الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكتابة.. وفخاخ «الحرملك الإبداعي»

الكتابة.. وفخاخ «الحرملك الإبداعي»
12 مايو 2010 21:56
بعد وصاية طال بها الدهر وامتدت احقابه وكان الرجل خلالها هو الناطق باسمها... بعد أن ظلت طوال قرون شبحاً يحيا وراء العظماء يصنع عظمتهم ولا يشاركهم ثمارها... بعد أن كانت الحبيبة الملهمة التي تختفي وراء النصوص وفي ثناياها... بعد أن كانت تُكتب في نصوص الشعراء والأدباء والكتاب صارت هي الكاتبة، هي صاحبة النص ومبدعته والقائمة بأمره. ها هي شهرزاد الجديدة تسلم أوراق اعتمادها، لتمثل هي صوتها وتصبح الناطقة الرسمية الشرعية والوحيدة باسم نفسها، ليس في الليل وحكاياته السحرية بل في رابعة النهار، وفي إطار عملية بناء شاملة او بروسترويكا أدبية محلوم بها لصوغ حكاية ألف ليلة وليلة بشكل مختلف، والخروج من ليل الحكي للدخول في أعماق اليقظة الوجودية على نحو لا يجبرها على الصمت عن الكلام عندما يعلو صوت الديك، ويحميها من فخاخ تاء التأنيث المستترة. هكذا استعادت المرأة صوتها وأخذت ترتاد عوالم الإبداع بكل ما فيها من تحديات ظاهرة او مضمرة. تنبش في ذاتها وذاكرتها وفي ذاكرة المجتمع وقيعانه الملآى بما يصلح مادة للكتابة. وتستبطن تجاربها الحياتية، وتجول أرض الكتابة الشاسعة لتحرث فيافيها، وتروي يباسها، وتعانق مناطقها الخصبة لتبذر فيها البذور... تطير في فضاءات مغامرتها الوجودية المحفوفة بالمتعة والألم لتستكشف، ما تضيفه إلى رصيدها الخاص وليس لرصيد الآخرين، ولترسم عبر كتابتها خصائص أدبية وتضيء مناطق معتمة ظلت مغيبة طوال الفترة التي استفرد فيها الرجل بمهمة الكلام. العزلة الباهرة لكي تكتب تحتاج المرأة الكاتبة الى العزلة، الى عزلة باهرة تنضج في أحضانها، وعلى نارها وفي نورها تتجوهر الروح، تضيء، تنبهر وهي تذهب في تخوم بكر لم تزرها من قبل. في العزلة انفتاح على الذات واستبصار للخفي والغائر والمتواري مما يمتح منه الكاتب.. إنها ينابيع الروح ودفقاتها الحارة وهي تترقرق أو تصطخب وتصطفق لتحضر للكاتب ما يعكف على صقله وتهذيبه ليكون إبداعاً.. العزلة إذن هي حجر الرحى التي تدور فيها الروح لتجمع شواردها وربما تدخلها في أتونها الأزلي لتُسحن وتنقى من الشوائب وتصبح رغيفاً صالحاً يتناوله القارئ وهو مطمئن الى صحته الفكرية. لكن العزلة التي تتوفر بكثرة وبشكل شبه دائم للكاتب/ الرجل تبدو أحياناً من المحرمات على الكاتبة/ المرأة اذا كانت أماً وزوجة، إذ بالكاد تجد الوقت للقيام بمهماتها الأسرية التي تحتل الأولوية في قائمة الاهتمام فمن اين تجد الوقت للتفرغ للكتابة والعزلة في مكان تخلو به الى نفسها وأفكارها لتسطر بعضها على الورق. بالنسبة للكاتب لا مشكلة في توفر الوقت فثمة من يقوم بكل الأعباء في حال انشغاله بعوالمه الإبداعية او التفرغ للقراءة والكتابة، لكن الوضع مقلوب ثلاثمئة وستين درجة بالنسبة للكاتبة إذ غالباً ما يقوم البيت ولا يقعد إن هي منحت لنفسها وقتاً خاصاً تمارس فيه هواها الإبداعي. وكم من كاتبة قالت لي في غير مناسبة انها تناضل وتكافح بكل معنى الكلمة لتحصل على ساعة وقت تريح فيها جسدها المنهك، فكيف بمتطلبات العقل والإبداع؟ ربما لهذا السبب تلح الأميركية فيرجينيا وولف على ضرورة ان تكون للمرأة الكاتبة غرفة خاصة بها، أي عزلة خاصة بها، هذه حال كاتبة اميركية فما بالك بالكاتبة العربية التي تعيش في مجتمع وفي سياقات ثقافية لا تعنى بشأن الكتابة اصلاً وتنظر لكتابة المرأة تحديداً باعتبارها “مضيعة وقت” في حين من الأجدى لها أن تنشغل بأمور جمالها وبيتها ولا تشغل رأسها الصغير في موضوعات تخص الرجال. ربما عليَّ هنا أن أزجي مديحاً بليغاً إلى صاحبة السعادة (التكنولوجيا) التي أتاحت للمرأة جهازاً اسمه (ريكوردر)، لكي تحتفظ بأفكارها ومشاريعها الابداعية حتى ولو في صيغة رؤوس اقلام، فتنقذها من الضياع في زحمة الركض بين طلبات الزوج والاولاد والعمل والقائمة الطويلة من المهام التي يتجاوز طولها أحيانا عمر المرأة نفسه. طابور خامس لماذا تتوقف المرأة عن الكتابة؟ باستثناء حالة ربما تكون موجودة لدى البعض، وهي عدم وجود ما تكتبه او تضيفه الى تجربتها، هناك طابور من الأسباب (يؤدي دوراً أكثر مضاء من الطابور الخامس) التي تدفع المرأة دفعاً الى ترك الكتابة، أولها الطريقة التي ينظر بها المجتمع الى المرأة الكاتبة باعتبارها متمردة، خارجة عن حدود النظرة النمطية للمرأة (الزوجة المطيعة التي تخدم الاب والاخ والزوج بكل انصياع وخضوع، وبالطبع كلما ارتفع منسوب الخضوع يرتفع سوقها في بورصة الزواج وفي نظر ابن الحلال الذي تنحصر مهمتها في انتظاره حتى لو حصلت على أعلى الشهادات)، فالمرأة في نظر هذا الخطاب مصيرها الزواج والمطبخ ويمكنها ان تعلق شهاداتها على جدرانه فيما هي تعد الأكلة المعتبرة للزوج. وثانيها غياب التفهم (ولا أقول الدعم والتشجيع لأن طلبه نوع من الترف الذي لا يداعب خيال المرأة) لطبيعة الكتابة وشروطها في الحالات التي تتمكن فيها المرأة من تكريس ذاتها ككاتبة ومبدعة، بل إن الأقرب الى الحضور هنا هو العراقيل والمنع والحجب واللاءات الكثيرة التي ذاقت مرارتها كل امرأة قررت أن تكتب، مع استثناء حالات نادرة وجدت فيها بعض الكاتبات تفهماً ووعياً من الأسرة او الزوج لطبيعة ما تقوم به، أو قررن مختارات أن يتفرغن تماماً للإبداع والكتابة. ذلك أن غالبية الرجال العرب، والمثقفين منهم تحديداً، غالباً ما يبحثون في شريكات حياتهم (لا أدري إن كان مفهوم الشراكة ينطبق على هذه الحالة) عن المرأة التي لا تثير أي جدال فكري مع الرجل، بل التي لا تشغل فكرها أصلاً إلا في إعداد ما يتلذذ به لذة مادية لا روحية. وثالثها معيار العيب (نعم، بعض المجتمعات العربية الموقرة ما تزال ترى في أن تكتب المرأة عيباً وأنها تجلب العار لأسرتها وعائلتها خاصة في الأرياف). ورابعها الزواج حيث تدخل