الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الرسم والكلمات..الصحراء تكمل لغتها في «والبيداء تعرفني»

الرسم والكلمات..الصحراء تكمل لغتها في «والبيداء تعرفني»
27 أغسطس 2009 01:44
هل هو فن جديد أن يجتمع الشعر بالرسم في إضمامة واحدة؟، وقد يتساءل المتلقي: هل تعد هذه الطريقة استكمالاً لأفكار الشعر أو الرسم. أم يصبح الشعر بديلاً للرسم وبالعكس. بل قد نتساءل أكثر، هل يغني الشعر عن الرسم أو الرسم عن الشعر، أم أنهما يصنعان عالماً مشتركاً ينظر إليه من زاويتين مختلفتين في مجمل الخصائص والمساحة والطريقة والأسلوب. الشعر من عصور مختلفة، ضمت إلى حد كبير جميع مراحل تطوره، اعتباراً من العصر الجاهلي حتى العصر العباسي الثاني، متمثلاً بأعلامه الذين عرف بهم العصر نفسه، حتى أصبح الشعر وعصره بديلاً للآخر، أما الرسم ففيه من الحداثة الشيء الكثير، ومن المعاصرة والموروثية الشيء الأكثر. وكأننا نسأل من جديد، ما دام الشعر آتياً من عصور ماضية، بل بعيدة جداً فلماذا؟ وما الجامع بينه وبين فن عزف على وتر الحداثة الشكلية والتمثل الموروثي للموضوعة؟ أعتقد أن خصيصة «الصحراء» هي ما يجمع الاثنين، الصحراء التي عاش فيها الشعر وعرف بها، واللوحة التي تمثل الصحراء فتمثلت أقواماً عاشوا منذ قدم الشعر بل أكثر في هذه الصحراء وظلوا فيها فأنتجوا شعرهم ورؤاهم وأحلامهم وقيمهم حتى أنهم توصلوا لصناعة حضارة. ذلك ما نراه جلياً في كتاب حديث صادر عن هيئة أبوظبي للثقافة والتراث بعنوان «.. والبيداء تعرفني» للفنانة الإنجليزية كارولين بانكروفت. بنية العنوان اختارت بانكروفت أن تمزج الرسم بالشعر الذي روي بالعربية «الأصل» والإنجليزية «ترجمة»، كما اختارت أيضاً هذا العنوان «والبيداء تعرفني» لتحيل الى الصحراء / البيداء وتلاحم العربي «قولاً» بالبيداء «رسماً»، وكأن العنوان «والبيداء تعرفني» يمثل حالتين هما: أولاً: الرسم عبر البيداء والقول عبر الياء في تعرفني كونها إحالة لمتكلم هو الفرد العربي الذي سكن البيداء. ثانياً: الإحالة بالبيداء الى الراهن الإنساني والانتماء الوجودي لذات الفرد قديماً وحديثاً أو باعتبار هذا الإنسان البدوي هو وريث الشعر الذي أنشد في أرضه قديماً كونه ساكن الصحراء حديثاً. «البيداء تعرفني» عنوان اجتزئ من قول أبو الطيب المتنبي: الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم وهو بيت من قصيدة طويلة قالها الشاعر متألماً ومتوجعاً في مقدمتها التي تقول: واحرَّ قلباه ممن قلبه شبم ومن بجسمي وحالي عنده سقم مالي أكتم حباً قد برى جسدي وتدعي حب سيف الدولة الأمم إن كان يجمعنا حب لغرته فليت أنّا بقدر الحب نقتسم قد زرته وسيوف الهند مغمدة وقد نظرت إليه، والسيوف دم وباقتباس بانكروفت هاتين الكلمتين من شعر المتنبي كأنها تشير الى علاقتها الجدلية الوثيقة بالمنطقة العربية الصحراوية تحديداً، وكأننا نجد أن ياء المتكلم في «تعرفني» قد تحولت من لسان المتنبي قديماً الى لوحة بانكروفت حديثاً.. أي انتقال الضمير من اللغة الى المرئي. معرفة بانكروفت، التي عاشت في دولة الإمارات سنوات طويلة، جعلتها تخبر الصحراء واللغة، ففاضت مشاعرها رسماً وتمثلاً، ولم تعط للتقليد مساحة في رسمها، بل منحت الرؤية بعداً في لوحاتها، وحين تبصر التناظر بين البيت الشعري للشاعر العربي وما يقابله من لوحات بانكروفت تستغرب حقاً وتتساءل: ما الذي يجمع هذين الفنين معاً؟ الرسم بالكلمات عرفنا من قبل أن الشاعر العربي أحيا الصحراء لغة فأرخها ورسمها وحدد ملامحها، وساهم في تكوينها عبر تجانس حروفه المتموجة داخل القصيدة كالرمل، كذلك فعلت بانكروفت عندما أحيت عبر لوحاتها ملامح الصحراء ومدنها المحاذية، وكأنها تقول إن تلك الأمكنة التي تحدث عنها شعراء العربية بمختلف العصور لا تزال موجودة، وقد رأيتها «على لسان بانكروفت من خلال ضمير المتكلم في تعرفني الذي تحول الى صورة في لوحاتها». وبعد أن أنجزت بانكروفت عملها هذا في عام 1979 بدأت تحلم بنشره، لذا كتبت تقول: «لا تزخر شبه الجزيرة العربية بالثروات النفطية فحسب، بل بالتاريخ والأدب الثريين، لكن ربما جاء دخولها الى العالم المعاصر شديد السرعة. إذ كان من السهل جداً عدم التنبه الى تراثها المذهل الذي توارى وراء ناطحات السحاب ووسائل الاتصال الحديثة والإيقاع المتسارع للحياة العصرية اليومية». ولكن لماذا الاقتباس من الشعر وتمثله رسماً، ترد بانكروفت: «جميع الشعراء الذين اقتبست من أشعارهم في هذا الكتاب ينتمون الى هذين الحقلين وهما التاريخ والثقافة، وتكشف أشعارهم الغنية بالمعاني الفلسفية بساطة وحكمة لم يقو الزمن على تجاوزها». إرث ثقافي عبر معايشة بانكروفت لعالم الإمارات العربية المتحدة التي نهضت من الصحراء، من لغتها وعاداتها وفضائها لتجلس في أحضان الحضارة بأناقتها وشفافيتها نجد أن هذه الفنانة لم تغادرها هاتان المنطقتان في تمثلها للشعر، إذ تقول: «حاولت من خلال كتابي هذا أن أظهر تقديري للإرث الثقافي الرائع لهذا البلد وشعبه الفريد». التفتت بانكروفت الى أهمية استخدام البيت الشعري العربي الأول في كتابها والذي لابد أن يحفل بعمق دلالي يشير الى حنينها الى الصحراء التي عاشتها، لذا كان عليها أن تستخدم بيت ابن الرومي اولاً: وحبب أوطان الرجال إليهمُ مآرب قضاها الشباب هنالكا وهو البيت الثالث لابن الرومي من قصيدة يقول فيها: ولي وطن آليت ألا أبيعه وألا أرى غيري له الدهر مالكاً إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنوا لذلكا عهدت به شرخ الشباب ونعمة كنعمة قوم أصبحوا في ظلالكا التمثل التصويري قدمت بانكروفت تمثلاً جميلاً في لوحتها المقابلة لقول ابن الرومي حيث رسمت مسجداً ورجلاً وطفلين جميعهم يتأمل منائر المسجد التي تطلق نداءاتها كي يلتم الجميع ويقبلون مع صوت المنادي، وكأن هذا الصوت المنبثق من المنائر هو النداء الذي تراه بانكروفت في بيت ابن الرومي «وحب أوطان الرجال إليهم». تلك الذكريات من زمن الشباب لهذا المكان الذي يجمع الأحبة. اقتنصت لانكروفت النخلة والمآذن والصحراء والفضاء الرحب لتكون مرتعاً للشباب وذكرى للعودة. كما ناظرت بين قول الشعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى: فلا تكتمن الله ما في نفوسكم ليخفى ومهما يكتم الله يعلم ليتحقق نداء المسجد في لوحة ابن الرومي وبيت ابن سلمى من قصيدة طويلة وهي معلقته الشهيرة التي تبتدئ بـ: أمن أم أوفى دمنة لم تكلم بحومانة الدراج فالمتثلم ودار لها بالرقمتين تكلم مراجيع وشم في نواشر معصم