضع الكتاب في عيونها، وأن تدخله إلى قلبها، حتى إنها سيّرت من أجله حافلات، تحمل كلماته، وتطوف الشوارع حاملة زاداً معرفياً لكل راغب... أليس شيئاً جميلاً أن تصافح عيناك الشعر وأنت تتجول في هذه المدينة، إنه الشعر، يستقل الحافلات ويمشي على عجلات.. الشعر بنوعيه: الشعبي والفصيح، بِحُرّهِ ومُرْسلِه وعموده يتنقل في الطرقات والشوارع، حاملاً أسماء شعراء الإمارات لتقرأها الأعين في كل وقت.. وكأني بالمدينة، في ضربة إبداع موفقة، حوّلت الحافلة إلى كتاب أو بالأصح منحت للكتاب قدمين وأطلقته بين الناس. فصل أول.. للكتاب جائزة للكتاب في أبوظبي جائزة كبيرة، مقدرة ومرموقة في الأوساط الثقافية العربية والعالمية، هي جائزة الشيخ زايد لكتاب، التي تنطلق في رؤيتها وفلسفتها من كلمات الشيخ زايد نفسه: “الكتاب هو وعاءُ العلم، والحضارة، والثقافة، والمعرفة، والآداب، والفنون، وإنَّ الأمم لا تقاس بثرواتها المادية وحدها، وإنما تقاس بأصالتها الحضارية، والكتابُ هو أساس هذه الأصالة، والعامل الرئيس على تأكيدها”. هذه الكلمات الجميلة تذهب بالكتاب إلى دلالات ومعان جوهرية في بناء المجتمعات، وترفع قدره عالياً وتنزله المنزلة التي يستحق في بناء الأمم... أما الجائزة، فترسخ حضوره، وتعضده، وتشد أزره في مواجهة طغيان كاسح لثقافة “التيك أوي”، وتعلنه سيداً حاضراً بقوة في المشهد الثقافي ليس فقط في أبوظبي بل في الحياة الثقافية الإنسانية بشكل عام. فصل ثانٍ.. فعل الكلمة في الفعل التأسيسي على صعيد علاقة أبوظبي بالكتاب يطل مشروع “كلمة” للترجمة التابع لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة برأسه، وبرصيده، وما راكمه. هذا المشروع التي تفتح أبوظبي من خلاله نافذة كبرى على العالم.. يحفر شاقولياً في العمق الثقافي وهو إذ يقدم لنا نخبة من أمهات الكتب، الكتب الكبرى والمؤسسة التي عرفتها الثقافات الأخرى، ينقل تيار المعرفة كما يفعل المصباح وهو ينقل تيار الضوء، ينير العتمة، ويفسح للبصر أن يرى على نحو أفضل. هل يستعيد مشروع كلمة في فكرته ومعناه “بيت الحكمة” التي ازدهرت في العصر العباسي وكان لها بيت يكافأ فيه المترجمون على جهودهم بـ “وزن الكتاب ذهباً”؟ تكمن جمالية هذا المشروع في أنه غير ربحي، ناهيك عن دوره في تمويل دور النشر المتميزة في العالم العربي لتقوم بترجمة الكتب المختارة وطباعتها وتوزيعها، فضلاً عن مساندته للمبادرات الخاصة بتسويق وتوزيع الكتب من خلال دعم قنوات جديدة وفعّالة للتوزيع الذي يعتبر الحلقة الأضعف في جسد النشر العربي. فصل ثالث.. حافلة كتاب ثمة اقتراح جميل آخر في أبوظبي، وهو مشروع “حافلة كتاب”، الذي يمكن قراءته كواحد من المشروعات المكملة لدور المكتبة، إنه المكتبة الوطنية المتنقلة، وهو مشروع أطلقته مبادرة “كتاب” في نوفمبر 2009 في مقر هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة بالتعاون مع المركز الثقافي الألماني (معهد غوته) بالإمارات وبدعم من هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة. ولعل أجمل ما في