الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الدلالات الكامنة

الدلالات الكامنة
20 مارس 2013 21:16
لم تكتسب رواية “يوليسيس” للروائي الآيرلندي جيمس جويس، شهرتها وأهميتها من كونها رواية شيقة بل لأنها كانت رائدة لنسق سردي جديد هو أسلوب تيار الوعي. وقد أفاد من إنجازات علم النفس الحديث وعلى وجه التحديد من تحليلات سيجموند فرويد في مجال اللاشعور وكارل غوستاف يونج بشأن اللاشعور الجمعي. وينطبق هذا تماما على رواية فرجينيا وولف “مسز دلوي” التي اعتمدت أسلوب السرد ذاته، وقد أفادت من رواية “يوليسيس” التي سبق ذكرها. ثمة روائيون عرب حاولوا تجريب هذا النسق السردي وفي زمن مبكر نسبيا أذكر منهم الروائي الكويتي إسماعيل فهد إسماعيل في روايته “الحبل” التي صدرت منذ أوائل السبعينيات من القرن الماضي والروائي عبد الرحمن مجيد الربيعي في روايته “الوشم”. تشي تسمية تيار الوعي وكما هو المصطلح الأوروبي الأصل بأن الفكر البشري لا يتوقف بل ينساب تماما مثل نهر جار وهو يحمل في أمواجه وعلى سطحه كل شيء دون تفريق وبآلية التداعي الحر للمعاني: والمقصود بتداعي المعاني هو إحداث علاقة بين مدركين لاقترانهما في الذهن بسبب ما، وهنا يأتي دور الروائي الفنان كي ينتقي الدال والأكثر إيحاء انسجاما مع نسيج روائي متقن وكما يفترض به أن يكون. تؤكد الدراسات النفسية على صلة اللاشعور أو اللاوعي المختزن داخل الذات الإنسانية بالإبداع الفني الذي يتكون داخل اللاوعي ولكن الوعي ينظمه لاحقا وفي إطار تشكيل أدبي ما. المرتكز السردي وإذا عكسنا هذا على رواية “سمر كلمات” للروائي الكويتي طالب الرفاعي فإننا نجد أن المرتكز السردي الأساس للرواية هو أسلوب تيار الوعي الذي يتماهى مع تقنية الحوار الذاتي: تأمل هذا المقطع من تيار الوعي ومن خلال وعي سمر وهي إحدى الشخصيات الأساس في هذه الرواية: “وحده ضوء المدخل الأصفر كان حاضرا، لا أدري كم استغرقتني السقطة، ربما لأن الوقت كان ليلا لم يشاهدني أحد، تلمست بأصابعي المرتجفة سائلا لزجا فوق كاحلي، حاولت النهوض لكن رجلي ذابتا تحتي، لم تقويا على حملي، أحسست أنني أرتجف بكلي وأنني أنتعل فردة حذاء واحدة، ربما ظلت الأخرى في الداخل أو سقطت في أية زاوية، سدت الغصة بلعومي، شعرت بدموعي تبللني، أسندت نفسي إلى سور المواقف حتى أصل إلى سيارتي، الرجفة اللعينة ما زالت تمسك بي، كل شيء يضج في رأسي، أصوات كثيرة”. يتولى تيار الوعي كشف عالم الشخصية من الداخل، وهذه هي الوظيفة الأساسية لأسلوب تيار الوعي المتوحد مع الحوار الذاتي إذ إن كليهما يقدمان المحتوى النفسي للشخصية ومن داخل الذات ودون الجهر بذلك، حيث تظهر شخصية سمر التي استقطبت بقية شخصيات هذه الرواية حائرة مندحرة إثر طردها من بيت أبيها مما يعني انفصامها عن الرحم الأم الذي كانت تفكر في إطاره وقبل منتصف تلك الليلة التي احتضنت الفضاء الزماني للرواية وعبر اثنتين وعشرين دقيقة استعرضت فيها شخصيات الرواية السبع (سمر، طالب، جاسم، سليمان، عبير، دلال، ريم)، حياة بأكملها