الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حوار الوجوه الصامت.. والصاخب

حوار الوجوه الصامت.. والصاخب
22 مارس 2012
بمشاركة خمسة وعشرين فنّاناً تشكيليّاً من الأردن والعالم العربي وأوروبا، شهد (جاليري رؤى للفنون) في عمّان، إقامة إحدى التظاهرات التشكيلية المهمّة الخاصّة برسم الوجوه، حيث قدّم الفنانون المشاركون من خلالها خمسةً وثلاثين عملاً في فن البورتريه. يعتبر فن البورتريه واحداً من الفنون القديمة التي لجأ إليها الإنسان عبر العصور، وذلك بسبب ما للوجه من رمزيّة عالية في حياة الناس، فالوجه هو مرآة الجسد، حيث تطفو على سطحه الأحاسيس والمشاعر. في العصور القديمة انصبّ عمل الفنّانين على رسم وجوه معروفة، لشخصيّات دينية وفنية وسياسية، ثمّ ما لبث الفنانون، أن طوّروا الفكرة ليبثّوا من خلال الوجوه التي يرسمونها أفكارهم وتصوّراتهم، حتى أصبح رسم الوجه جزءاً من حرفة التشكيل، بكل ما تحمله هذه الحرفة من إشراق وابتكار وإضافة. شارك في هذه التظاهرة من الأردن الفنانون: عدنان يحيى، عمار خماش، بدر محاسنة، فؤاد ميمي، محمد العامري، محمد نصر الله وهاني الحوراني. من العراق شارك كلٌّ من: بلاسم محمد، سيروان باران، ووَسَن الكعبي. من سوريا: خالد المز، عمر الأخرس، سهيل بدور. من مصر: عياد النمر. من السعودية: تغريد البقشي. أمّا الفنانون والفنانات المشاركون والمشاركات من أوروبا، فهم: إيريك فورموي (النرويج)، مونيك فان ستين (هولندا)، كونراد روسيت، غيم تيو، هارتز، سيرجيو لونا (إسبانيا)، ستيفان فيلافان، ديدي ديامة (فرنسا)، لانتامو (ايطاليا)، وأخيراً سيزار بيوجو من (كولومبيا) والذي يقيم حالياً في أوروبا. في هذه التظاهرة اختلطت الأعمال الفنية الأردنية بالأعمال العربية والأوروبية، وتجاورت، لتشكّل فيما بينها نوعاً من الحوار الإنساني. وفي مثل هذه الحالة فقد تعدّدت التجارب الفنية وتنوّعت، تبعاً لتعدد المدارس الفنيّة التي تنتمي إليها، حيث التقت الوجوه الواضحة ذات الملامح الواقعية التي تقترب أحياناً من الفوتوغراف، بتلك الوجوه الغرائبية المجرّدة التي تنتمي إلى الرمزية والسوريالية. على صعيد آخر فقد حملت تلك الوجوه شيئاً مما يدور في بلدانها، ففي لوحة التشكيلي الكولومبي سيزار بيوجو تبدو الملامح الصامتة لوجه الهندي الأحمر، تلك الملامح التي تشير إلى معاناة ما تطحن حياة الإنسان هناك. في عمل التشكيلي السوري عمر الأخرس نلمح مقدار القسوة والألم الذي يطفح به الوجه، حيث الخطوط صلبة وقاسية، والعينان جاحظتان ومحمرّتان، وأصابع الكفّ تطبق على الفمّ، كأنها تحاول أن تكتم الصرخة التي تتلجلج في الأعماق. وربّما كان في هذا الوجه ما يشير إلى أجواء القمع والاضطهاد التي يتعرّض لها الإنسان السوري. في عمل الفنان العراقي سيروان باران نلمح أيضاً وجهاً منتهكاً، مجلّلاً بالألم، لكنّ صاحبه على الرغم من ذلك يتماسك، ويلوّح بعلامة النصر. وكأنّ اللوحة تحاول أن تقدّم تصوّراً ما للزمن العراقي الجديد. في جزء غير يسير من اللوحات انصبّ عمل الفنانين على التّعامل مع الوجه، باعتباره مدخلاً للمغامرة الفنيّة، إذ لم تكن هناك ملامح واضحة ومحدّدة، لتشير إلى وجه بعينه، بقدر ما انتقل الفنانون بالوجه ليستوعب فيوضات الأعماق، وليتكشّف آخر الأمر عن تشكيل جديد ذي طبيعة وظلال مختلفة. تتّضح هذه التّحوّلات في التعامل مع الوجه أكثر ما تتضح، في أعمال الفنان الأردني محمد العامري، الذي ابتكر في السّنوات الأخيرة أرضاً خاصّة للوحته، بحيث باتت الأعمال التي يرسمها ذات ملامح أسلوبية معروفة ومميّزة. اللوحة التي يرسمها العامري لوحة مسكونة بعناصر الطبيعة بما فيها من تراب وسماء وماء ونبات. في البورتريه