السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
علوم الدار

ابتهال: صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم

27 يونيو 2016 13:46
شرابٌ راق لي شرابٌ راقَ لي منْ غير ساقي *** لِمُترعةٍ تُدارُ منَّ المآقي عجيبٌ أنَّها رَقَّتْ وراقتْ *** مُخبَّأةً منَ الحِقَبِ العتاقِ وأغلىَ سعرها ما بانَ منها *** فهلْ منْ سالفٍ منها وباقي وإنَّي عندَ ذكرِ اللهِ أشدو *** بها لأخفَّ منْ بَرحِ اشتياقي تباركَ خالقُ الأكوانِ رَبَّي *** بمنهجهِ اعتقادي واعتناقي برأتُ إليهِ منْ شكَّ وكُفرٍ *** بِنِعمَتهِ ومنْ أهلِ النَّفاقِ وفي هذا الزَّمانِ بدَتْ أمورٌ *** بها خَرَجَ الأنامُ عنِ النَّطاقِ إلهي أنقذِ الإسلامَ منها *** فقد أمسىَ يُلاقي ما يُلاقي لَجأتُ إليكَ يا ربَّي وإني *** بهديِ المصطفىَ أبداً لِحاقي فأصلِحْ حالَنا وأمننْ بلطْفٍ *** وجَنَّبْ أمتي طولَ الشقَّاقِ شرابٌ راق لي.. أقصى حالات الانسجام في حبّ الله محمد عبدالسميع (أبوظبي) على أنغام (مفاعلتن مفاعلتن فعولن)، تهتزّ النفس طرباً وتعيش في أقصى حالات الانسجام في حبّ الله، ففي الواقع، نحتاج إلى أن نبلغ أعلى درجات التصوّف في حبّ المولى، ونحتاج لذلك إلى أن نبدع أجمل القول وأعذب الكلمات لنعبّر عن حقيقة هذا الحب وانثيالاته، ومن منّا لا يهتزّ وجدانه وهو يردد مع صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، هذا المطلع المسبوك بتلقائيّة تجعله يحفظ فيتردد على الشفاه: (شرابٌ راق لي من غير ساقي/ لمُترعةٍ تُدار من المآقي)، وفي هذا المستهلّ الذكي الآسر نحن أمام حالة إبداعيّة تحمل فكرة نسيان كلّ شيء في حضرة الله، إنّه شرابٌ لا منكرٌ فيه أو عصيان، شراب الحبّ والتهوّم في ملكوت الحبيب، وإنّها الكأس التي تُترع حتى تفيض جوانبها، إنّها كأسٌ حلال، كأسٌ تأخذك إلى عوالم وملكوت هنيئاً لمن عاشها، إنّها فيض الدموع الذي يملأ الكأس، فيختلط الحبّ بالخوف واللهفة بالاشتياق. تصريعٌ موفّق لسموّه، وانزياحات شعريّة غاية في البلاغة، ولعمري إنّ من البيان لسحراً، السحر الحلال، والخمر الحلال، والعسل المصفّى الذي عوّدنا عليه سموّه. إنّه المعنى الذي يغريك شكله لتغوص إلى ما لم تبلغه من قبل، وإنّ هذه التورية لدى صاحب السموّ الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم لتستحقّ أن تُدرّس، إذ فارقت بين السُّكْر الحلال والسُّكْر المشين الذي يذهب بعقل صاحبه ويضلّ به، لكنّ العقل هنا مبررٌ أن يتيه، بل يحتاج إلى لحظاتٍ على الأقل ليضيع في هذا الملكوت الذي يدعونا إليه سموّه. ولنكمل القصيدة، أو الابتهال، ولا فرق، فكثيرٌ من القرّاء يحسب الابتهال كلاماً عاديّاً لا تأثير فيه، أو هو لا يجذب، أو هو فقط للوعظ المباشر والإرشاد الجاف من غير تحببٍ أو تأثير، لكنّنا ونحن نقرأ: (عجيبٌ أنّها رقّت وراقت/ مخبّأةٌ من الحقب العتاقِ)، ندرك كيف يبدع سموّه في الغوص إلى الجوهر وتوفير الشكل المواتي لهذا المعنى: كأس مُترعة، وتلك غاية