هذا المشروع أنه يصل إلى المناطق النائية، ويسهل وصول الكتاب إلى الذين يحبون القراءة لكن ظروف سكنهم وبعدهم عن العاصمة تحول بينهم وبين ذلك في بعض الأحيان. مما يعني على المدى البعيد التخلص من فكرة “الهوامش الثقافية” وجعل الإمارة كلها، بكل مناطقها، على تواصل حيّ مع الكتاب. أما الثمرة المنتظرة لهكذا مشروع فهي ارتقاء الوعي العام ونشر القراءة والمطالعة بين الأطفال والشباب الذين من بينهم ستظهر في قابل الأيام المواهب الواعدة، والشعراء والأدباء والمتميزون في مجالات العلم والفن وغيرها. عن نفسها، وعملها، وطوافها الذي لا يهدأ، لا تحكي “حافلة كتاب” بل تترك للمدارس التي تزورها، والطلاب الذين يستفيدون من خدماتها، والآباء والأمهات الذين يتزودون منها بما يحتاجون من كتب أن يحكوا عنها، وعن تجربتهم معها.. فهذه التجربة، ولاحظوا هنا المغزى التربوي أيضاً، لا تقتصر في جولاتها على حمل الكتب بل تدلّ الناس على القراءة باستخدام أساليب مبتكرة. أما المعنى الثاوي في متن فكرة كهذه، فهو التجسيد العياني الحي للشراكة المجتمعية المستدامة بين عدد من المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص والمنظمات غير الربحية، إذ تتضافر في رعاية هذه الفكرة الخلاقة الجهات التالية: مبادرة زايد العطاء وغرفة أبوظبي للتجارة والصناعة ومواصلات الإمارات والمركز الثقافي الألماني في منطقة الخليج (غوته) وشركة أبوظبي للإعلام وبلدية العين. مقطع القول، تمثل “حافلة كتاب” المجهزة تجهيزاً جيداً حالة ثقافية وطريقة مبتكرة في التعاطي مع الكتاب، وتدني القراء من قلب المعرفة المتوهج وتفتح لهم عوالمها الملونة. خذ هذه أيضاً؛ إذا أرادت جهة ما شيئاً من الحافلة في المساء فما عليها سوى أن تطلب ذلك، وتبدي رغبتها في استضافة الحافلة، لتأتي وعلى متنها المئات من الكتب العربية والإنجليزية المختارة بدقة وعناية لتناسب الشرائح الاجتماعية المختلفة. فصل رابع.. معارض الكتب ما إن تنفتح سيرة معارض الكتب حتى يتساءل المرء عن حجم المقروئية في العالم العربي، وواقعها الذي لا يسرّ سوى الأعداء، وعن المشكلات الكثيرة، المتشابكة، والشائكة التي يواجهها الكتاب العربي، وعن الخلل البنيوي الذي يعاني منه قطاع النشر وتوزيع الكتاب بين حدود هذا الوطن العربي التي لا تزيد مع الزمن إلا تجذراً وصلابة، هذا إذا لم تفرّخ لنا حدوداً جديدة في المستقبل.. وعن غربة الكتاب في جهات الأرض الأربع، الجهات التي تقاربت كثيراً مع انفتاح السماء والفضاء وتحول هذه الكرة الأرضية إلى قرية صغيرة تنتقل بينها المعلومات بلا حسيب ولا رقيب.. ما عدا الكتاب.. فالرقابات لا تزال مفتوحة العيون على آخرها لرصده.. لكن ما يثلج الصدر في التجربة الإماراتية مع معارض الكتاب أنها تجاوزت منذ فترة بعيدة، مسألة الرقابة على الكتاب أو الحجر عليه، وهو النهج الذي تحرص عليه أبوظبي بشكل خاص، منذ كان معرض أبوظبي الدولي للكتاب يقام في المجمع الثقافي.. وتالياً لم نسمع أو نشاهد منعاً للكتاب بسبب الفكر الذي يحمله، والكتب التي تمنع