السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أنساك

أنساك
2 يوليو 2008 23:46
يلاحظ القارئ لكتاب السريّ الرفاء الذي مازلنا نتملى شعريته الوضيئة أن الجزء المتصل بظواهر الجمال النسائي في المحبوب كان موزعا بوضوح على محاسنه، أما الجزء الخاص بالمحب، وهو يتعلق بحالات الشعور وموجات العواطف وأسرار القلوب، فهي بطبيعتها متداخلة مكرورة، مما جعل المصنف يعدل عن التقسيم، ويترك للتداعي الحرّ أن يتحكم في مجرى سرد المقاطع والأبيات دون قيد، فهو مثلا يورد قول ديك الجن: حبيبي مقيم على نائه وقلبي مقيم على رائه حنانيك يا أملي دعوة لمن صار رحمة أعدائه سأصبر عنك وأعصى الهوى إذا صبر الحوت عن مائه ويورد بعده قول الأحوص: وما أنسىَ مِ الأشياء لا أنسى قولها تقدّم فشيّعني إلى ضحوة الغدِ فأصبحت مما كان بيني وبينها سوى ذكرها كالقابض الماء باليد فديك الجن يتلاعب بكلمات النأي والرأي بتسهيل الهمزة عسى أن يسهل الله له ويحنن عليه قلب محبوبه، وقد صار مثار شفقة أعدائه، ثم يعد نفسه بأنه قد يصبر على الفراق إذا صبر الحوت عن الماء· أما الأحوص فهو يتشبث بالذكرى بعد لقاء مشبع كان يود له أن يدوم، فلا يلبث أن يجد الذكرى تتسرب منه كما يتسرب الماء من قبضة اليد· وربما كان الجامع بين القطعتين هو عنصر الماء الذي يرد في صيغة ''صبر الحوت عن الماء'' مثلما نراه في ''كالقابض الماء فى اليد'' وهما صيغتان مميزتان مما يثبت في ذاكرة الشعر ويجعل ماءه ساريا في اعطائه· لكن يبدو أن هذه الذكرى تلحّ على شعور مصنف الكتاب، فيورد لها شاهدا طريفا مثيرا للتأمل من قول الخليع: مالأني أنساكِ أُكثر ذكراك، ولكن بذاك يجرى لساني أنت في القلب والجوانح والنفس وأنت الهوى وأنت الأماني كل عضو مني يراك من الوجد بعين غنيّة عن عيانِ وإذا غبت عن عياني أبصرتك مني بعين كل مكان ويطيب لنا أن نلاحظ أمرين على هذه المقطوعة الشيّقة: أولهما: أنها تصل في تمثيل حالة الشهود التي يستغرق فيها المحبّ إلى درجة عالية من الإتقان التصويري؛ فقد انهمر متدفقا في تعداد حالات حضورها في القلب والجوانح والنفس، بحيث أصبحت هي كل الهوى وعين الأماني، لينفذ من ذلك إلى أنه صار يراها وجدًا بكل جزء فيه، حتى أصبح غنيا عن البصر وحلّ في الأمكنة التي تحتضنها، ولابد لنا أن نلاحظ العلاقة الحميمة بين هذا الخطاب الغزلي والخطاب الصوفي في العشق الإلهي المشبع بتجليات منه· أما الأمر الثاني، فهو أن شعراء المدرسة الرومانسية، خاصة ممن تغنى بشعرهم الملحن أقطاب الغناء في العصر الحديث، ولنتذكر الشابي ورامي وناجي وغيرهم، كانوا ينهلون من معين هذا الشعر وهم يتمثلون حالات الوجد ويتفننون في تمثيلها، دون أن يكون القدماء رومانسيين نتيجة لذلك، أو يكون المحدثون متصوفة؛ لأن فوارق التيارات هي التي تجدد أساليب الشعر مع تواصل مائه الدافق عبر العصور·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©