المرأة بعد الزواج والإنجاب في انشغالات الأسرة والتربية والتدريس التي لا تتيح لها فرصة لأي انشغالات أخرى، ففي مجتمعاتنا نمط من الحياة الزوجية يضع كل أعباء الزواج وما يلزم ولا يلزم لنجاحه على عاتق المرأة، ويقرن بقاء الأسرة واستمرارها بها فقط، فتكون هي الشمعة التي يجب أن تحترق ليستمر البيت الزوجي مضيئاً، وغالباً ما يكون هذا هو سبب توقف الكاتبة عن الكتابة. وخامسها وسادسها و... تطول القائمة التي يمكن البحث فيها عن أسباب توقف الكاتبات عن فعل الكتابة والكامنة في الظروف الاجتماعية والثقافية، وفي نمط من القيم والعادات والتقاليد والتصورات والأفكار التي حكمت تاريخياً وتحكم في الراهن النظرة الى المرأة وما تكتبه، نظرة أقل ما توصف به أنها غير مشجعة أو معطلة. في مناخ معطوب كهذا، تتضاعف آلام المرأة، ولا يكون امامها سوى واحد من خيارات ثلاثة لا يوجد غيرها: أن تضحي بقلمها وهذا ما يحدث وحدث مراراً وتكراراً، أو أن تختار الاستمرار في مغامرة الكتابة وبالتالي عليها ان تتوقع سلسلة من المصاعب والصراعات والضغوط الاجتماعية التي لا تنتهي، أو تتنكر وتكتب باسم مستعار وهذا أضعف الإيمان، وفي التاريخ الادبي الكثير من الشواهد. أدب الأظافر الطويلة! لكن ماذا عن تجاوز المرأة لكل هذه المشكلات والدخول في الكتابة والإنتاج؟ الأمر هنا ادهى وأمر، فما إن تدخل الكاتبة معترك العمل الثقافي وتنشر إبداعها او بحوثها أو دراساتها حتى تواجه مصاعب من نوع آخر، مصاعب ثقافية إن جازت العبارة، ففي الحقل الثقافي ثمة تصنيفات وتوصيفات واشتراطات لا أول لها ولا آخر تمارس على الكتابة التي تنجزها المرأة، بدءاً من اللف والدوران حول مصطلح “الادب النسائي” الذي لا يعدو أن يكون سلاحاً من الأسلحة المقنعة التي تحارب بها المرأة وكتابتها، يضعها تحت سيف التشكيك في أهميتها أو تنسيبها الى رجل/ كاتب في حال كتبت ما هو صميمي وإبداعي ومدهش تكتمل فيه شروط الإبداع التقنوية والأسلوبية وغيرها مما يفتش عنه النقاد. ومروراً بآراء ومواقف متشددة لا ترى في كتابتها سوى تنفيس عن مشاعر وافكار وعواطف لا تخدم المجتمع او حركته العميقة في النمو. وهي نفس النظرة الدونية اياها التي تنطلق من تصور تمييزي وعنصري يضرب عرض الحائط بكل الإنجازات التي قدمتها المرأة او الاجتراحات الابداعية التي نجحت فيها. وانتهاء بالتقليل من شأن الأدب الذي تبدعه المرأة فتارة يطلقون عليه اسم “ادب الأظافر الطويلة” وتارة “ادب الأنامل الناعمة” وتارة “ادب احمر الشفاه” و... كأننا في سوق للملابس أو (أوكازيون جنسوي) أشبه ما يكون بلعبة أو مزاد. وتارة يخترعون متاهة اسمها “الأدب النسائي” و”الكتابة النسوية أو النسائية” و”إبداع المرأة” مفترضين وجود كتابة اخرى مختلفة، ومنفصلة تماماً، عن الكتابة التي تكتبها المرأة، وما هذا سوى انعكاس للفصل الاجتماعي الموجود بين الرجل والمرأة الذي يرى فيهما عالمين او مجتمعين مختلفين داخل