هي الكتب المزورة وتلك التي تخالف شروط الملكية الفكرية واتفاقاتها وقوانينها. في أبوظبي معرضان للكتاب: معرض أبوظبي الدولي للكتاب الذي يقام في العاصمة، ومعرض الكتاب “العين تقرأ” الذي يقام في العين، وكلاهما يكملان بعضهما بعضا، ويسهمان معاً في خلق حالة ثقافية متجددة على مستوى الكتاب. وهما أيضاً يعكسان وجه المدينة: المحلي والعالمي. مهما اتسعت زاوية الرؤية التي يمكن أن ينظر بها المرء إلى معرض أبوظبي الدولي للكتاب وأثره في الحياة الثقافية أو مكانته في المشهد الثقافي لأبوظبي والإمارات تظل قاصرة، ذلك أن في المعرض الكثير الكثير. وبعيداً عن استعراض ما حققه المعرض من منجزات، وما نظمه من فعاليات وما أطلقه من مبادرات، يمكن القول إن المعرض الذي بدأ معرضاً صغيراً للكتاب الإسلامي تشارك فيه قلة من دور النشر تطور كثيراً عبر مسيرته، واستقطب أهم دور النشر العربية والعالمية، وانفتح على هواجس الثقافة الحقة بانحيازه إلى الكتاب الجدي والجيد، ثم ارتقى إلى صنعة النشر نفسها لتصبح هاجسه في تطوير صناعة الكتاب والارتقاء بها.. مذّاك غدا المعرض الأول في الشرق الأوسط على هذا الصعيد، وواحد من أهم المعارض العالمية التي تعنى بالكتاب نشراً وتوزيعاً. ويبدو لي أن المعرض نجح في استقطاب الناشرين العرب والأجانب، وأن اهتمامه بمحور النشر وصناعته بدأ يؤتي ثماره ليس فقط لجهة عدد الدور المشاركة في دورته الأخيرة 2013 فقط، وإنما أيضاً لتنوع الجغرافيات والبلدان التي جاءت منها تلك الدور، ما يعني تنوعاً في الكتاب وعناوينه. ناهيك عن البرنامج المهني الذي يضع الناشرين على خريطة النشر العالمية وما يجري فيها. كما نجح المعرض في استجلاب مشاركات عالمية واسعة. وكما أنّ الشجرة لا تستقيم حياتها إلا بالنسغ الذي يروي العروق، فإن معرض الكتاب لا يستقيم إلاّ بحضور المثقفين، منتجي المعرفة، وهؤلاء لهم في معرض أبوظبي الدولي للكتاب حضور كبير. فالمعرض يستقبل مثقفين من كل القارات واللغات والجغرافيات الثقافية التي يعتقد المنظمون أنها تمنح المعرض طابعه العالمي، لكن حضور المثقف الإماراتي ما يزال أقل من الطموح، وإن كان المعرض قد انتبه في دورته الأخيرة إلى دورهم، فوضع في اعتباره أن يشركهم في برامجه وأن يستضيف الكثير منهم. الأمر الذي يمكن اعتباره خطوة متقدمة أخرى على صعيد توطيد علاقة المعرض بالمثقفين الإماراتيين والمكان، كتاباً وإبداعاً وهوية. إذ بحضورهم يكتمل معنى معرض الكتاب؛ فكرة ودلالة، فهم الذين يمنحون المكان هويته والروح صلابتها في ظل طغيان لا تخطئه العين لثقافة الاستهلاك. ولعل أهمية معرض أبوظبي للكتاب تكمن في هذه “الخلطة” التي جرى إعدادها بحرفية تستحق النظر؛ خلطة تحوي الثقافي والتسويقي في كفتين متساويتين أو متوازنتين لا تميل إحداهما على الأخرى. لطالما تحدث الناشر العربي عن أن مشكلة الكتاب التي تصيبه في مقتل هي: التوزيع، ولعل هذه مناسبة للإعلان عن أمل يداعب قلوب المثقفين والناشرين وهو أن تتبنى أبوظبي، وهي قادرة، مشروعاً ما لتوزيع الكتاب... فتضيف