الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فاكهة الحواشي

فاكهة الحواشي
17 مايو 2017 19:52
سيرة الأعمال غير المنشورة سيرة الأعمال التي لم يُقدّر لها أن تُنْشرْ (من مخطوطات قصصية أو روائية، أحرقها الكاتب أو مزّقها إرباً إرباً أو ألقى بها إلى قمامة النسيان، كيفما كانت طريقة الإتلاف وكيفما كانت مبررات الحذف فشلاً أو ركاكة أو هي غير ذات قيمة أو حصل الأمر تحت سطوة إكراه ما...الخ) تبدو لي أعظم من سيرة الأعمال التي قُدّر لها أن تُنشر. على الأقل لا أحد يتحدث عن سيرتها – السوداء – بالمرّة، وهي طيّ الكتمان والصمت والمجهول. حتما في رماد – سيرة – الأعمال غير المنشورة (المحذوفة أو المكنسة إلى الهامش) تختفي قصص مريبة على نحو مثير، تحتفظ ببروق من المعنى الآخر للكتابة والوجود. لقد خسر تاريخ الكتابة والأفكار، الكثير من العمق والجمال والأسرار، بفقدانه أثر هذا النوع من السيرة الفادحة. الأعمال الكاملة للكاتب توصيفٌ وإن كان يروم معنى مُجمل أعمال الكاتب، فهو على النّقيض من ذلك يضمر حماقة الختم على أثر الكاتب بالشمع أو التشميع بالأحرى، وإغلاق الدائرة بإحكام سريع ونهائي، وهذا ما لا يتفق مع لانهائية الأعمال وقدرة حيواتها على التعدد والامتداد والتشعب باستمرار دونما اكتمال. *** الكاتب المغمور هل على الكاتب أن يكون شهيراً حتى تتحقق له قيمة أو معنى أن يكون كاتباً بالفعل؟ هل رواج اسم الكاتب أو انتشار كتبه على نحو واسع هو ما يضمن لاسمه لمعة البريق عكس اسم الكاتب الذي لا تعرفه إلا أقلية ولا يعدو انتشار كتبه أن يتخطى حدود بلده، أو محليته بالأحرى؟ شهرة الكاتب سواء طبقت الآفاق أو كانت تراوح مكانها عند حدّ متوسّط، لا يمكن أن تكون بحال من الأحوال خلفية معيارية ثابتة للحكم على عمله الجمالي وعلى جدارة اسمه ككاتب. فمجمل الشهرة يقع خارج القيمة الجمالية للنصوص وخارج إبداعية الاسم وحقيقة موهبته وقدراته الخلاقة على الابتكار والإدهاش. شهرة شائعة إما تستند إلى صناعة مؤسسات إعلامية أو حزبية، رسمية في الغالب موالية للسلطة. شهرة زائفة ذات طبيعة استهلاكية تهيمن فيها القيم التجارية على حساب القيم الفنية. شهرة قد يكون مصدرها أيضاً الكاتب نفسه الذي يروج لنفسه بإفراط على نحو مبتذل، ولا يترك مناسبة يومية إلا ويقفز إلى مستنقعها كيفما اتفق، سواء عبر السعي الدائم إلى خلق لقاءات انتهازية تدور حول فلكه، أو عبر استدراج من سيكتب عنه بطرق رخيصة، إذ تبدو النية المسبقة والراسخة في علاقاته الإنسانية هي اصطياد ضحايا هنا وهناك بهدف تلميع كتابته وشخصه لا غير، كيفما كانت أساليب الصيد ماهرة، تلبس لبوس حيل السلوك الإنساني النبيل الذي يضمر حقيقة بشعة واحدة، هي مصلحة خلق حزام من المطبّلين والمزمّرين لمشروعه الأدبي. هذا لا ينفي الشهرة النبيلة لكتاب لم يسعوا إليها أصلًا، وإنما خلقتها أعمالهم الأدبية بقوة وعمق وجدارة. هذا لا يلغي الشهرة الأصيلة لكتاب تأتت لهم من خلال القيمة الإبداعية