الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سياسة الخلود

سياسة الخلود
17 مايو 2017 19:36
«الثّقافة هي ما فعله الآخرون بي، أمّا الفنّ فما أفعله أنا بالآخرين»، يمكن أن نعتبر هذه الشّذرة الّتي تنسب إلى كارل أندري Carl André (وهو فنّان أميركي تشكيليّ من روّاد الفنّ الأدنوي art minimalisme)، بمثابة ردّ غير مباشر على أمر من الأوامر ينسب إلى رودولف هتلر يقول فيه: «اقتلوا الفنّانين أوّلاً...». فهذا القول أو ذاك يؤكّد طابع الفنّ الفرديّ الذّاتيّ المعزول، ولكنّه يؤكّد من ناحية قوّة تأثيره ونجاعته الرّمزيّة الّتي تدفع الطّغاة والجبابرة في كلّ الأزمنة إلى التّنكيل بأصحاب الفنّ وتدمير ما خلّفوه من آثار فنّيّة. بيد أنّ هذه الحرب بين رجال السّياسة وأهل الفنّ لم يكن رهانها ثابتاً، فقد كان يتغيّر باستمرار، فعندما نتذكّر ما فعله اليسوعيّون les Jésuites حين أبدلوا، زمن غزو المكسيك، «الزّيمات» zèmes (أي وجوه بعض الآلهة وتصاويرها عند هنود أميركا) برموزهم المقدّسة، أو نستحضر ما فعله المسلمون أيّام الأمويّين بالرّموز المسيحيّة حين كسروا تماثيلهم وأصنامهم، ذات سنة لمّا «كتب يزيد بن عبد الملك في سنة أربع ومئة، يأمر بكسر الأصنام، فكسرت كلّها، ومحيت التّماثيل، وكسر فيها صنم حمّام زبّان بن عبد العزيز الّذي يقال له حمّام أبي مرّة». (محمّد بن يوسف الكندي، ولاة مصر، تحقيق حسين نصّار، دار صادر، بيروت، د.ت، ص93)، فإنّ الرّهان في هذين المثالين المتباعدين تاريخيّاً وجغرافيّاً كان يتعلّق وقتئذٍ بالاستحواذ على مجال المرئيّ، وهيمنة الدّولة عليه باسم الدّين، لغزو الأرواح والأجساد. وفي هذا الغزو يستوي أولئك الّذين يصنعون الصّور المرئيّة وأولئك الّذين يدمّرونها، فهم جميعاً «محاربون، سواء أكانوا من نفاة الصّورة أم من عَبَدَتِها، ويبدو أنّ هذه الحرب قد حُسمت لمّا انتقلت الصّورة إلى طور إنتاجها التّقني، ثمّ طورها الرّقميّ، وأصبح مستخدموها من أهل الفنّ (في السّينما أو الفوتوغرافيا أو الفنون التّشكيليّة أو المصممون...) هم المتحكّمون، في صناعتها وانتشارها وتوزيعها، وإذا كان الفنّانون بمختلف اختصاصاتهم وطوائفهم هم صنّاع الصّورة بجميع أصنافها فإنّنا نتساءل: ما الّذي اقترفوه من خطيئة وإثم لمّا أصبحت الصّورة لا تعترف بأيّ نوع من أنواع المحظور الجنسيّ، أو الممنوع السّياسيّ (الفضائح)، أو المحرّم الدّينيّ (التّجسيم والتّشخيص)، فأضحت تنتهك كلّ المقدّسات، وتعمل على إقحامها في مجال الاستعمال الدّنيويّ، وجعلها بضاعة جاهزة للاستهلاك البصريّ. هذه الانتهاكات المتواصلة للمقدّسات الّتي تجري تارة بالصّورة، وطوراً آخر بجهل النّاس استعمالَ الرّموز الدّينيّة، تدلّ على أنّ حدود المقدّس اليوم قد طمست أو كادت، ففي روسيا الحالية، يذكر لنا