بذلك إلى سبحتها الثمينة حبّة أخرى. وإذا كان معرض أبوظبي يحمل طابعاً معولماً، إن جازت العبارة، فإن معرض “العين تقرأ” هو معرض الداخل بامتياز.. معرض المكان الإماراتي الذي يفتح شهية أهل العين وما جاورها على المعرفة. عبر برنامج ثقافي محلي مائة في المائة. في العمق، يعمل المعرض على بناء علاقة مباشرة بين القارئ والكتاب. وهو يسعى إلى تحقيق غايته تلك عبر تنظيم جملة من البرامج الثقافية المدروسة التي تركز بشكل أساسي على الثقافة المحلية، وتحرص على زجّ المثقف المحلي في الفعل الثقافي المصاحب للمعرض. وفي العمق أيضاً، يحضر المثقف الإماراتي بشكل واضح، لا يقبل المواربة، في معرض “العين تقرأ” ويمكن قراءة اهتمام معرض “العين تقرأ” بالمثقف الإماراتي في ضوء رغبة القائمين على معرض العين في أن تكون له صبغة محلية وأن يعكس ما يجري في الدولة على الصعيد الثقافي. من هنا يمكن إدراك سرّ اقتصار المشاركة على دور النشر والمكتبات والجهات المحلية، وعدم النزوع إلى إشراك دور نشر خارجية. باختصار، هذا معرض صنع، في بعض وجوهه، من أجل المثقف الإماراتي، وصنع في وجوهه كلها من أجل البشر الذين يعيشون على هذه الأرض بطيفهم الثقافي كله، لكي يدخلوا إلى عمق الثقافة الإماراتية بتجلياتها المختلفة؛ الشفوية والمكتوبة. بمعرضين وسياقين إذن تقارب أبوظبي الكتاب؛ عبر برامج وضعت بشكل مدروس لهدف واضح: بناء العلاقة القوية التي يفترض في معرض الكتاب أن ينجزها مع القارئ، تلك العلاقة المحلوم بها من أي نشاط ثقافي. ربما تتغير العناوين في معرضي الكتاب، ربما تتغير الوجوه التي تتصفحها، لكن العبرة تظل ثابتة: مزيد من القراء، مزيد من الكتب التي تغادر الأرفف لتستقر في أحضان العقول المشغوفة بالاطلاع، مزيد من الشيوع القرائي أو تعميم عادة هي أجمل العادات البشرية على الإطلاق. في معرضي الكتاب تصنع أبوظبي حضورها الأجمل، وتذهب عميقاً في الثقافة.. عميقاً... باتجاه القلب. فصل خامس.. ثقافة التنوير في تجربتها الثقافية والتنموية عقدت أبوظبي أيضاً قرانها على ثقافة التنوير، سواء على مستوى الكلمة أو الكتاب؛ فعلى مستوى الكلمة/ الشاعرة فيها جائزة البردة التي تحتفي بشعر جميل لم ينتبه إليه أحد، ولم يتم الالتفات إلى ما فيه من جماليات فنية ودلالات حضارية تصب في ثيمة السلام والتسامح التي تعلي الدولة من شأنها في كل مناسبة. في أبوظبي أيضاً مكتبة هل الأولى من نوعها في العالم، أعني مكتبة جامع الشيخ زايد الكبير “رحمه الله” الذي بات صرحاً من صروح الثقافة ليس في أبوظبي فقط بل في العالم. هذا الجامع الذي يضم في واحدة من مناراته مكتبة بالغة الأهمية، يستعيد الزمن الذهبي للجامع في الحضارة العربية الإسلامية ودوره الحضاري. وتضم هذه المكتبة المتميزة أكثر من نصف مليون مخطوطة نادرة بـ 12 لغة، وفيها كل ما يحتاج إليه الباحث أو القارئ من خدمات وتجهيزات وبنية متقدمة تتيح إيصال المعلومة لكل الباحثين في كل أنحاء العالم. لطالما بدت لي فكرة إنشاء مكتبة من هذا الطراز في الجامع، فكرة رائدة بحق. وربما