الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القصيدة مسافة فاصلة بين الورقة والغيم

القصيدة مسافة فاصلة بين الورقة والغيم
12 مايو 2010 22:04
لا يكتمل الشعر سوى في النقصان، وإلاّ صار قولاً تاماً ومختوماً، ولا قوام للشعر سوى في الانهدام المتكرر، وإلاّ بات معماراً مصمتاً لا يرن فيه وهج الأصداء والانكشافات، ومن هنا ربما يختال الشعر دائما بمكره ومراوغته وتسربه بن أصابع الغاية والقصد والانتباه، وكأن ثمة جرحاً سرياً يعتاش منه الشعر ويسقي قرب آباره الخفية كل هذا الحطام الكبير الذي نسميه العالم أو الوجود. في ديوان “باب النظرة” لأحمد العسم تتفتح أبواب الرؤية على ما ينفي الرؤية وينسفها أصلاً، لأن الشاعر لا يتوسل النقل والمعاينة والاستجلاب، بقدر ما يأمل في الحلول والنفاذ والإبدال، فالعالم أو الوجود في مدارات الرؤية المباشرة للعسم تطيحه إلى هاويات وجروف تطل على تجربته الذاتية المنذورة للشغف كما للألم، وللذاكرة المضيئة كما لسواد العلة الجسدية. تتخطف قصائد العسم في هذا الديوان الكثير من المخالب الموحشة والمكابدات الموجعة والانشداه الحارق لفراديس الطفولة وانتظار يقظة الموتى في ليل اليأس الطويل، يكتب العسم في قصيدة رثائية لوالده: المدينة مدفن وتحت ظلمتها يتفجر يأس الأيام هذه الصيغة التشاؤمية والمغلقة لا تؤسس لمناخ واحد ومتواصل في ما يكتبه العسم، بل يتخفف الوجع والسواد في جل القصائد كي يتحولا إلى بخار أبيض أو غيمة تغسل التعب، وتزيح النوايا الداكنة، من أجل فضاء ملون، يتسع لشعر أليف ويوفر للعبارة الأنيقة ما يليق بها من مقام ومكانة. لذا نراه في القصيدة ذاتها وهو ينوس في الإبدالات والنعوت كي ينتقل من غصن ذاوٍ ومحترق إلى غصن آخر تضيئه وردة المحبة فيقول: تفوح منك العطور ومنك تخرج اللهفة على ثقة وكلما خف ارتجاف يدي عرفت أن يدك تفتح الحنان في صدري فعلى بعد نظرة من البحر، وعلى جناح الشغف الموصول حتى الجبال، يمكن للجالس مع أحمد العسم أن يتباهى بالمعجزات الصغيرة التي يصنعها الشعر، وله أن يتمتع أكثر بهذا العزف الروحي، الناثر موسيقاه في براري الغرفة، فأن تنصت لأحمد العسم وهو يدوزن قصائده على حجم التعب والشفافية القصوى للوجع، فهذا يعني بالتأكيد أن ثمة سحراً يندلع في الهواء، وأن غزلان كثيرة نفرت من الأحراش ونامت بقربك، فها هنا، في هذه المسافة الفاصلة بين الورقة والغيم، والكتابة والموج، والآهة والذوبان، يمكن لغابة الشوك أن تسجد لوردة، ويمكن لصحراء فائضة أن تذوب في قدح. من فريج (هل ميان) استيقظ ذات ليل وهج شفيف، وتشكل غبار فاتن على هيئة طفل، وعندما صعدت شهقة الرمل إلى منتهاها، كان الشعر وارفاً مثل سدرة البيت، أما الظل فقد تسلل إلى قلب الشاعر من دون أن يجرح الباب أو يخدش النافذة، من هناك خرج صوت أحمد العسم، وهو يتصبب بالنشيد، ويحتفل بغصته اللؤلؤية، كلام كثير تساقط في “الفرجان” و”السكيك”، ولكن صائد الأمل وحده من يتقن لهجة الأشجار، ويتبع الساحر إلى جهة الهلاك، ولا يهلك. كبر العسم في المرض ومحنة الجسد وضجر الحواس، لكنه كمن يعوم في اللهب، ويركض على الماء، وهو بين خراب الحالة وعمارة التوق، يقيم مأدبة الحب للأصدقاء والآيلين نحو العناق. يكتب العسم شعراً يتبدد ثم يلتمّ في المسافة المشتبكة بين قرطاس واهب وعين حاضنة! فمن شغب الألفة في فريج (هل ميان) وحتى الصرخة الناضجة في (الظيت) تحول المرض عند أحمد العسم إلى منصة للقفز فوق ركام اليأس، إنه التخدير الذاتي والموضعي الذي يحول الألم إلى مادة جمالية وإبداعية، يترقق الوجع المادي ويتشتت فيكون طيفاً من لغة، ومجرى شفافاً تعبر من خلاله كائنات الشعر الرهيفة، هذه الخفة واللطافة هي إعادة تدوير للذاكرة، حيث تنهض الأشواق المنسية، وتتحفز للخروج من حالة الاعتكاف إلى حالة الكشف، فتقفز العبارة من الهدأة القاحلة إلى استنطاق الموتى والغائبين، والأخذ بهم من ضفة الاستحالة، إلى ضفة الإمكان، ومن هامش النسيان، إلى متن