الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

«التريلاّ» يقدم قوة الفساد وسط إدمان الذل عند الضحية

«التريلاّ» يقدم قوة الفساد وسط إدمان الذل عند الضحية
22 مارس 2013 00:09
إبراهيم الملا (الشارقة) - كان اليوم الرابع من أيام الشارقة المسرحية في دورته الثالثة والعشرين مغايرا للأيام الثلاثة التي سبقته، أولا من حيث عودة الحياة والحيوية للمسرح الرصين والمتماسك الذي يحتفظ بإيقاعه التصاعدي منذ الدخول في أجواء العرض والتواصل معه روحيا حتى بعد الخروج من الصالة، وثانيا من حيث توافر الزخم الأدائي الذي شارك في توهجه كوكبة من الفنانين الإماراتيين الموهوبين الذين تعاملوا بشكل متقن مع مضامين النص، ومع رؤية المخرج واقتراحاته الفنية الجديدة والمختلفة عن السائد المسرحي في المكان، وكل ذلك وسط منظومة متناغمة من التعابير المسرحية الساعية لجذب المتفرج وإشراكه حسيا وذهنيا في لعبة العرض بمستوياته المتعددة الحالات والأمزجة والاختبارات الجمالية. هذه المقدمة الاحتفائية يستحقها دون شك عرض «التريلاّ» الذي قدمته فرقة مسرح عجمان الوطني، مساء أمس الأول على خشبة قصر الثقافة بالشارقة والذي جعل جمهور الأيام يتنفس من جديد هواء المسرح المفتقد منذ انطلاقة المهرجان. النص يرتكز نص «التريلاّ» الذي كتبه إسماعيل عبدالله قبل أربع سنوات ــ ولم يترجم على الخشبة لأسباب إنتاجية وفنية عديدة ــ على فكرة التلذذ بالخنوع، حيث يكون إحساس التبلّد والخدر عند الضحية إحساسا أشبه بالإدمان على الذل، واعتباره حالة قدرية ووجودية لا تستلزم المقاومة، أو على أقل تقدير لا تستلزم الوعي بها والتفكير في نتائجها الكارثية مستقبلا. ومنذ دخول المتفرج إلى صالة العرض يبدأ تماسّه المباشر مع أجواء التغييب الذهني التي يقحمه المخرج في هذيانها وهلاوسها البصرية والحسية المتشكلة من ضباب وأدخنة وإضاءة مخادعة على الخشبة، وعلى أطراف الصالة نرى عددا من الممثلين المخدرين وهم يرتدون ملابس بالية ويوزعون على الجمهور لفافات معدنية صغيرة أشبه بالممنوعات التي يتم تسليمها خلسة في دهاليز عالم الجريمة. العرض بعد هذا التمهيد المقلق والمبهم تتردد عبارة : «اصحى يا نايم» على شكل غناء جماعي صادح، يخفت تدريجيا مع ظهور أولى ملامح السينوغرافيا وازدياد مساحة الإضاءة الشبحية المتهادية على الخشبة، حيث نرى ما يشبه المنطقة السكنية المعزولة نوعا ما وعلى جانبي الخشبة تكوينات ديكورية ترمز لمنزل يبدو أكثر رفاهية من المنازل الأخرى في المنطقة، ونتعرف على أولى الشخصيات الرئيسية في العمل وهو جمعان (الممثل مروان عبدالله صالح) وهو يتحدث مع زوجته (الممثلة إلهام محمد) حول خططه الشيطانية بتحويل أعضاء مجلس الأمناء في بلدته إلى وسائل تكميلية وألاعيب ودمى يلهو بها كما يشاء، ويستغلها لخدمة مصالحه الشخصية، وجشعه الذي لا يتوقف في التسلط والثراء، اعتمادا على مواهبه الداكنة المتمثلة في الخبث والدهاء وتخدير أبناء البلدة بالوعود والشعارات الرنانة والكاذبة. ومع الإعتام الكلي للخشبة تتكثّف الإضاءة في الجانب السفلي منها والملاصقة لجمهور الصف الأمامي، حيث نستمع للراوي الذي يحمل طبلته ويردد مثل المسحراتي جملة : «اصحى يا نايم» وكأنه يحذّر الجميع من أمثال جمعان وأشباهه من الانتهازيين والمراوغين والمتسلقين الذين ينتشرون كالفطر في كل مكان، ويعيثون فسادا وظلما على كل أرض يطأؤونها. في المشهد التالي ينقلنا المخرج إلى مستوى آخر تمتزج فيه الكوميديا الحاضرة بالسوداوية المتخفية، والسخرية القائمة على الارتجال والمفارقات المشهدية، بالمرارة الداخلية المغلّفة بالتجاهل والانشغال براهنية اللحظة وعبثيتها أيضا، تتشكل هذه الفضاءات (الغروتسكية) في صلب العرض وهوامشه من خلال الحوارات والنقاشات التي تجمع مجلس أمناء المدينة، حيث