اندفع قليلاً، بطبعي الخيالي، لأتصور أنها خطوة على طريق استعادة الدور الغائب للمسجد... الدور التنويري الذي يجعل المسلم قادراً على رؤية الحق حقاً والباطل باطلاً، في زمن اختلاط المعايير والأحكام. كل شيء في المكتبة يدعوك إلى احترام المكان... أنت في حضرة ما مجموعه 50.679 ملفوفة من المخطوطات العربية النفيسة والكتب والوثائق وطبعات للقرآن الكريم، طبعت في أوروبا خلال المدة الزمنية الواقعة بين (1537-1857) وتضم طبعات نادرة جداً بعضها هو النسخة الوحيدة المتبقية، يأتي اقتناء المكتبة لها ضمن اهتمامها بالحفاظ على التراث العالمي المطبوع في شتى المجالات والعلوم والمعرفة. ثمة مكان أو مشروع آخر يحقق هذا الاقتران بين العلم والإيمان من ناحية، ويعكس ثقافة التسامح التي تتبناها أبوظبي في كل فعالياتها الثقافية والفكرية.. وهو “معلمة زايد للقواعد الفقهية والأصولية” الذي أصدرته مؤسسة سلطان بن زايد آل نهيان للأعمال الخيرية، فالمعلمة مرجع موسوعي أعدّ بعناية وإتقان على مدى ربع قرن، ليكون دليلاً للمذاهب الإسلامية الثمانية المتواجدة في العالم الإسلامي، في نوع من الانفتاح على الآخر وفهمه والاعتراف به، ما يجعل هذه الموسوعة الشاملة مؤهلة لأن تكون خريطة طريق فكرية لتوحيد علماء المسلمين وفقائهم على الأقل وإنقاذ الأمة من فوضى الفتاوى. وما من مبالغة في القول بأن هذا العمل المنهجي هو بحق معلم إنساني ومشروع حضاري كما وصفته المؤسسة. لكن أبرز وأهم ما في هذه المعلمة هو جنوحها نحو التنوع وتعدد المصادر والمشارب والمذاهب، وهذا بحد ذاته سبب كاف لاعتبارها عملاً نوعياً، خصوصاً في ظل التناحر والتنازع الطائفي والمذهبي الذي يطل برأسه بقوة في هذه الأيام ويهدد بتفكيك المجتمعات العربية والإسلامية وتشظيتها وتذريتها إلى بؤر صغيرة متصارعة. وهي بهذا الجمع بين المذاهب الثمانية تنتصر لفكرة التنوع والتعددية، وغني عن القول أن التنوع والتعددية ثيمتان ثمينتان تدفعان عن أي عمل ثقافي أو فكري تهمة القصور وضيق الأفق وتأخذانه أكثر فأكثر في اتجاه الثراء والغنى. فصل سادس.. بيوت الحكمة في السياق نفسه، تحتضن أبوظبي عدداً من المكتبات العامة التي تغذي القراء بكل حديث.. والمكتبة العامة علامة من علامات أي مدينة، وهي أيضاً علامة من العلامات المفصلية في تجربتها الثقافية. وفي دولة الإمارات ثلاث فئات من المكتبات: المكتبات التابعة للجهات الاتحادية، مثل المكتبات العامّة التابعة لوزارة الثقافة والشباب وتنمية المجتمع والتي تنتشر في كل إمارات الدولة، والمكتبات التابعة للجهات المحلية، مثل دار الكتب الوطنية في أبوظبي، والمكتبات التابعة للنوادي والجهات الخاصة. بالإضافة إلى ما سبق، ثمة مكتبات تعمل لخدمة فئات معينة من الجماهير، مثل مكتبات الجامعات والكليات التي تلبي في المقام الأول احتياجات الطلبة وأعضاء هيئة التدريس من المعرفة ومصادر التعليم والبحث العلمي. وتضم جميع الجامعات الرئيسة في أبوظبي، مثل جامعة الإمارات العربية المتحدة وجامعة زايد وجامعة أبوظبي، مكتبات كبيرة