الفيلسوف الألمانيّ، الرّوسيّ الأصل، بوريس غرويس Boris Groys أنّ طرائق استعمال الأيقونات قد نُسي تماماً. فكثير من النّاس لا يذكرون ما ينبغي القيام به في الكنيسة، ولا يعرفون كيف يرسمون علامة الصّليب بطريقة صحيحة، بل هم قد نَسُوا تماماً كيف يتعاملون ويعاملون الأرشيف الدّينيّ، حتّى أنّهم فَقَدُوا معنى الورع والزّهد، وقد حملهم هذا النّسيان على استعمال أيقونات الكنائس للتّدفئة دون أن يعلموا أنّ هذه الأشياء لا يُسمح باستعمالها، مثلما أنّه لا يسمح باستعمال لوحة الموناليزا لتفرش على الطّاولة ليُوضع عليها الطّعام، فماذا يعني النّسيان هاهنا؟ يقول غرويس: «يعني النّسيان بكلّ بساطة أنّه يُسمح لنا بأن نستعمل أشياء كان استخدامها محظوراً فيما مضى. لقد نسينا المحظورات، فالشّيء الوحيد الّذي أمكننا نِسيانه، ونَسيناه بالفعل، إنّما هو الحَظْرُ». وعلى خلفيّة هذا النّسيان لحدود المقدّس، الدّينيّ خاصّة، تغيّر رهان الفنّ اليوم، فلم يعد مداره على «حرب الصّور» للهيمنة على قطاع المرئيّ، فهذه الحرب قد انتهت بانتصار الصّورة واكتساحها للكون بأسره، وإنّما أضحى مداره على «سياسة الخلود». وهي سياسة ذات تاريخ طويل قد اقترن بطرائق الحضارات المختلفة في سياسة خلودها أو فنائها، وصناعة ديمومتها أو زوالها. ولعلّ مؤرّخ الفنّ الكبير، فرانز بوركنو Franz Borkenau (1900-1957)، يظلّ من القلائل الّذين فكّروا في تداول الحضارات ومنطق تعاقبها من منظور «سياسة الموت والخلود»، ففي كتابه المحوريّ: «النّهاية والبداية، في خصوص ظهور الحضارات المتقدّمة جدّاً وميلاد الغرب»، يقترح هذا المؤرّخ «قصّة كبرى» تتعلّق بمواقف الحضارات المتعارضة من مسألة الموت، وهو بهذه «القصّة الكبرى» ينقلب من مؤرّخ للفنّ إلى مؤرّخ كبير macro-historien، كِبَرَ المجال الّذي يتحرّك فيه، أي تاريخ الحضارات والثّقافات الكونيّ، فإذا كانت بعض الأصناف من الثّقافات ترفض الموت وتقاومه بإنشاء نظريّة في الخلود وأساطير في الأبديّة، فإنّ أصنافاً أخرى تقبل بحقيقة الموت، وتنشئ على أساس ذاك القبول والتّسليم ثقافة للحياة متغلغلةً في العالم. يبدو أنّ هذه «القصّة الكبرى» القائمة على رَدَّتَيْ فعلٍ مُختلفتَيْن من الموت تتجاوز مواقف الفرد الذّاتيّة، قد مكّنت فرانز بوركنو من دحض تصوّر الفيلسوف الألماني أوزفالد شبنغلر المورفولوجي للتّاريخ، وهو تصوّر قد صاغه في كتابه الشّهير «انحطاط الحضارة الغربيّة»، معتبراً تاريخ الحضارات والثّقافات، يتطوّر مثل نبتة، تولد وتحيا وتموت. مثل هذا التّصوّر، ذي المنحى الطّبيعانيّ، يرفضه فرانز بوركنو على نحو جذريّ، لأنّ الحضارات لا تنمو ولا تتطوّر، وإنّما تكوّن على مدى تعاقبها الزّمنيّ سلسلة مترابطة الحلقات. كلّ حلقة هي نقيض الحلقة السّابقة واللاّحقة. حلقات القصة