وهي قصيدة عودة أيضاً، وذكرى حنين، وخوف من الله، ورغبة في الصفح، قصيدة زهير بكاء على الطفل وتذكر أيام الشباب وحبه لأم أوفى التي لم يبق منها سوى الدمن، وكأننا في هذا المقطع نجد لوحة سابقة للوحة «بانكروفت» رسمها زهير بتأني الشاعر النساج وببراعة العارف حين قال «مراجيع وشم في نواشر معصم» لتقابله بانكروفت بلوحتها التي تشير فيها الى الطفولة في أحضان أمومة فارهة بالحنين. زهير بن أبي سلمى «ربيعة بن رياح المضري» حكيم الشعراء في الجاهلية. أزقة المدن تناولت بانكروفت أزقة المدن الإماراتية القديمة حيث ترى في ظلالها الألفة والحنو والبساطة والتعايش الإنساني الخلاق. رسمت ظلال المنعرجات وحنو الجدران على بعضها الأبواب المتقابلة والسطوح المكشوفة للسماء، مستلهمة في لوحتها الثالثة من أبيات أبي العلاء المعري التي يقول فيها: إذا ما فعلت الخير فاجعله خالصاً لربك وازجر عن مديحك أَلسنا فكونك في هذي الحياة مصيبة يعزيك عنها أن تبر وتحسنا مع المتنبي رابع الشعراء الذين اعتمدتهم «بانكروفت» هو المتنبي صاحب عنوان مجموعتها الفنية «والبيداء تعرفني». اقتطفت بانكروفت من شعر المتنبي قوله: أقل أنل أقطع أحمل عل سل أعد زد هش بش تفضل أدن سرصل وهو بيت من قصيدة طويلة يقول فيها: أجاب دمعي وما الداعي سوى طلل دعا قلباه قبل الركب والإبلِ ظللت بين اصيحابي اكفكفه وظل يسفح بين الغدر والعذلِ أشكو النوى ولهم من عبرتي عجب كذاك كنت وما أشكو سوى الكللِ لعل عتبك محمود عواقبه فربما صحت الأجسام بالعللِ قصة بين الشعر والرسم حاولت بانكروفت أن تتنقل مع الشعراء العرب لتنسج قصتها الخاصة بها في لوحاتها المتعاقبة، إذ مقابل بيت المتنبي نجد ذات الأم وذات الطفل في لوحتها المقابلة لأبيات المعري أو لنقل منذ بدء اللوحة الأولى التي قابلت بيت ابن الرومي. هي قصة الطفل الذي أرجعه الحنين الى قريته على مشارف الصحراء، أرجعه صوت المئذنة، فتنقلت قدماه في أزقة الحي، متذكراً أمه التي تودعه «بأمرية» واضحة هي ذات أفعال الأمر التي وردت عند المتنبي. إنه استغلال جميل للعقل المحرض عند المتنبي، الزاجر في لوحة «بانكروفت» حين رسمت الأم مغادرة منزلها، وذاك الطفل يقف أمام الباب رغبة بلحاقها الذي يواجه بزجر من أفعال تريد أن تبقيه حيث هو. جعلت «بانكروفت» جزءاً من بيت المتنبي يتصدر كتابها فأحسنت الاختيار مطابقة لاختيار الأمّة في مختلف عصورها حين قدمت المتنبي على غيره. وصّاف الصحراء ولأن الشاعر علي بن الجهم وصّاف الصحراء، وسابر أغوار معانيها والمتغزل في صقورها وزعفرانها وبزاتها فإنه غير بعيد عن إلماحة بانكروفت حين تواصلت معه في بيتيه الشعريين هذين: كأنه شعلة نار إذا عاين قبجاً أو خشنشارا أو عربي فاتك ثائرٌ يخاف في تقصيره العارا وهو وصف للصقر من قصيدة طويلة يقول فيها: وقد حملنا كل مستوفزٍ أدَّبه الحاذق واختارا مضطرم تحسبه طالباً عند جميع الناس أوتارا وعلي بن الجهم «أبو الحسن القرشي السامي» من شعراء المتوكل وكان متديناً فاضلاً وعرف بقصيدته الشهيرة: عيون المها بين الرصافة والجسر جلبنَ الهوى من حيث أدري ولا أدري وهي من أرق الشعر العربي التي خرجت من علي بن الجهم الذي كان بدوياً في وصفه وفي حياته. رسمت «بانكروفت» الصقر واقفاً فوق