الذي يرسمه العامري ثمّة ذهاب إلى هذه العناصر، وشغل حثيث عليها. من هنا يتّحد الوجه بعناصر الطبيعة، ويتبدّى لنا من خلال اللوحة ذلك الوجه العظيم الذي هو أقرب إلى الوجه الأسطوري. تجربة الفنان الأردني محمد نصر الله التي فرضت حضورها الطاغي في الساحة الفنية الأردنية، كان لها حضورها الخاص أيضاً في هذا المعرض، فقد رسم محمد هنا على عادته الوجه بألوانه الترابيّة، وقد أهمل فيه معظم التفاصيل، باستثناء تلك العين النائمة والمطبقة على الحلم. طبعاً ثمّة إحساس بالقداسة ينتابنا تجاه الوجه الذي أمامنا، الذي هو بالضرورة وجه شهيد. في الاتّجاه ذاته يمكن مقاربة لوحة الفنّان الفرنسي ستيفان فيلافان، الذي رسم وجهاً مقنّعاً، هو أقرب لمنحوتة صمّاء من الحجر الأبيض المشرَّب بحمرة، لا نكاد نتبيّن منها سوى العينين المشغولتين بالتحديق. طبعاً، أضاف الفنان لطختين من الأزرق السّماوي، كقبّعة ورداء للرجل صاحب الوجه، ثمّ لوّن الخلفية باللون الأسود الداكن، وهذا مما أبرز حضور الرجل. في ظلال المشهد القائم للوجه، أو ما نظنّه وجهاً، يتبدّى واضحاً التناغم اللوني أو الموسيقى اللونية المتدفّقة من عناق الألوان (الأزرق، الأبيض، الأسود)، وهذا هو بالضّبط ما حاولت اللوحة الوصول إليه، أمّا الوجه نفسه فيمكن للفنّان ألا يكون قد وضعه في الحسبان! في هذا الإطار يمكن الحديث عن لوحة الفنان السوري سهيل بدور، الذي لجأ إلى تجريد شَخْصَيّ لوحته بحيث باتا على هيئة لعبتَي أطفال. واحدة تمثّل بنتاً، والأخرى تمثّل ولداً، فيما هما يقفان وجهاً لوجه في لقاء خاص وحميم. الحيرة التي في العيون، والصمت الذي على الشفاه، ربّما كان هو الوتر الذي يعزف عليه الفنان لوحته. على الطّرف المقابل، ثمّة لوحات تعاملت مع الوجوه تعاملاً واقعيّاً، قريباً من أجواء الفوتوغراف، ولكنّها تميّزت بإضافات جمالية خاصّة، نذكر منها هنا لوحات الفنان الإسباني كونتراد روسيت ولوحات الفنانَين الأردنيَّين فؤاد ميمي، وهاني حوراني. ففي حين نرى التّقشّف الطاغي في الخطوط والألوان عند روسيت، فإننا نرى البساطة المربوطة بقضية عند ميمي، فالوجه الذي يرسمه يعبّر عن بعد طبقي. أمّا الفنان الأردني هاني الحوراني وعلى الرغم من الطابع الواقعي الذي انطلق منه في رسم لوحته، إلا أنّه وبواسطة موهبته الفذّة، استطاع أن يحلّق بالوجه الذي رسمه في سماء البذخ والسّحر. فالإضاءة المدهشة في اللوحة، والتفاصيل القديمة التي استعادت حضورها في المشهد كالعقال والخنجر والكِبر والعباءة إلى أدق المنمنمات، كلّ ذلك جعل اللوحة تفيض بالجمال والسّحر. بقي أن نتناول عملاً مختلفاً هنا للفنّان التشكيلي الأردني عدنان يحيى، والذي هو عبارة عن مجسّم لرأس إنسان، يرفع وجهه إلى أعلى ويصرخ، فيما فمه المفتوح على اتّساعه مقيّد بقطعة من القماش، هذا إلى جانب أصابع يده المشرعة بجانب الرأس. لكأنّ الفنّان يحيى هنا أراد أن ينقل صدى ذلك العذاب المستحكم في داخل الإنسان الفلسطيني والعربي بشكل عام هذه الأيام، والذي ينفلت على شكل صراخ عظيم مجلجل. يلفت أنظارنا هنا الجزء الذي يبرز أكثر من غيره، والذي يتمثّل بالفم الذي ينفتح ويصرخ على الرغم من الرباط الذي يقيّده، وفي تصوّري أنّ يحيى استطاع أن ينقل إلينا من خلال مجسّمه هذا الإحساس بالقهر والألم الذي ينتابنا في غياب الحرية. لعلّ هذا المعرض هو من المعارض الاستثنائية التي تقام في الأردن، وذلك لكثرة الأسماء التشكيلية المميّزة المشاركة فيه، ثمّ لتنوّع التجارب العربية والأوروبية التي جاءت لتلتقي وتتحاور في صالات المعرض، وهذا مما يترك أثره الكبير في إثراء المشهد التشكيلي الأردني والعربي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©