الكبرى وعلى أساس هذا التّباين بين الحلقات، انتظمت فصول «القصّة الكبرى»، وتَتَابعَ ظهورُ الحضارات وولادتها، وقد بدأت هذه السّلسلة لا محالة بحلقة المصريّين، الّذين بتشييدهم للأهرامات، وابتداعهم لفنّ صناعة المومياء، وكتاباتهم الهيروغليفيّة الواسعة النّطاق، الّتي ترسم خرائط الأبديّة في عوالم ما بعد الحياة، تمكّنوا من بناء معالم هائلة تشهد على هَوَسِهم الشّديد بالخلود، أو نوع مخصوص من الخلود يؤمن بديمومة جسديّة مقاومة لعاديات الزّمان، ولعلّ الحضارات التّالية القديمة كحضارة الإغريق ثمّ الرّومان في مرحلة موالية، تلك الّتي قبلت الموت، قد مثّلت النّقيض المطلق لحضارة الفراعنة، فكلّ الطّاقات الّتي امتصّتها، عند المصريّين، أعمال التّخليد قد استخدمت في أثينا، ثمّ في روما، لفائدة الحياة السّياسيّة، وخدمة سكّان المدينة من المواطنين، ولأجل ذلك لم تعتن السّياسة عندهم البتّة بخلاص الرّوح، أو خلود النّفس والجسد، فانغماس الإغريق والرّوم التّامّ في شؤون المدينة ومهمّاتها اليوميّة قد حرّرهم من هاجس الخلود والحياة الأبديّة. ولعلّ انخراط هذه المجموعات السّياسيّة الشّديد في الحياة الفانية قد ولّدت ردود فعل عنيفة، خاصّة مع المسيحيّين الأوائل، كانت ترفض الفناء وتقاومه بنزوع عنيف إلى الحياة الخالدة، وقد وفّرت ردود الفعل الأولى، شروطَ ظهور المسيحيّة وولادتها في أوروبا الغربيّة، ولعلّ إلحاح الثّقافة المسيحيّة من جديد على طابع الخلود الّذي يكتنف مصير الرّوح، مقابل فناء الجسد، قد جعلها، من منظور تاريخ الثّقافات الكونيّ، حفيدة الثّقافة المصريّة، بيد أنّ هذا الميل الواضح إلى الخلود قد خبا في الأزمنة الحديثة في مطلع عصر النّهضة، فقد عاودت ثقافة قبول الموت الظّهور مرّة أخرى، فهيمنت من جديد بقوّة، مستثمرة كامل طاقاتها في المشاريع السّياسيّة. وقد تُوّج كلّ ذلك بأفول أفق الخلاص المسيحيّ الّذي ارتبط بنجاة النّفس في الزّمن الأخرويّ، وتعويض أفق الخلاص ذاك بأفق جديد، هو أفق تخفيف ثقل الوجود وجعله يطاق ويحتمل. في هذا الأفق ظهر مجتمع الاستهلاك بوصفه المجتمع الّذي لا يبحث فيه الإنسان عن خلاصه الرّوحيّ، بل يبحث فيه عن راحته ورخائه، فما يروّح عن النّفس عبء الوجود، ويخفّف ثقل العالم قد أصبح اليوم يقوم مقام ما كان ينقذ وينجّي. وبهذا التّحوّل في الآفاق، تكون الحداثة، بهذا الاعتبار، سليلة الثّقافات الإغريقيّة الرّومانيّة. وبحلقة الحداثة الأخيرة ينتهي مسلسل «القصّة الكبرى» الّتي نهض عليها منوال فرانز بوركنو في تفسير تاريخ الثّقافات الكونيّ. وهو منوال جذّاب لا بسبب قوّته التّفسيريّة للتّاريخ الثّقافيّ، وإنّما بسبب تخلّصه من تصوّرات ميتافيزيقيّة، كالتّقدّم والتّطوّر، هيمنت على منوال شبنغلر المورفولوجيّ. وبتجاوز هذه «العقبة الإبستمولوجيّة» أمكن