مزوّدة بأحدث التجهيزات وتحتوي على الآلاف من العناوين والمراجع وقواعد البيانات المتخصصة، فيما تضم جامعة السوربون أبوظبي أكبر مكتبة في الشرق الأوسط. في أبوظبي مكتبات تحفل بالجديد من الكتب والإصدارات، وتخصص لها مبان حديثة وجيدة من حيث الإضاءة والتهوية، وتجدد طريقة عرض الكتب والدوريات، وتتوفر فيها تكنولوجيات العصر التي تسهل البحث والحصول على المعلومة وهي كلها عوامل تجعل من المكتبة فضاء جذاباً، يغري مرتاديها بالجلوس فترة طويلة. مكتبات نظيفة، لا مكان فيها للغبار أو الرطوبة، مرتبة، عصرية، تليق بالكتاب وقيمته العالية. وفي صدارة المكتبات الظبيانية تأتي دار الكتب الوطنية التابعة لهيئة أبوظبي للسياحة والثقافة، التي تأسّست في عام 1981، وهي تضم الدار قرابة مليوني مجلد يشـمل الكتب والدوريات والمخطوطات والمواد الإلكترونية، وتوفر أيضاً خدمات الإرشاد المرجعي والإعارة. ولا تنفك دار الكتب الوطنية تفتح لها فروعاً جديدة في جميع أنحاء إمارة أبوظبي لتوسيع الخدمات المكتبية بشتى المجالات ونشر الوعي الثقافي. ومن أجمل اجتراحاتها أن لها فروعا صغيرة حتى في مراكز التسوق (المولات) في محاولة منها للوصول إلى القارئ في كل مكان. وعلى سيرة الإنترنت، لم تغفل أبوظبي عن أهميتها على مستوى نشر الكتاب وتوزيعه وتسويقه، كما لم تغفل أيضاً عن أشكال الأوعية الأخرى: الكتاب الإلكتروني مقروءاً ومسموعاً، ففي الأول تقدم خيارات عديدة لعشاق القراءة على هذا النحو سواء من خلال مواقع الإنترنت المختلفة أو من خلال توفيره في معارض الكتب، وفي الثاني كانت السباقة إلى إصدار أول موسوعة مسموعة في الوطن العربي وهي موسوعة الشعر العربي، وكل ذلك في سبيل الوصول إلى القارئ ومخاطبة ميوله كافة. فصل سابع.. نشر الكتاب لا تكتمل دورة حياة الكتاب إلا بنشره، وإشاعته بين الناس.. وهنا، في أبوظبي عشرات الجهات الثقافية الحكومية والخاصة التي تمارس عملية النشر.. ولكل منها قائمة من الإصدارات، ولكي يعددها المرء جميعاً يحتاج إلى أكثر من أصابع اليدين، وربما تكون لنا معها وقفة أخرى في الآتي من الأيام.. لكن هل بوسع المرء أن يذهب بعيداً في التفاؤل وهو يرصد هذه العلاقة المتميزة مع الكتاب، ويحلم بأن تكون علاقة الأجيال الآتية مع الكتاب والقراءة أفضل؛ خاصة في ظل التقدم العلمي الهائل على صعيد الاتصالات وما تتيحه الشبكة العنكبوتية من إمكانات القراءة والبحث والمتابعة، وما يجده الشاب من مغريات قرائية من حيث شكل العرض؟! ثمة من يقول: ليس المهم من أين وكيف يقرأ من الكتاب أم من الإنترنت، ورقياً أم إلكترونياً، المهم أن يقرأ والأهم: ماذا يقرأ... والحال أن كلمة السر أو السحر التي ستحقق للكتاب حضوره، وللمجتمع رقيه الثقافي هي الطفل، أعني تربية الطفل على حب القراءة، وتعويده على صداقة الكتاب، وهذا ما أدركته أبوظبي، وأزمعت على تحقيقه، لأن ما ينقش في الصغر لا يفلح في محوه أو تغييره لا الكبر ولا مغريات الحياة الاستهلاكية مهما اتسعت...
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©