الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

أطلال السلام

18 مايو 2010 21:15
ألقت الشمس أشعتها الذهبية الدافئة على الوجود معلنة ميلاد يوم جديد.. وحياة جديدة.. ارتفعت زقزقة العصافير المغردة في سعادة وهناء وهي تسعى وراء رزقها بين الأشجار الكثيفة العامرة بالخيرات، في حين تقافزت الغزلان بحرية ورشاقة بين المروج الخضراء الشاسعة غير عابئة بوحوش الغابة التي أطلقت زئيراً خافتاً مستسلماً كأنما تعلن استقبالها لصباح آخر وليد يعمه السلام، ذلك السلام العجيب الذي أصبح كميثاق غير مكتوب يحترمه الجميع ويخضعون له. من بعيد.. تألقت مياه البحر كصفحة مرآة لا حدود لها، وانسابت طيور النورس الحرة أفواجاً نحو تلك الأطلال البائدة التي برزت من عرض البحر في شموخ لتحكي قصتها البائسة إلى الأبد على الرغم من الغزو الشرس للأشجار والحشائش الخضراء التي زحفت حولها بإصرار حتى لم يعد لها معالم واضحة جلية... ارتطمت الأمواج الثائرة بصخور الشاطئ في معركة أبدية بلا هدف. جلس ذلك الشيخ الوقور الهادئ على صخرة ملساء وهو يمرر بيده المعروقة على لحيته البيضاء الكثة المتشابكة كالأغصان، وحملت ملابسه اللون ذاته ليبدو مظهره أقرب إلى الحكماء.. أخذ يتأمل جمال الطبيعة كعادته وعيناه الضامرتان لا تفارقان ذلك الطفل الصغير كالزهرة المتفتحة الذي يركض وراء الغزلان ببراءة وضحكاته الحلوة تملأ المكان وتطرب أذني الشيخ كتغريد البلابل السعيدة.. تلك الضحكات التي يعتبرها مصدر طاقته وسبب استمرار حياته.. كان الحزن العميق قد حفر معالمه الكئيبة على وجهه، فصار جزءاً لا يتجزأ من ملامحه المتغضنة بمرور الزمن وتراكم السنين.. قبضت يده التي كالجذع على عصاه العتيقة كأنما يتشبث بآخر خيوط الأمل في البقاء بعدما قضى كل تلك السنين الطويلة.. لقد امتلأ رأسه ببحر من الذكريات البعيدة التي صارت مشوشة هلامية.. تلك الذكريات التي بدأت تتسرب من عقله رويداً رويداً حتى لن يبقى له منها شيء. ركض الطفل نحو الشيخ وهو يحمل ذلك الشيء المستطيل الشكل الذي أكله الصدأ واحتلته الرمال حتى صارت جزءاً منه.. أحضره بين يديه صائحاً في لهفة كشأن الطفل الذي يجد شيئاً غريباً: «انظر ماذا وجدت يا جدي!». أخذ الشيخ يتفحص تلك القطعة المعدنية الصدئة المأكولة الأطراف في تمعن وحيرة ويقلبها بين يديه محاولاً تحديد هويتها وهو ينظر نظرات حانية أبوية إلى حفيده، لكن ملامحه ما لبثت أن تجهمت، واتسعت عيناه في ذعر وتصلبت يداه على القطعة كالحجر.. لقد عرف هوية ذلك الشيء! حدق الشيخ في تلك القطعة المهترئة وهي تتفتت من بين يديه لتختلط ذراتها بالتربة الخصبة.. قبض عليها بشدة وأطلت الحسرة واللوعة واضحة من عينيه. كانت ذكريات أليمة لا يود استرجاعها وجاهد ليجعلها هلامية.. حدق الطفل في تلك القطعة في شغف هاتفاً: ما اسم هذا الشيء يا يجدي؟ ما اسمه؟ ضمه الشيخ إلى صدره بحنان بالغ محدقاً في صفحة المياه المتلألئة البعيدة، ثم قال بصوت منهك ممزوج بالأسى الذي ضاعف سنوات عمره أضعاف مضاعفة: «اسمه المدفع يا بني.. المدفع الرشاش!» من المجموعة القصصية «الحياة الثانية» لخالد الجابري
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©