تصوّر الثّقافات، في تعاقبها الزّمني، وهي تراوح بين الخلود وقبول الموت، وبين الأبديّة والفناء، فلا وجود لتطوّر في تاريخ الثّقافات لأنّ الزّمن الثّقافي لا يمكن أن يقاس على الزّمن البيولوجيّ المتحكّم في تطوّر الكائنات الحيّة. فتاريخ كلّ ثقافة يحرّكه في منوال فرانز بوركنو إمّا هاجس الخلود وحلم الأبديّة، أو التّسليم بالموت وقبوله بانخراط عميق في شؤون الحياة اليوميّة. الفن والخلود غير أنّ لـ«سياسة الخلود» في حقل الفنّ قصّة أخرى لا تقلّ شأناً عن قصّة «سياسة الخلود» الكبرى في مجال تاريخ الثّقافات والحضارات الكونيّ. فقد بيّنت لنا المقارنة بين القصّتين أنّ رهان الفنّ اليوم قد صار قريباً جدّاً من رهان الثّقافة المصريّة القديمة، فهو ينزع مثلها إلى الخلود، ولكن بسياسة مختلفة، ووسائل جديدة قديمة، ويرجع هذا إلى أنّ الفنّ بصفة عامّة قد جرى التّفكير فيه طويلاً، في الغرب، انطلاقاً من مقولة «الدّائم الباقي»، أي بوصفه تحدّياً لهذا الوعي بالزّائل وبالزّوال، ونلحظ هذا في مجالات كثيرة من الثّقافة الغربيّة المعاصرة، ففي مجال فلسفة الزّمن كانت فرضيّة بول ريكور مثلاً، تلك الّتي سيّرت عمله الطّويل في كتابه الضّخم «الزّمن والقصّ» هي «اعتبار القصّ حارس الزّمن». بيد أنّ وظيفة الحراسة الّتي خصّ بها ريكور فنّ القصّ يمكن تعميمها على سائر الفنون، إذا اعتبرنا أنّ رهان الفنّ الأكبر، عند الغرب على الأقلّ، هو مقاومة هذا الزّائل الّذي ينذر هويّة الأمّة أو هويّة الذّات أو هويّة الأشياء... بالفساد. وهذا الرّهان فيه ما فيه من المفارقات. ذلك أنّ أيّ فنّ من الفنون أُوكلت إليه مهمّة الحراسة، لا يمكنه أن يحرس موضوعه دون أن يرتكب جريمة قتله، هذا إذا فهمنا من «القتل» المعنى الفرويديَّ الدّقيق لهذه الكلمة. ذلك أنّه يعتبر كلّ عمل من أعمال التّحوير والتّغيير والتّشويه والنّقل والتّحريف، وحتّى تغيير الأمكنة ونقل الأشياء والمواضيع من مكان إلى آخر، جريمةً من شأنها أن تصيب مقولة الدّائم الباقي في الصّميم. فعندما تُوكل إلى أيّ فنّ مهمّة الحراسة لا ينبغي أن نتوقّع من هذا الفنّ أو ذاك أن يصون على نحو أمين ما كُلّف بحراسته حتّى يحفظه، فيدوم ويستمرّ في الزّمان، فهذه المهمّة لا يمكنها أن تتحقّق على نحو مثاليّ إلاّ إذا كان الفنّ كالحارس المطيع طاعة عمياء تذكّرنا بحرّاس المعابد والثّغور. أمّا إذا نظرنا إلى الفنّ على أنّه قوّة شبيهة بقوى الكبت والرّقابة اللاواعية، فإنّه يستحيل عليه القيام بدور الحراسة إن لم يُجْر على «الأشياء المحروسة» من ضروب التّحوير والتّغيير ما يخرجها في هيئة غريبة شبيهة بهيئة أشباح الموتى حين تعود. إنّ مهمّة الفنّ الأولى قد أضحت اليوم هي حفظ الموجود حتّى لا يغادر موضعه من الأرشيف، أو المدينة، أو الذّاكرة، عندما