المعايشة والمخاطبة والاستئناس. يقول العسم في قصيدته “عيون كبيرة للوسواس” والتي تعتبر قصيدة محورية ولافتة في الديوان: “لم أكن كافيا لملئي في الفراغات وقد نزلت حافيا أبحث عن خطوة أخفاها “جمعة الفيروز” في (سدروه) وعن كلام قاله للرمل”. تتشكل لعبة الاستدعاء والتخفي في هذا المقطع، كأزهى مثال على اللعبة المدوخة للشعر، يحتاط العسم لخديعة التلاشي، فيوغل في الكتابة حتى اللمس، فالراحل جمعة الفيروز (الذاهل في الموت) أمسى حضورا كليا في قرية (سدروه) وفي الجلاء المتبصر والأكيد للشخص وللمكان، يختفي الشاعر من المشهد كي يتيح للغائب فرصة الرقص على مسرح الوجود، ويتعافى الظن من شكوكه، كي يتفتح ويعلو مثل نخلة سامقة في بستان الروح. في مقطع آخر من القصيدة ذاتها يقول العسم: “لا مثيل لك يا جبلا في (الرمس) لا يتذكر سقوطك أحد نسوا أن يوخزوا دمعتك بإبرة الصبر ويوقعوا بطائر الظن في المحيط” وفي مقطع لاحق يقول: “لهذا جئت إلى (نادي عمان) أحث البوح على السرد نعم.. على كتف الجسر وشم نعم.. البحر يعطس والبلاد.. غرفة في فندق” يحتفي الشاعر هنا بالأمكنة المتداعية وطفولة اللحظة الهرمة، وكأنه يستدعي البهاء الغارب إلى مستودع المرارة ومكمن الأسى، يصدّر الشاعر أحزانه إلى براح القلب وبراري الزمن، ولكنه غير معفي من ضريبة الذكرى، ومن صفاء عين مغسولة بالندى. تحفل قصائد الديوان أيضا بمفردات مصقولة ومنحوتة بإزميل الحكمة وعُدّة التأمل، ذلك أن المرض المشبع بعزلته وكثافته، لابدّ وأن يميل للزهد اللفظي واللغة المتمهلة والمعقمة، مثل رائحة المستشفيات وبياض الأسرة والسرائر. فـ (لا ود ينمو مطمئنا دون وسادة) كما يقول في مقطع من قصيدته “على شرفة البحر”، تتشكل العلاقة بين الشاعر والعناصر المحيطة به كما لو أنه يحيك الصمت على إيقاع الطواف المبجل حول حياة ناقصة ومبتورة، هي في الوقت ذاته حياة يرنّ فيها كريستال اللذة، ويتصاعد في قبابها صوت الحبيية، وهمسها العالي مثل قمر. يقول الشاعر في مقطع من قصيدة “مريم”: “كل الأيام/ التي أخذتها معي إلى المستشفى/ وكانت تحرمني منك/ كل الليالي التي تحرسني/ هي أنفاسك/ وكل هذا النثر/ هو حبك”. تنهمر في قصائد أحمد العسم ما يمكن أن نسميه “الشغف الآهل بالفقد”، فكل نقصان يداهم الشاعر إنما يكتمل في القصيدة، وكل جرح إنما يندمل بالتعابير الشافية، فعندما توشك البهجة على الانطفاء فإن (ضحكة على الجدار) تضيء غرفة الحواس، وتعيد اليد الضالة إلى مخمل الحنان. “حين أتذكر ضحكتك/ التي خرجت من صدري/ أضحك لقلة حيلتي/ وأدرك كم هو هائل/ هذا البتر”. بهذه الصيغة التنبؤية، يوقد الشاعر جذوة الليل، ويورق في مسرّته ولا يبالي، فمن هنا وفي هذه اللحظة القابعة بين الوسواس واليقين، يمكن للكتابة وحدها أن تنير درب الشاعر، وأن تصنع الفارق بين جحيم المرض وفردوس المحبة، إنه المهماز الذي يقيس به الشاعر حدود التعب، ويوكله لتصاريف الزمان، وهو أيضاً الغناء الذي يمتد من قبر الأم إلى مزارات الألم، وهي الموسيقى المحفورة في الجبال والنازفة من ضباب الطفولة، تلك الموسيقى السرية التي روضتها النخيل ودونها الشاعر على حوائط لا مرئية، حوائط غادرها الوقت، ولكنها سوّرت الأمل، وحلّقت في بهاء قديم. لنستمع أخيراً إلى هذا المقطع من قصيدة: (ماء الأطراف السبعة) كي نؤثث النظرة بما يليق بها من غنائم لا مرئية وفاتنة يصطادها الشعر قبل أن يرتد إلينا البصر: “في آخر الليل/ يفزعك الباب/ لا تترك وشم الأمكنة على جسدك/ وتجلس في اللالزوم/ شيء من فائض كآبتك/ ينزل من السلم/ يدخل الهواء/ إلى ألمك الكسول/ لا ترفع إبطك/ ثمة بلاد منكوبة/ تحت ضلوعك”. يغرف العسم من الأرض ما يلمع ويشع ويضئ ولكنه لا يهمل التراب القديم الذي جرفته المسوخ المعدنية وكائنات الإسمنت. ويغرف من روحه خامات اللغة والوعد والحلم ولكنه لا ينسى الخسارات الأنيقة والفاتنة التي أورثته كل هذا الشعر، وكل هذا التعب!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©