لنصوصهم لا غير. هذا لا يعدم الشهرة المقبولة والمحمودة لكتاب سطع اسمهم الغريب في سماء اللحظة الكونية، وهو سطوع يضيئه الذهب الخاص والمدهش الذي صنعت منه كتاباتهم المريبة. وفي معجم الشهرة لا يجب أن ننسى بأن الكثير من الكتاب الأحقاق، كانوا كتاباً مغمورين قيد حياتهم، ولم تصخب أسماؤهم هنا وهناك، أو تعرف أعمالهم على نحو كوني إلا بعد مماتهم. (كافكا على سبيل المثال لا الحصر). لست ضد أن يتحقق للكاتب أمر الشهرة، وأعني تماماً الشهرة التي تتخلق من داخل كتبه، لا من خارجها. أعني تماماً الشهرة التي يثمرها العمل الفني بالنظر إلى فرادته الجمالية وعمقه المريب. غير أن مجمل أشكال الشهرة يبقى مبتذلاً، والكاتب الحقيقي لا يسعى إليه، إذ أن علاقته بما يكتبه تظل مسألة وجودية صرفة. لا مشكلة إن كان يطمح الكاتب لكي يُعرف ويغدو مشهوراً، ولكن يبقى هذا الطموح لاحقاً وليس سابقاً. ما من كاتب لا يبدأ مغموراً، ثم يتخطى ظل النسيان والرماد إلى صخب الضوء. إما عن طريق المصادفة والحظ، أو عن طريق التواطؤ والتلفيق، أو بجدارة وأحقية. لكن ماذا عن الكاتب الذي يطمح لأن يظل مغموراً، ويخشى على نصوصه واسمه من ابتذال الشهرة؟ ماذا عن الكاتب الذي يعيش الكتابة كقدر لعين، ومعناه ككاتب يبدأ وينتهي عند الكتابة لا غير، دون أن يعير انتباهاً لشيء آخر. كاتب ليس متواضعاً بالضرورة وإنما يعي تماماً بأنه يكتب لأقلية وليس للجموع، يدرك تماماً خطورة أن تكتب لقارئ، وليس لجمهور. الكاتب المغمور ليس فاشلاً، أو غير ناجح كيفما كانت معايير النجاح تجارية أو أدبية صرفة. الكاتب المغمور الذي يعيش الكتابة كنمط وجود، زاهداً في بهرجة العالم وحماقات الإعلام وبؤس المحافل، إنما يتماهى مع عزلته وصمته، ينذر نفسه لمنطقة نائية عن الانحطاط. ليس كل كاتب مغمور كاتباً بالفعل أيضاً، والكلام هنا لا يشمل هذا الصنف الشائع من فقراء الموهبة وبؤساء التخييل... كن كاتباً مغموراً، أو كاتباً مشهوراً، المهم أن تكون كاتباً بالفعل. وأن تكون كاتباً بالفعل لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال جمال وقيمة ما تكتب، من خلال إبداعية الكتابة نفسها وليس من خارجها. *** العنوان الذي تسكنه رواية أخرى العنوان الذي يتماهى مع الرواية ويتطابق مع تجربة متنها على نحو مباشر أو مجازيّ هو عنوان شائعٌ وطبيعيّ. أما العنوان الذي تسكنه رواية أخرى غير روايته التي يوهم بها، فهو العنوان النادر، الأخطر والأجمل. *** لا أكتب لكي أتوازن، بل أكتب لكي أضطرب على نحو أجمل. *** من يقرأ وهو يسارع كي ينهي الكتاب لا يقرأ في الواقع، بل يركض لكي ينهي مسافة أو طريقاً لا غير. القارئ هو من يهمه الطريق أكثر مما يهمه الوصول. *** فاكهة الحواشي للحواشي غواية موازية تعسكر على هامش المتن. المتن الذي يستشري بخطيته على طول فراسخ الكتاب، يستفحل مندلقا ومتسلطناً كغابة يملأ الحيّز المركزي للصفحات. فيما الحواشي ترصّع ضفافه كنبات غريب أو زهر موحش. تكتفي