أُوكلت إليه حراسة هذا الموجود الزّائل. ولعلّ من شروط إمكان هذا التّحدّي، في أيّ فنّ من الفنون، هو تحويل عناصر الزّوال وجراثيم الفساد، في كلّ موضوع محروس، إلى ديمومة شبيهة بديمومة الموتى في الأهرام والمقابر، فإبقاء جسد الفرعون الملكيّ على هيئته الأولى قد اقتضى أن يتحوّل بفنّ التّحنيط إلى مومياء، أي إلى جسد ميّت غير فان، أو جثّة منعتها أعمال الصّيانة من انقلابها إلى تراب، فالمومياء هي جسد مؤجّل الفناء، إذ بذاك التّأجيل فقط يحافظ الجسد الفاني على بقائه ووهم خلوده، فهل أصبح رهان الفنّ اليوم هو تحويل الأشياء الفانية إلى أشياء دائمة ديمومة المومياء في تابوت الموتى، في جوف الهرم؟ في هذا السّياق تتنزّل كتابات الفيلسوف بوريس غرويس في مجال الفنّ. ومن هذه الزّاوية، يمكن قراءة تحليلاته اللاّمعة على أنّها إعادة تأويل جذريّة لظاهرة الهرم، خاصّة الغرفة الجنائزيّة الّتي أودعت فيها مومياء الفرعون. فهو يرى أنّ هذه الغرفة يمكن أن يعاد استعمالها، لا بنقل الهرم برمّته من مكانه الأوّل إلى مكان آخر، وإنّما بتحويل هذه الغرفة إلى أنموذج مستوحى من فضاء الميّت، وهو أنموذج يمكن إعادة تصميمه وتشييده في أمكنة أخرى، حتّى تودع فيه أجساد أخرى غير فرعونيّة، قصد حفظها وتحويلها إلى أجسام خالدة. ومعنى ذلك أنّ غرفة المومياء في الهرم قد أصبحت جاهزة للسّفر في أرجاء العالم المعاصر، والحطّ في جهات يقطنها أناس يؤمنون إيماناً راسخاً بوجوب حفظ أشياء الفنّ والثّقافة بأيّ ثمن، وعلى هذا النّحو أضحى فضاءُ الميّت ذو الطّابع المصريّ أنموذجاً يمكن أن يصمّم في أيّ مكان توجد فيه المتاحف، بل صار يمكننا اليوم أن نعرّف المتحف بأنّه الموضع الّذي يستقبل الأشياء المختارة بوصفها أشكالاً من المومياء الحديثة، وهي أشياء قد فقدت وظائفها السّابقة، وغادرت دورة الاستعمال الدّنيويّ، لتصبح مواضيع للنّظر والفرجة. إنّ «المومياء الحديثة» لا تختلف كثيراً عن أشياء الفنّ «الجاهز» ready made، أي الفنّ الّذي يأخذ عناصر مادّيّة مصنوعة كانت مستعملة، فيحوّلها إلى عمل فنّيّ. بل إنّ المومياء في حدّ ذاتها يمكن اعتبارها شكلاً فنّيّاً من أشكال الجاهز بوصفها جسداً بشريّاً محنّطاً قد تحوّل في دنيا الفنّ إلى موضوع فنّيّ جاهز للعرض والفرجة. ولعلّ الخطوة الحاسمة الّتي جعلت الجسد البشريّ ينقلب إلى موضوع للعرض لم تكن بمبادرة من أحد الفنّانين. يكفي أن نستحضر معرض «عوالم الجسد» Body Worlds، لعالم التّشريح الألمانيّ غونتر فون هاغنس Gunther von Hagens، مبتدع تقنية «الحفظ البلاستيكي» «plastination»، الّتي تهدف إلى حفظ أنسجة الجسد الميّت بأكمله، أو قطع منه، وعرض تفاصيله وخباياه بدقّة متناهية، متجاوزاً بهذه التّقنيّة فنّ التّحنيط بأشواط، فقد جذب في أوّل عرض له في «متحف التّقنية