يمثل كل واحد منهم شريحة اجتماعية ما أو توجه فكري وتخصص مهني معين، فهناك رجل الدين الذي يمثله هنا الفنان إبراهيم سالم، ورجل الأمن المتقاعد (الفنان موسى البقيشي)، وهناك أيضا التاجر والواشي والمعاق جسديا وغيرهم، حيث نراهم بهيئاتهم الكاريكاتورية وهم يتحاورون حول شؤونهم الخاصة وشؤون البلدة وعلاقتهم مع جمعان الذي يقررون الخلاص منه، ولكن في مرة نرى جمعان الداهية وهو يكشف خططهم ويمعن في إذلالهم واستمالتهم واستدراجهم إلى فخاخ أنيقة يصنعها بمكر وخفة لا تظهر نتائجها إلا في نهاية العرض، عندما يعدهم بأن مسؤولا كبيرا سوف يزور البلدة، ولن يلبي مطالبهم إلا بعد تقديمهم لبعض التضحيات ومنها أن يقدموا استقالتهم الجماعية تعبيرا عن نواياهم الصافية وحرصهم على المصلحة العامة، مع وعود أخرى من قبل جمعان بأن هذه الاستقالات ستهبهم منافع أكبر عندما يعاد تعيينهم في المجلس وبمزايا أكبر نظرا لعناصر الإخلاص والخبرة والحكمة التي يتمتعون بها، وفي اللحظة المنتظرة لوصول شاحنة المشاريع إلى البلدة، نرى أن الشاحنة التي تصاب بعطب مفاجئ تكون مليئة بعبوات الحشيش المخدرة، التي يستغلها جمعان في النهاية لتخدير أعضاء المجلس ومعهم أبناء البلدة، وتحويلهم إلى مهرجين وعاطلين وفوضويين أمام مرأى ومسمع من المسؤول الكبير الذي تنطلي عليه حيلة جمعان، المستفيد الأول والأخير من عوائد الخديعة المهيمنة على المكان والتي لم تجد أحدا يزيحها ويزيل غشاوتها عن بصره وبصيرته معا. يختتم العرض بعبارة تحذيرية أخيرة، تتلاشى هي الأخرى في دخان الهذيان وغبار الغفلة، يقول فيها الراوي أو المسحراتي المنهزم والماضي في طريق الظلمة والشتات: «يا نايم خلك نايم ، يمعان حلب الغنايم». انطباع استطاع عرض «التريلّا» أن يوغل وبجرأة سردية وأدائية في كسر الحاجز الوهمي بين الخشبة والصالة من خلال بثّ التأويلات الصادمة رغم طابعها الفكاهي، وتوجيه رسائل إدانة رغم التنويعات الفرجوية المتخففة من عبء المباشرة والقصدية، وتمكّن المخرج بذكاء وعلى الطريقة (البريختية) أن يجعل الأداء التمثيلي ممتزجا بالمؤثرات التقنية، خصوصا عندما كان الممثل مروان عبدالله يوجه بقع الإضاءة إلى مكان وجوده على حيز الخشبة، في تعامل حرّ وعفوي بين الممثل ومكونات العرض، وكان الجمهور جزءا أصيلا هو الآخر من هذه المكونات عندما سلطت عليه الإضاءة كاملة من عمق الخشبة، وكأن هذا الجمهور بات شريكا أساسيا في اللعبة المسرحية الدائرة أمامه وحوله وفيه، إمعانا من المخرج في المزج بين الواقع الحاضر والآني، وبين الوهم المتبخّر والمتطاير لعرض مسرحي سوف ينتهي بالتأكيد، ولكنه سيظل مقيما ومنتشرا ومتسللا في لاوعينا، وفي قضايا تسوّر عالمنا وتوجعنا، ولكننا نهملها بحكم العادة والتكيف وتغييب العقل وإلغاء دوره في الجدل والنقاش والمواجهة. الممثلون أحالوا أجواء الخشبة إلى كرنفال أحاسيس و«التريلاّ» كإيحاء لفظي يستدعي الضخامة والقوة والثقل، وهو الأمر الذي كان مطبوعا بقوة على ملامح العرض وحضوره الكبير في الصالة، عندما قّدم لنا وببذخ مشهدي مزيجا من نص محكم وجريء كتبه المؤلف إسماعيل عبدالله، وأخرجه بجرأة تنفيذية أيضا الكويتي الشاب محمد الحملي في أول أعماله المسرحية خارج دولة الكويت، أما الممثلون الذين وصفهم الفنان القطري غانم السليطي بعد نهاية العرض بأنهم (بلدوزرات) المسرح الإماراتي، وهم : إبراهيم سالم، ومروان عبدالله صالح، وموسى البقيشي، وجمال السميطي، وسالم العيّان، وفيصل علي، فرأيناهم على الخشبة وهم يحيلون أجواء العرض إلى كرنفال من أحاسيس متداخلة ومتصادمة وبرّاقة ومعتمة وشفافة وجارحة، اعتمادا على متطلبات ولوازم واجتراحات كل مشهد وكل تفصيلة سردية مستقلة في البنية العامة للحكاية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©