النشوة الربانيّة، وهي كأسٌ رقّت وراقت، ولنلاحظ ما بين اللفظين من تجاور في الحروف وغنىً في المعنى: الرقّة والعذوبة، والصفو لأن تُحتسى، وكلّ ذلك يُضاف إلى الوقع الموسيقي أو جرس النشيد. ثمّ هي كأسٌ معتّقة جدّاً، وكأنّ سموّه يريد أن يقول لنا إنّ هذا الخمر الحلال المعتّق المُجرّب من محبي الله التائهين في ملكوته، إنّما هو خمرٌ غير الخمر، خصوصاً أنّ مصدر قوّته يكون في هذه العتاقة، أما الحِقب، فهو لتأكيد القوّة، ولتشويق القارئ على معرفة هذا النوع الذي يغرينا بالمتابعة والكشف، ولعلّ سموّه هنا وهو يوهمنا بما هو متداول، ويأتي بأوصاف ما هو متداول، ثمّ ينزاح عن ذلك إلى ما هو غير مألوف أو ليس بالسائد، إنّما يظهر لنا عن إبداعات يعرفها كلّ من كان قريباً من الشيخ أو قرأ شيئاً مما أبدع خلال هذه المسيرة. يستمر سموّه في وصف الكأس، وسعرها وقيمتها وسمعتها وتواتر أخبارها وحثّ السابقين اللاحقينَ عليها، والتفتيش عنها وعن مصادرها، ثمّ هو يصرّح بعد كلّ هذا التشويق- وفي التشويق بلاغة- بأنّه ما إن يظفر بها حتى يخفف ما به من ألم البعد وتباريح العشّاق، وفي الواقع، فإنّ كلّ الصفات هذه تحيلنا إلى صفات مألوفة للعشاق والتصوّف، لنكون أمام (تكنيك) يتَّبعه سموّه في توصيل الفكرة بطريقة إبداعيّة موفّقة، نتعرّف إليها في (شدو) المادح وهو يصدح بصفات ذلك الممدوح العظيم. وهكذا، فنحن أمام قارئ مشتاق للمتابعة، وشاعر ذكي حريص على جذب قارئه ومتلقيه إلى أتون هذا النص، ليجعله يعيش الفكرة ويتعرّف عن كثب على صفات الممدوح تبارك عزّ وجلّ، بصفته خالق الأكوان، وهادي الناس، فنحن نعتنق الرسالة السمحة ذاتها التي أخرج بها في ذلك اليوم الناس من الظلمات إلى النور. لكنْ، مهلاً، لا بدّ أنّ لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم هدفاً ذكيّاً آخر، يقتنص له شيئاً من مساحة هذا الابتهال، ليبرأ إلى الله مما آلمه وأهمّه، وهو هذا العصر الذي أصبحت فيه الأهوال والهموم تتكالب على الناس، ولا يجدي معها غير الوقوف بباب الله، كما يفعل سموّه في كلّ ابتهالاته وأناشيده على الدوام. إنّه هدفٌ سياسيٌّ بحت، لكنّه مبررٌ، إذ يطلب سموّه من ربّه بكلّ محبّةٍ وخضوع أن ينقذ الإسلام من أهل الإسلام، وهو ما لم نعتده من قبل، وبات أمراً نعيشه في ما يجري في المنطقة من غريب الفهم وخطأ التطبيق و(تسييس) هذا الدين، فكأنّ مواجهة الإسلام الخطر الخارجي أهون بكثير من مواجهته الخطر الداخلي، الخطر الذي يأتي ممن يقرأون هذا الدين السمح الوسطيّ على غير حقيقته. إنّه الشقاق الذي أشار إليه سموّه، حيث النفاق والشقاق ما إن يلتقيان حتى يوقعا الأمّة في منزلقٍ خطير نعوذ بالله من أن نصل إليه أو أن يستمر. وبعد، فهذه أبيات طيّبة وذكيّة، مغرية بالمتابعة، صاغها شاعرٌ خبير بالمعاني والأفكار، فكأننا أمام غوّاص يمخر عباب البحر ليعود لنا بالنفيس الغالي الذي لا ولن يخبو بريقه مدى الدهر.  
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©