والعمل» في مدينة مانهايم سنة 1998، أكثر من ثمانمائة ألف زائر، توافدوا ليشاهدوا أكثر من مائتي جثّة بشريّة مسلوخة الجلد عارضة أحشاءها على نحو شبيه بمنحوتة سلفادور دالي «فينوس دو ميلو ذات الأدراج»، «Vénus de Milo aux tiroirs»، (1936). وبعرض الأشياء النّافقة الّتي تحوّلت إلى تحف فنّيّة، وحفظها في فضاء المتحف، يكون الفنّ قد ابتدع زمنيّة أخرى، مختلفة عن الزّمن التّاريخيّ أو البيولوجيّ، تحيا فيه أشياء الفنّ والثّقافة الحديثة، كالآثار الفنّيّة والأثريّة، في ديمومة شبيهة بديمومة المومياء في الهرم، أو ديمومة الأشياء الّتي انسحبت نهائيّاً من دورة الاستعمال اليوميّ واستقرّت في المتاحف. هذا الانسحاب بالذّات لافت للانتباه، لأنّه قريب من معنى المقدّس في التّصوّرات الدّينيّة. فإذا كان لفظ «Consacrer – Sacrare» (أو حرّم) يعني خروجَ الأشياء من دائرة القانون البشريّ بما يجعلها محرّمة الاستهلاك والاستعمال، فإنّ لفظ «profaner» (أو حلّل) يعني عودة الأشياء إلى استخدام النّاس المعهود الحرّ، فهي في حلّ من كلّ قيد وشرط يربطها بدائرة القانون الإلهيّ. فالمقدّس بهذا التّصوّر الدّيناميكيّ هو ذاك الّذي بعمليّة الفصل قد انسحب من استعمال النّاس، وألحق بالفضاء الإلهيّ في شكل أضحية أو نذر. وظيفة الفن الجديدة وإذا سلّمنا بهذا التّعريف لمفهوم المقدّس أصبح من اليسير وصف الأدوار الجديدة الّتي اضطلع بها رجال الفنّ اليوم، وتفسير ما طرأ على مفهوم الفنّ ذاته من انقلابات، فقد أصبحت وظيفة الفنّ اليوم نفياً مستمرّاً لفعل «Sacrare» (أو التّقديس) ذاته. وهو بهذا الصّنيع يزاول ضرباً جديداً من «profanation» (أو التّدنيس) لا يقوم على انتزاع أشياء المقدّس من فضاء الألوهة ونقلها إلى الفضاء البشريّ، وإنّما يُنجز بتدمير كلّ الحدود القائمة بين ما هو بشريّ وغير بشريّ. فهو بذاك الصّنيع يبتدع شكلاً جديداً من المقدّس يقوم على نقل ما كان داخلاً في دائرة الاستعمال اليوميّ البشريّ الدّنيويّ إلى أفضية الفنّ. وأبرز أفضية الفنّ اليوم هو المتحف. فتحويل موضع المقدّس من المعبد الدّينيّ إلى المتحف الفنّيّ هو رهان الفنّ اليوم. فالمشترك بين المعبد والمتحف هو استحالة الاستعمال وحظر الاستهلاك. فما كان محظوراً استعماله واستهلاكه في الفضاء العموميّ بسبب انتقاله إلى المعبد (كنيس، كنيسة، جامع، ضريح، زوايا...)، فضاء القداسة القديم، قد بات محظوراً استعماله بسبب انتقاله إلى فضاء المعرض أو المتحف. فقد صار المتحف، منذ الأزمنة الحديثة، يشغل الفضاء الّذي كان يحتلّه المعبد، ويضطلع بالدّور الّذي كانت تنهض به المعابد. ولا تقتصر هذه الوظيفة على فصل الأشياء والأشخاص عن وظيفة استعمالها فحسب، وإنّما تجعل من كلّ ما استحال استعماله والتّمتّع به موضوعاً للعرض والفرجة. فما تعرّض له