وكره، فارداً جناحيه، ناظراً الى الأفق البعيد كشعلة من نار أو كعربي فاتك ثائر يريد أن يصل الى مبتغاه لا من أجل المبتغى ولكن خوفاً من العار. تبدو الصحراء ممتدة الى ما لا نهاية، خارج إطار لوحة «بانكروفت» عبر نظرة الصقر المستوفز بينما حبل الأقدام يحجمه عن بلوغ الأماني. تنتقل «بانكروفت» من المدينة المحاذية للرمل الى الرمل في الصحراء.. الكثبان البعيدة، والرمل المتدفق في اللوحة والجمال الوطيئة والرجال المرتحلون. الظلال غادرت أماكنها، والسيول انعرجت ومادت فظهرت الطلول وكأنها كتب وزبرُ بدت واضحة الكتابة على صفحاتها أو لنقل مع الشاعر الجاهلي الإسلامي «لبيد بن ربيعة العامري» إنها أشبه بالوشم حيث يقول: وجلا السيول عن الطلول كأنها زبرُ تُجدُّ متونها أقلاماً أو رجع واشمة أسف نؤورها كففاً تعرض فوقهن وشامها وهي جزء من معلقته الشهيرة: عفت الديار محلها فمقامها بمنى تأبد غولها فرجامها حاولت «بانكروفت» أن تقدم هنا صورة مطابقة بين اللوحة والقصيدة، إذ اكتفت بالتعامل في اللوحة مع تموج الصحراء، حيث اشتغلت في عملها على بنية صحراوية كاملة توسعت داخل فضاء العمل بحيث غطت كامل المساحة التصويرية بصحراء لا حدود لها. تنتقل بانكروفت لتعرض قصتها مع الشاعر عامر بن الطفيل وعنترة بن شداد والحارث بن حلزة اليشكري وابن عبد ربه الأندلسي ثم أبي العلاء المعري ثانية وثالثة وطرفة بن العبد وذو الرمة وحاتم الطائي والمتوكل الليثي. وهي في تنقلها معهم ترسم واحة النخيل المحاذية للصحراء حين يأتيها الماء فينحسر عند جذوع النخيل فياضاً وفائضاً وسط نهر متعرج كالعقد على لجين فارع، بما يقابل قول عنترة: سّحاً وتسكاباً فكل عشية تجري عليها الماء لم يتصرم من معلقته: هل غادر الشعراء من متردم أم هل عرفت الدار بعد توهم يا دار عبلة بالجواء تكلمي وعمّي صباحاً دار عبلة واسلمي ثم تنتقل «بانكروفت» الى رسم جموح الإبل وهي تطوي في حركة جميلة ضمن لوحة لها - الصحراء بينما جلس البدوي، لامّاً جسده عند سنام الجمل وهو ممسك بجرير الناقة ليصل بها الى أفق بعيد حيث قال الحارث بن حلزة اليشكري: وترى خلفها من الرجع والوقع منيناً كأنه أهباء والحارث «ت 580 م» من شعراء الفخر حتى ضرب به المثل وهذه القصيدة دفاع عن قومه لتفنيد أقوال خصمه عمرو بن كلثوم، وتقع في 85 بيتاً من روائع الشعر العربي. وتعود «بانكروفت» الى ملاعب الصبا وأزقة الحي القديم والى شواهد البحر المحاذي للصحراء والى السفن عند الشواطئ والمراسي والى حلم الصيد، ونظرة الشادن البعيدة ذلك الغزال المتأمل الحيران المستوفز دائماً. وفي الحي أحوى ينفض المرد شادن مظاهر سمطي لؤلؤ وزبرجد كما قال فيه الشاعر الجاهلي القتيل طرفة بن العبد «569 م». وهي من معلقته: لخولة أطلال ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد وتقف «بانكروفت» مع الشاعر ذو الرمة عندما ترسم وقفة بدوي مع جملين عند شجرة وسط الصحراء: وقفت على ربع لميّة ناقتي فما زلت أبكي عنده وأخاطبه وتعود «بانكروفت» أدراجها ثانية عبر كل هذه الرحلة أو قصة الفتى الذي عاد الى مرابع صباه الى حيث ابتدأت لتختتم كتابها برسمة المسجد الذي نادى على البعيد فأتى الأخير طائعاً.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©