بمساحة ضئيلة على السفح. ترتضي ظلًا نائياً على الحافة. هناك على حدّ الصّفحة توثر الإقامة. كتب غفيرة تراثية ومعاصرة، أُريد لحواشيها أن تضطلع بوظيفة العلامات الملمع إليها إشارة في أدغال النص. وظيفة الشرّح الموجز والتفسير المقتضب والمصدر الأمين. غير أن هذه الحواشي مكرتْ بما أوكل لها من تلك المهمّة الرسمية، فصارتْ بقدرة قادر كتاباً قائم الذات. كتاب داخل كتاب أو (كتاب مواز). وأحياناً كثيرة تمسي كتاباً أعظم قيمة من الكتاب المركزي والأصلي. شخصيّا ثمّة كتب تراثية لم أستطع إكمال قراءة متونها وانصرفت إلى فاكهة حواشيها. الشيء نفسه حصل لي مع أعمال فلسفية ونصوص حكائية بما فيها روايات عالمية، بدأت بحواشيها قبل اكتشاف متونها...الخ الحواشي معجم خاص، ينفرد بفلز متعة لا يمنحها بحر المتن دائماً. كأن متون النصوص تنتصب كمدائن - ضخمة كانت أو صغيرة، ذات شوارع فارعة ومتداخلة - فيما الحواشي تنتصب على حوافها كالضواحي، وفي الضواحي ما يستأثر بعمق لا يمكن العثور عليه باستمرار في صلب المراكز. الضواحي التي تدخر الجهة المنسية للمعنى. ويضمر نباتها المهمل التاريخ السري للغابة. الحواشي في أمهات الكتب – دينية كانت أو غير ذلك - نجوم تضيء غسقاً خارج المدار، قد تعزز المتن بقوة دامغة وقد تلغيه أو تلهج بقول النقيض. سيرة مضاعفة لفراغات يزدهر بها النص. بعض الحواشي محض كتاب عمودي ينتصب على حافة الكتاب الخطي الأفقي الذي يمثله النص الرئيس والمركزي. لنقل هي كتاب يُيمّم بوجهه شطر الاتجاه المعاكس لتيار نهر الكتاب الأصلي، ففي الوقت الذي يندلق ماء الكتاب الأصلي باتجاه مصبه المغتبط في بحر المحيط، يشق كتاب الحواشي طريقه بعكس اتجاه مياه الأول ويختار الوجهة الأصعب، الذهاب الشاق والمستحيل نحو المنابع! إن كانت صورة المتن تبدو كنهر مندلق، فالحواشي هي زبده ورغوته المنسحبة إلى الضفاف تتلو في صمت صلاة القعر وضراوة الحياة في القيعان. بعض الحواشي أعشاب سامة وضارة، نابتة على الحدود، غير أن قسوة مضارها ومرارة سمومها ترياق. حواشي الكتب الشعرية ثقوب سوداء تترصد القصائد بكمائن وفخاخ هي ملاذها الأخير. حواشي الروايات ليست هوامش نافلة، ولا أنقاض مهملة على قارعة الطريق، ولا أغراض مستهلكة تخلفت عن قافلة شبيهة بسور الصين العظيم، إنها تماماً المرايا المكعبة المنتصبة على جانبي الطريق الذي انهمرت فيه حشود الرواية الغفيرة... وفي هذه المرايا ما يدخر غبار النص الذي يقول ما لم تقله طاحونة السرد المهدارة. المرايا التي تستأثر بالصمت. حواشي المسرحيات الإغريقية وغيرها معاجم لموجز تاريخ إنساني، هي مرتع خصيب للأنثروبولوجيا وعلم الحفريات والميتافيزيقا والمعرفة المنذورة للوحشة والعزلة والخراب... حواشي الكتب التاريخية تمتمات غير مصاحبة لطروس التدوين، بل شذرات تلمع كجروح تحت شمس النص. الحواشي زهر برّي، لم تدجّنه الحدائق، وفيّ لأمومة الخلاء في كل كتاب مبين.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©