العمل الفنّيّ، والصّورة بوجه خاصّ، من انقلاب في «عهد تكرار إنتاجه التّقنيّ» هو اكتسابه لقيمة جديدة مختلفة عن قيمتي الاستعمال والتّبادل، أطلق عليها والتر بنيامين Walter Benjamin اسم «قيمة العرض». وهذا المفهوم يخصّص على نحو دقيق حال الأشياء والأجساد في مجتمع الاستهلاك والفرجة. وعلى هذا النّحو، لم يعد المتحف مجرّد مكان مادّيّ محدّد، وإنّما صار بعداً من الأبعاد قد انفصل، ونقل إليه كلّ ما صار ينظر إليه على أنّه فقد قيمة استعماله، وكفّ عن أن يكون طبيعيّاً (كالمحميّات الطّبيعيّة)، أو واقعيّاً (كالمواقع الّتي سجّلت بوصفها جزءاً من التّراث الإنسانيّ)، أو حقيقيّاً (كمجموعة بشريّة أو حيوانيّة ما زالت تحافظ على شكل حياة آيل بطبعه إلى زوال)، ولكن نعتبر بصفة عامّة أنّ كلّ شيء اليوم يمكن أن ينقلب إلى متحف منذ اللّحظة الّتي يعيّن فيها بلفظ «متحف» شيء قد صار قابلاً للعرض بمجرّد استحالة استعماله أو السّكن فيه أو تجريبه. في هذا السّياق يمكن العودة إلى التّأويلات الجديدة في شأن مؤسّسة «المتحف»، خصوصاً تأمّلات الفيلسوف الألماني بوريس غرويس. فهي تحملنا على أن نعتبر الوظيفة المتحفيّة، شأنها شأن الوظيفة الجنائزيّة، محكومة بمقولة «الدّائم»، سواء أكان هذا «الدّائمُ» الكينونةَ أو المثالَ أو الهويّة، أو الرّوح، أو الجسد، أي هذا الفهم الّذي يجرّد الزّمن من كلّ قيمة زمنيّة، فيصبح الزّمن بدوره خاضعاً لإيقاعات زمنيّة أخرى بلا ميقات ولا ساعات ولا روزنامات، وها هنا يمكن أن نتساءل: ألا يُعيد الفنّ بعثَ الحياة والتّاريخ على نحو استطيقيّ في زمان مختلف خاصّ بزمنيّة الأشكال الفنّيّة وأشيائها؟ ألا تخضع زمنيّة هذه الأشكال والأشياء المعروضة لزمن لا يُقاس بميقات تاريخيّ أو اجتماعيّ معلوم، نسمّيه على غرار فرويد بـ«خارج الزّمن» (Zeitlos)؟ ثمّ إذا علمنا أنّ هذه الزّمنيّة تشتغل بعدم التّزمين والتّحقيب والتّأريخ، أفلا يُمكن وصف زمنيّة الأشكال على غرار «زمن الموت» بوصفه «لا زمنياً» أو «خارج الزّمن»؟ ألا يمارس الفنّ اليوم ضرباً جديداً من «سياسة الخلود» تضحي فيه أشياء العالم الهشّة أشكالاً جديدة من طراز المومياء، أو الأجسام المحنّطة؟ عوالم الجسد معرض «عوالم الجسد» Body Worlds، لعالم التّشريح الألمانيّ غونتر فون هاغنس Gunther von Hagens، مبتدع تقنية «الحفظ البلاستيكي» «plastination»، الّتي تهدف إلى حفظ أنسجة الجسد الميّت بأكمله، أو قطع منه، وعرض تفاصيله وخباياه بدقّة متناهية، متجاوزا بهذه التّقنيّة فنّ التّحنيط بأشواط. فقد جذب في أوّل عرض له في «متحف التّقنية والعمل» في مدينة مانهايم سنة 1998، أكثر من ثمانمائة ألف زائر، توافدوا ليشاهدوا أكثر من مائتي جثّة بشريّة مسلوخة الجلد عارضة أحشاءها على نحو شبيه بمنحوتة سلفادور دالي «فينوس دو