المجتمع الكبير، ما سمح بكتابة المعلقات والمطولات والمفصلات، وضع ما شئت من الأسماء التي تنتهي بتاء التأنيث التي يطرب لرنتها هؤلاء المثقفين، لتبيان مثالب الكتابة التي تنتجها المرأة. وبعيداً عن الأسباب التي تجعل البعض يتخذ مثل هذا الموقف فإن الكاتبة كثيراً ما تعيش معاناتها هذه على شكل نزف روحي وحشي مبطن او معلن. وتواجه نسقاً من القيم الإبداعية الذي يرى في الكتابة فعلاً او موقفاً ايجابياً لا يجترحه إلا الرجل، ولا يليق بالمرأة على ما يبدو. ولهذا يقع المرء على الكثير من سمات الفحولة في توصيف الشعر العربي، مما دعا نقاداً آخرين، منصفين، ومنفتحين على ذواتهم، ومكتملين إنسانياً بعد أن تخلصوا من عيوب الثقافة التقليدية وسطوتها، إلى الحديث ايجاباً عن الأنوثة وخصبها في مقابل الفحولة وجزالتها. فكانوا النقيض لكل ذلك الإرث الماضوي الذي يحجم المرأة فكراً ودوراً وإنسانية. الكتابة والأنوثة اكتبي مثلنا أو أنت لست كاتبة.. هذه العبارة لا يقولها أحد على نحو سافر لكنها تقال وتمارس بشكل موارب وخفي في أحيان كثيرة. وربما تتقنع بكليشيهات وتأطيرات تبدو في بريقها الخارجي تقنوية وفنية لكنها عند الفحص العميق لا تلبث أن تظهر فخاً محكماً من الفخاخ التي تقع فيها المرأة الكاتبة أحياناً أو يسعفها الوعي فتنجح في تجاوزها. وفي موضوع الكتابة والأنوثة هناك موقفان: موقف تلخصه هذه العبارة التي تعني في أحد مستوياتها الدلالية: لا بد من تغييب الأنوثة لكي يكون ما تكتبه المرأة إبداعاً معتبراً، ومرة أخرى، تعكس مثل هذه الآراء النظرة السلبية التي ترى الأنوثة نقصاً وقصوراً أو أقل من الذكورة في أحسن الأحوال. وموقف مناقض تماماً للموقف الأول يتحمس وبلا تحفظ لكل ما تكتبه المرأة ناسياً أو غافلاً عن حقيقة واقعية لا بد من التأكيد عليها وهي: لا يكفي ان يكون النص مكتوباً بقلم امرأة لكي يكون جيدا على المستوى الفني وحسب المقاييس المعتبرة في النقد.. ومن أسف ان ما يجري على الساحة الثقافية العربية من حفاوة نقدية يتم أحياناً وفقط لأن كاتبته امرأة في حين قد يكون النص هزيلاً وفقيراً وبريئاً من الابداع براءة الذئب من دم ابن يعقوب. ويعود هذا التشويش في تقديري إلى الخلط بين مفهومين: مفهوم “المرأة والكتابة” ومفهوم “الأنثى والكتابة”، الأول ينفتح على عوالم كيانها الثقافي بشموليته وكماله الإنساني والفكري والاجتماعي والإبداعي والأنثوي. والثاني يختصرها في الأنوثة بل وفي أول مستوياتها الدلالية وهي الصفة الجنسية، وينشغل بالبحث عن الجسد في كتابة المرأة، هذه العملة التي باتت رائجة على نحو ممجوج، وساهمت كاتبات في تكريسها وترسيخها بل وتعاملن معها بوصفها “بيضة الكتابة التي تبيض ذهباً” والمقصود هنا “الذهب النقدي” لأن المبدع العربي أصلاً، رجلاً كان أو امرأة، لا يجني أي ذهب على صعيد بيع منتوجه الثقافي ويكتفي بحظه من الملاليم. ويتعلق بإشكالية الكتابة والأنوثة (التي قيل