الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مكائد الخيال العربي

مكائد الخيال العربي
2 يوليو 2008 23:38
في مطلع القرن الماضي كتب أبو القاسم الشابي كتاب ''الخيال الشعري عند العرب'' ودرس فيه الشعر العربي عبر مختلف عصوره ووصل إلى نتيجة في منتهى الخطورة عبّر عنها قائلا: ''إن الخيال العربي أجدب كالصحارى التي نما فيها وتدرّج'' وكلّ ما أنتجه الذهن العربي في مختلف عصوره··· ليس له من الخيال الشعري حظ ولا نصيب وهو مجرد صناعات لفظية''· كان الشابي، مثل أبناء جيله من التحديثيين العرب، مأخوذا بمنجزات المدرسة الرومانسية الغربية· لذلك جاءت قراءته للقديم العربي في شكل محاسبة متوتّرة عنيفة تنشد التملّص من القديم العربي الذي تعدّه عقبة كأداء في وجه كل عمليات التحديث· وعلى هذا الدرب سار ميخائيل نعيمة فجزم في كتاب ''الغربال'' بأن الثقافة العربية ثقافة يباب ولا وجود في صحرائها لأي بقعة خضراء· لذلك صارت مسألة قراءة الذات في ضوء منجزات الغرب ومقرراته بمثابة صراط ظل يجتذب الفكر العربي جيلا بعد جيل· وتتالت الأطروحات حول العقل العربي وقصوره والخيال العربي وسطحيته والفكر العربي ووثوقيته· صحيح أن تاريخ الشعر العربي كان تاريخ هبوط ومرارات· إذ حالما تأسست الدولة صار رزق الشاعر بيد ممدوحيه وتحوّل الشعر أحيانا كثيرة إلى سلعة وفقد ماءه وطراءته· لاسيما بعد أن شدّد المنظّرون العرب القدامى على أن للشعر الذي أولوه عناية فائقة غرضين هما مدح الخصال الممدوحة للحثّ عليها وهجاء الخصال المذمومة للتّنفير منها· وبذلك أقصيت الذات المبدعة من نتاجها واختزل الشعر في جانبه النفعيّ وكفّ عن كونه فِعْلَ وُجُود ليصبح مجرّد نظم وصناعة وإنشاء· لكن هذه الأطروحات لا تتفطّن إلى أن للثقافات مكائدها وقدرها الفائقة على تجديد نارها وابتداع بدائلها· فالخيال الذي هجر الشعر أو كاد في التاريخ العربي انتقل إلى فنون أخرى نثرية بالأساس· يكفي هنا أن ننظر في فنون السرد العربية ولا سيما النصوص المُهمّشة التي جاءت تكرّس الانشقاق على التدجين وسندرك أنها خرجت على مقررات المنطق واستسلمت للحلم لأن الحلم هو الذي يمدّ الكلام بامتداداته ومقدرته على تحطيم الحدود وتخطّي مقرّرات العقل دون أن يفقد مصداقيّته· فيتشكّل الحكي مأخوذا بالأقاصي، جامعا إلى البديع العجيب، وإلى الواقعيّ الخياليّ· ويظلّ، رغم استحالته، قابلا للتصديق ومجسّدا افتتان الفكر بالمستحيل والمجهول والمفارق· وما امتثال السّارد في ''ألف ليلة وليلة'' وفي كتب المناقب والسّير والتصوّف وكتب الرحلة، لفتنة الكلام وإمعانه في التّعجيب إلاّ التجسيد الفعلي للطريقة التي تفكّر بها الثقافة في نفسها وتحْلمُ ذاتها وتنجز عبقريّتها· ثمة في تاريخ الثقافة العربية حدث إنابة واستبدال ظلّ يتمّ على مهل· وعلى مهل أيضا نهض الحكي لينوب عن الشعر في التعبير عن الوجدان الجماعيّ والمتخيّل الجماعي ويلبّي الحاجة إلى الجميل والفاتن والعجيب· وجاء السارد لينهض بالدّور الذي كان الشاعر ينهض به قبل أن يتردّى في الاتّباع·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©