ميلو ذات الأدراج»، «Vénus de Milo aux tiroirs»، (1936). نسيان المقدّس الانتهاكات المتواصلة للمقدّسات الّتي تجري تارة بالصّورة، وطوراً آخر بجهل النّاس استعمالَ الرّموز الدّينيّة، تدلّ على أنّ حدود المقدّس اليوم قد طمست أو كادت. ففي روسيا الحالية، يذكر لنا الفيلسوف الألمانيّ، الرّوسيّ الأصل، بوريس غرويس Boris Groys أنّ طرائق استعمال الأيقونات قد نُسي تماماً، فكثير من النّاس لا يذكرون ما ينبغي القيام به في الكنيسة، ولا يعرفون كيف يرسمون علامة الصّليب بطريقة صحيحة، بل هم قد نَسُوا تماماً كيف يتعاملون ويعاملون الأرشيف الدّينيّ، وقد حملهم هذا النّسيان على استعمال أيقونات الكنائس للتّدفئة دون أن يعلموا أنّ هذه الأشياء لا يُسمح باستعمالها، فماذا يعني النّسيان ها هنا؟ يقول غرويس: «يعني النّسيان بكلّ بساطة أنّه يُسمح لنا بأن نستعمل أشياء كان استخدامها محظوراً فيما مضى. لقد نسينا المحظورات، فالشّيء الوحيد الّذي أمكننا نِسيانه، ونَسيناه بالفعل، إنّما هو الحَظْرُ». تداول الحضارات فرانز بوركنو Franz Borkenau يظلّ من القلائل الّذين فكّروا في تداول الحضارات ومنطق تعاقبها من منظور «سياسة الموت والخلود». ففي كتابه المحوريّ: «النّهاية والبداية، في خصوص ظهور الحضارات المتقدّمة جدّا وميلاد الغرب»، يقترح هذا المؤرّخ «قصّة كبرى» تتعلّق بمواقف الحضارات المتعارضة من مسألة الموت. وهو بهذه «القصّة الكبرى» ينقلب من مؤرّخ للفنّ إلى مؤرّخ كبير macro-historien، كِبَرَ المجال الّذي يتحرّك فيه، أي تاريخ الحضارات والثّقافات الكونيّ. فإذا كانت بعض الأصناف من الثّقافات ترفض الموت وتقاومه بإنشاء نظريّة في الخلود وأساطير في الأبديّة فإنّ أصنافا أخرى تقبل بحقيقة الموت، وتنشئ على أساس ذاك القبول والتّسليم ثقافة للحياة متغلغلةً في العالم. الفن حارس للزمن كانت فرضيّة بول ريكور، الّتي سيّرت عمله الطّويل في «الزّمن والقصّ» هي «اعتبار القصّ حارس الزّمن». بيد أنّ وظيفة الحراسة الّتي خصّ بها ريكور فنّ القصّ يمكن تعميمها على سائر الفنون، إذا اعتبرنا أنّ رهان الفنّ الأكبر، عند الغرب على الأقلّ، هو مقاومة هذا الزّائل الّذي ينذر هويّة الأمّة أو هويّة الذّات أو هويّة الأشياء... بالفساد. وهذا الرّهان فيه ما فيه من المفارقات. ذلك أنّ أيّ فنّ من الفنون أُوكلت إليه مهمّة الحراسة، لا يمكنه أن يحرس موضوعه دون أن يرتكب جريمة قتله، هذا إذا فهمنا من «القتل» المعنى الفرويديَّ الدّقيق لهذه الكلمة. ذلك أنّه يعتبر كلّ عمل من أعمال التّحوير والتّغيير والتّشويه والنّقل والتّحريف، وحتّى تغيير الأمكنة ونقل الأشياء والمواضيع من مكان إلى آخر، جريمةً من شأنها أن تصيب مقولة الدّائم الباقي في الصّميم.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©