الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«شنيوب» في الرئة

«شنيوب» في الرئة
12 مايو 2010 22:00
بالأمس جالس أنا وزوجتي، والليل قد نشر خيمته على الكون، نتحدث قليلاً، أو نتفرج على سدة المنزل: شاشة التلفزيون، وفجأة خطرت في بالي إحدى الصديقات. بحثتُ عن “الموبايل” حتى وجدته، واتصلت، فلقد أثيرت أعماقي حين عرفت أن تلك الصديقة تصحبُ أختها إلى أحد المستشفيات في أميركا، لأنّ تلك الأخت أصيبت بالسرطان. وبقلق قلت: وكيف الأخت؟. قالت: الحمد لله. إن أكثر الجمل شيوعاً واستخداماً، هي أكثرها غموضاً. من قال ذلك؟. لا أعرف. ربما أنا الآن، و”بعدين”، أي: ... وبعد ذلك، هكذا قلت لزملائي، حينما حملت جسدي وذهبت إلى هُناك في الصباح التالي. - “وبعدين”...!!! فأنا فقط، وفي مدة قصيرة فقط، صدمتني أكثر من ثلاث حالات “سرطانية” في بيوتات أصدقائي ومعارفي المقربين. ويبدو لي أن ذلك يحدث للكثيرين منا، فلم يا ترى، لم يا زملائي، لِمَ نسبة السرطان، الاصابة بالسرطان، مرتفعة عندنا هنا؟ اتصلت، فقالت لي الصديقة إنهما في دبي، وإنهما قد رجعتا قبل أيام قليلة من هناك.هل يعود ذلك للنفسيات، أم لطرق ونوع الأكل والمشروب، أم للتلوث، أم لمخلفات الحروب والأزمات المالية وغير المالية، أم... ما سبب ذلك؟ قولوا لي. الكل يقول والكل كذلك لا يعرف. أنا أيضاً لا أعرف. وأقوم عن زملائي، وأنا لا أعرف. لا أعرف إطلاقاً. أقوم متذكراً جملة أنسي الحاج التنبؤية حين كتب عن قصيدة النثر في مقدمة مجموعته: “لن”، حين كتب ما معناه أن هذا عصر السرطان (هل تصيب قصيدة النثر؟، هل تصيب كاتبها أو قارئها، أو حاملها، أو المحمولة إليه بالسرطان، وإذا كان ذلك فعلاً، فبم تصيب القصيدة العمودية، بماذا تصيب قائلها، أو المقولة إليه، هل بالطاعون أم الجدري أم السل؟). العالم يتقدم. الامبراطوريات التي تسعى إلى الاستيلاء على العالم تقول إن العالم يتقدم، وإن تقدمه هذا لخدمة الفرد، لخدمة الإنسان، فهذا التقدم سيجعله أقل حيوانية، وسيدفعه أكثر نحو الخروج النهائي من غابة البدائية الشريرة. الإمبراطوريات تتمزَّق إلى شركات، شركات امبراطوريات، وشركات متعددة الجنسيات تسعى للاستيلاء على العالم، وتقول: المنتج المروج والمستهلك لخدمة الفرد، لخدمة الإنسان، فهذا المنتج سيجعله أكثر قدرة على التحكم بقوى الطبيعة، أكثر تواصلاً مع العالم والآخر ونفسه مما سيدفعه قدماً نحو الخروج النهائي من غابة البدائية الشريرة. الشركات تتحالف مع الملاك الذي يسوق مياه النهر إلى بستان مصنع الفواكه، وتتحالف مع الشيطان الذي باستطاعته تحويل الفواكه إلى أسلحة نباتية، وفي كل الأحوال فإن مثل هذه التحالفات هي بالنتيجة لخدمة الفرد، لخدمة الفرد، لخدمة الإنسان، فالتحالف يجعله أكثر قوة، أكثر نجاحاً، أكثر قدرة على الخروج النهائي من غابة البدائية الشريرة. الامبراطوريات والشركات والتحالفات تجليات بشرية، ويقال إنهم قلة، الامبراطورية بحكومتها والمؤيدين، والشركة بمدرائها والمستفيدين، والتحالفات ولائم تعقد لبقية اللصوص، بينما يزداد عدد الذين تسحق الحروب أرواحهم وحيواتهم