بحيث بدت هذه الشخصيات كالمرايا التي يعكس بعضها بعضا ولا تكتمل صور الشخصيات إلا في ذهن القارئ وبعد انتهائه من قراءة الرواية. تقنية «الفلاش» ويتيح أسلوب تيار الوعي لكل شخصية أن تنتقل عبر موضوعات شتى بدءا من زمن الكتابة وفي إطار تقنية “الفلاش باك” أو الخطف خلفا كما عبر مجدي وهبة في كتابه معجم مصطلحات الأدب، إذ تعود الشخصية الواحدة فتستعرض تاريخها كله بحيث يستنتج القارئ رؤيتها لما يجري حولها وطبيعة علاقتها مع بقية الشخصيات داخل الرواية ومن خلال التداعي الحر للأفكار والصور والأحداث لاسيما أن هذه التقنية يمكن أن تختصر أعواما بلحظات قصيرة تماما مثل شريط سينمائي مما يعطي مصداقية لأحداث الرواية وشخصياتها التي ارتكز سردها على هذا النسق السردي وبهندسة دقيقة إذ تحدد زمن السرد باثنتين وعشرين دقيقة تقع في الحاضر بيد أن جذورها تمتد إلى بدايات تشكل هذه الشخصيات ووصولها إلى النقطة التي رصدها الروائي طالب الرفاعي ومهد لها ولم يختمها على غرار القصص الشعبي بل ترك مصائر شخصياته تتشكل في ذهن القارئ وبما يشبه المونتاج السينمائي الذي يرتكز على آلية القص واللصق. ولكي لا يبدو أسلوب تيار الوعي القائم على التداعي الحر للمعاني رتيبا حيث يمكن للرتابة أن تطيح به، بيد أن حضور سبعة أصوات في الرواية مما أعطى رواية “سمر كلمات” طابعا شيقا لاسيما أن الأصوات السبعة للشخصيات مختلفة، وهي تمثل الوجوه الأساس للمجتمع الكويتي، وهذا ما قصده النص وسعى إليه. وفي الوقت ذاته مما أعطى فرصا لأكثر من وجهة نظر: كي يطلع عليها القارئ دون الاكتفاء بوجهة نظر واحدة مع أن وجهات النظر المتعددة تصب بالضرورة في منظور الروائي طالب الرفاعي الذي كان ساردا مشاركا داخل الرواية وهو بهذا لا يختلف عن بقية الشخصيات التي شكلها في روايته هذه كي يفصح عن رؤيته لمجتمعه وبأسلوب ينأى عن المباشرة والتقريرية. سبعة أصوات وحضور سبعة أصوات مختلفة في رواية “سمر كلمات” يحيل إلى تقنية أخرى من تقنيات الفن الروائي وهي تقنية تعدد الأصوات التي ظهرت في روايات مهمة منها رواية “رباعيات الإسكندرية” للروائي لورنس داريل، ورواية “ميرامار” لنجيب محفوظ، ورواية “خمسة أصوات” لغائب طعمة فرمان، وهذه التقنية تحتاج إلى مهارة عالية إذ لا يمكن أن تكون مقنعة للقارئ ما لم يتقمص الروائي شخصيته تماما وأن يتماهى معها ويتوغل في عالمها الخاص ويتحدث من داخلها وفي السياق الاجتماعي والنفسي الذي وضعها فيه دون أن يهيمن عليها بشخصيته هو فتبدو وكأنها نسخة مكررة من شخصية الروائي. وثمة محور مهم يميز رواية “سمر كلمات” وهو هذا العشق الذي يكنه الروائي لشخصياته بحيث يصرح بهذا في سياق الرواية، تأمل قوله: “أنا مسكون بعلاقة الكاتب وتواصله مع أبطاله” ولاسيما مع بطلته ريم التي يصرح بعشقه لها وينتقي أسلوبا شعريا حين ترد صورتها في منولوجه الذاتي: “صباح الخير، ما كدت أصدق عيني حين أبصرت رقم المرسل واسم ريم، مطر بللني، صباح الخير، احترت لا أدري ماذا أفعل، صباح الخير أية جملة هذه؟ صباح الخير أي معنى وأي أمل يكمنان خلفها؟ ملايين المرات سمعتها لكن ما بالي هذه المرة لا أستطيع الجلوس والثبات في مكاني؟ كيف لكلمتين أن تهزا قلبي؟ كيف لكلمتين أن تبعثا الدم في عروقي؟ كيف لكلمتين أن تنشرا البشر في وجهي وعيني؟ كيف لكلمتين أن تحملا قلبي على الخفق كما الورقة؟ كيف لكلمتين أن تبثا سكرا في ريقي؟”، ويرد في منولوج ريم: “الليلة سأمارس مع طالب حبا مجنونا، حبا ظل ينضج منذ قرابة السنة، الليلة سنلتقي وقد جهزت جسدي”. أليس في مثل هذه العلاقة الحميمة شيء من بجماليون النحات الإغريقي الذي هام عشقا في جالاتيا فتاته التي نحتها بيده ودعا إلهة الحب فينوس كي تبث الروح فيها، فمن المؤكد أن طالب الرفاعي يعي هذا ويقصده ويسعى إليه عبر هذا العشق الذي يحمله لريم. الشرق والغرب أفادت رواية “سمر كلمات” أيضا من شخصية ريم باتجاه آخر، ذلك أن ريم نموذج لزواج بين الشرق والغرب، فأبوها كويتي وأمها أوربية وهذا يجعلها ذات نكهة خاصة على صعيد شكلها وأفكارها. ترد صورتها من خلال منولوج طالب الرفاعي داخل الرواية “تصورت نفسي للحظة أنني في حضرة عارضة أزياء أوروبية، ريم أطول بكثير مما تخيلتها، تكاد تكون بطولي، عيناها العسليتان وبشرتها البيضاء وشعرها الأشقر وبساطتها الساحرة.... فاجأني جمالها الطاغي، كان صعبا علي أن أنظر إليها فاضحا لهفتي إليها”. وهنا نستنتج ببساطة أن التفاعل بين العربي والأوربي يمكن أن يثمر حبا وحياة جديدة لاسيما أن الثقافة المشتركة لشعوب حوض البحر الأبيض المتوسط تتبادل التأثير والتأثر منذ زمن الإغريق. تأمل النص التالي المعبر عن هذه الثقافة المشتركة التي تجمعنا بالغرب الأوربي: “في البدء انجذبت لأفكاره، لكن سرعان ما اكتشفت أننا نحب قراءة مسرحيات شكسبير وروايات دستويفسكي وأعمال ماركيز ونعشق رواية الصخب والعنف للكاتب الأمريكي وليم فوكنر، وأفلام مارلون براندو وجاك نيكلسون ........”، فيتبين لنا أن هذا الفن النابض ملك لأمم العالم كافة وأنه يمكن أن يقرب بين الشعوب. وقد ضمت هذه الرواية زخما من أعلام الفنون والآداب والثقافات ولاسيما عبر تيار وعي طالب الرفاعي ذاته. نسق سردي ما نستنتجه بشأن رواية “سمر كلمات” أنها نسق سردي قائم على تطويع أسلوب تيار الوعي وبما يظهر هذا الأسلوب بإهاب جديد وفي سياق تقنية تعدد الأصوات التي أتاحت للرواية أن تضم وجهات نظر متعددة يخرج منها القارئ بانطباع ذي طابع إنساني لا يخطئ أن الحياة تجربة خاطفة ولا مناص من الحرية الشخصية التي تجعل الإنسان أكثر قدرة على أن يحيا الحياة الأفضل، وأما العوائق والقيود فما هي إلا كوابيس لا ينبغي الخضوع لها وإن ظهر بعضها في هيئة المقدس، لأن الإنسان هو الهدف في آخر المطاف ولن ترسخ إلا القوانين التي تكرس الحياة الأمثل. وأما على الصعيد الاجتماعي فقد ناقش بجرأة مؤسسة الزواج وضرورة الوعي بها وتعديل ما يمكن تعديله فيها وبما يتناسب مع ظروف المجتمع الجديد في الكويت وهو مما ينطبق على معظم مجتمعاتنا العربية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©