ووجودهم، ويزداد عدد الجوعى والسجناء والفقراء والضائعين والمرضى والمستعبدين والمحتقرين والمجرمين والضحايا، والبغايا والممزقة أرواحهم في أجسادهم، وأجساهم على قارعة الهواء. يمشي المرء ويظن أنه حُر، بينما يتآكل داخله من زرنيخ العبودية، يعتقد أنه ذو كرامة بينما بإمكان عمود كهرباء أن يمرغ وجهه بالأرض، يظن أن الحياة راحة فيجد في أحلامه فريقاً من الوحوش وقد مزَّق قلبه وحوله إلى اصبع من النقانق يعلوه ورم خبيث أبيض، لعلّه هو، لعلّه السرطان. أقومُ من النوم، وأذهب إلى العمل، وبمجرد أن أفتح جريدة فإذا بعيني تقع على مادة بعنوان: “مدونة سين أو حكايات السلطعون” وبعد أن قرأته عرفت أن هذه المادة مقتطفات من مدونة صحفية فرنسية، ونشرتها “ليبراسيون” في عددها الصادر بتاريخ 21-3-2010. السرطان هو السلطعون هو القبقوب، كما يسمى محلياً، هو الشنيوب. القبقوب سلطعون أو سرطان بني يميل إلى الاحمرار. الشنيوب سرطان أو سلطعون أصفر. أنا وعدد من أبنائي نحب القبقوب مشوياً. وفي العطلات نذهب جميعاً إلى سوق السمك ونعود إلى البيت محمَّلين بكيس من القباقيب. وما زالت ذاكرتي تضحك من الشنيوب وهو ملوح بأذرعته العديدة وهو يتراجع إلى الوراء على رمل الشاطئ، بينما كانت طفولتنا تضيق عليه الحصار، وتخنقه عيوننا التي يراها وهي تطبق على وجوده، ومن كل الجهات. الصحفية الفرنسية واسمها ماري ـ دومينيك أريغي كانت على الأرجح مريضة بالسرطان، وماتت قبل نشر تلك المقتطفات من مدونتها بأيام... كما ومن الواضح، أنها كانت تدون حياتها، مرضها، يوماً بيوم. تكتب اريغي في 13 آب: “الخلايا السرطانية تنتشر على طول العمود الفقري من الكتف إلى المخ (!)، وعلى جهتي الحوض، في كلية اليسار، وثمة درنية صغيرة في تجويف الرئة اليسرى، أطمئنكم إلى خلو أصبع القدم اليسرى الكبير، شأن نظيره في القدم اليمنى، من إصابة خبيثة”. وتكتب في 11 أيلول: “أصبت بسرطان عام، على ما يبدو، ولم أكن يوماً في حال... أحسن من حالي، فأوقاتي فريدة في بابها، ولم يسبق أن اختبرت حياة صداقة على هذا القدر من الغنى، وعلى سبيل المثال، زارني الأسبوع الماضي 16 شخصاً... وهذا كثير، وربما ينبغي أن ألتمس بعض الراحة والهدوء”. وتكتب في 17 أيلول: لا، لا تحملوا عليّ كلاماً لم أقله، لا، لا أقول إن كل أنواع السرطان سببها نفسي، وأما فيما يخصني، فأنا متيقنة أن أمراضي السرطانية مصدرها تاريخي الشخصي، والحق أنني حين أبلغت بسنين، فكرت في سري ـ أخيراً ـ فماذا أرجو من التحليل النفسي الذي أزمع مباشرته!” ... رحم الله ماري ـ دومينيك أريغي، وأسكنها فسيح جناته، ولكن ما زلت لا أفهم لماذا عنونت مدونتها بـ “مدونة سين أو حكايا سلطعون” أو مازلت لا أفهم ما علاقة هذا المرض اللعين والقاسي والصعب بالسلطعون، أو بالسرطان، أو بالقبقبوب الذي نحب التهام خلاياه مشوياً، أو الشينوب الذي يتراجع إلى الخلف، ملوّحاً وشاهرآً أذرعته، وكأنه يخوض معركة صلاح الدين، مما يضحك الذاكرة حتى الآن، ومنذ ذلك الرّمل الصافي، على ذلك الساحل، ساحل الطفولة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©