فيها ما لم يقله مالك في الخمر) إشكالية أخرى هي تذويت (من ذات) الكتابة، التي تجد هي الأخرى حفاوة من البعض ورفضاً من البعض الآخر، والتي يعتبرها النقد من أهم الخصائص التي يرفل فيها السرد النسائي، وتصطبغ بها كتابة المرأة في الغالب، ومن خلالها تحاول الكاتبة سبر أغوار تقنيات سردية وشعرية تسعفها في اشتغالها الإبداعي على ثيمات تتعلق بتوصيف او نقد او إدانة أو مساءلة صورة المرأة النمطية. وسؤال الذات من أهم الأسئلة التي تسهم كتابة المرأة العربية في صوغها في ظل المعطيات الحضارية الحادة التي تعيشها الثقافة العربية، التي تفتش هي الأخرى عن ذاتها، إذ ان المرأة وهي تصوغ ذاتها الإبداعية تطرح في الوقت نفسه سؤالها عن وضعها الاعتباري ومكانتها داخل المجتمع العربي، وهو سؤال يتصل بعلائق وثيقة مع أسئلة ما بعد الحداثة وعصر الانفجار الاتصالي والكوكبة وما تتركه من تشظيات. وعبر الذات تصوغ الكاتبة نصاً يحلل الخطابات والقيم والتجارب ويجسد المواقف والمشاعر والأفكار من وجهة نظرها، وإن طغت الذات على الموضوعات، أحياناً، فالسبب ربما يعود إلى أن المرأة عاشت ردحاً طويلاً من الزمن محرومة من الشعور بالذات الفاعلة ووجدت الفرصة مواتية لإعادة الاعتبار لها. ومن هنا، يجد نقاد كثيرون في هذه “الذاتوية” ـ إن جاز لي الاشتقاق ـ ما يغني النص الأدبي ويضفي عليه فرادة وخصوصية. الثالوث غير المحرم باعتباره من الثالوث المحرم، غالباً ما يتم البحث عن الجسد في كتابة المرأة، وليس في هذا أي ضير إذا ما كان هذا البحث يأتي في سياق العمل الإبداعي الكلي، وينظر إليه بصفته نشاطاً من نشاطات الحياة او مشهداً ضرورياً في سياق العمل، لكن الضير كل الضير في أن يجري اعتقال النصوص في هذه الثيمة فقط، وأن لا يرى الناقد سوى تلك الايحاءات الانثوية المبثوثة في النص بسفور أو المتوارية وراء المعطيات العشقية أو الرمزية، ثم تتم محاكمة مدى تحرر المرأة كتابياً وفق هذا المنظور الضيق. بل إن سمة من سمات النقد الذي يدرس كتابات النساء هي اعتبار البوح بالمسكوت عنه من أمر الجسد رديفاً او معادلاً موضوعياً للبحث عن الحرية، رغم ما في هذا من ابتسار واختصار لمفهوم الحرية العظيم، والحقيقة الثاوية وراء هذا الخطاب لا تفعل في احايين كثيرة سوى إعادة إنتاج هيمنة الرجل لكن عبر الكتابة هذه المرة. بيد أن ثالثة الأثافي كما يقال، هي وقوع الكاتبة نفسها في شرك هذا الخطاب، وإنتاج نصها في أفقه ومداراته والارتهان إليه او الركون الى بريقه فقط، وإغفال ما ينبغي ان يقوله النص او ما يجب ان يحمله من غنى روحي وثراء معرفي ومضامين فكرية او فلسفية او اجتماعية او حتى بوحية تتعالق مع قضية الحرية بوصفها شرطاً حياتياً ورهاناً حقيقياً لقياس تحضر المجتمع أو تخلفه، لا مجرد حرية تتكسر على ضفاف البوح المجاني فقط، لأن هذا الخطاب مع افتراض حسن الظن لا يعدو أن يكون احياء معاصراً للرق القديم بعد تجميله وتزويقه ليبدو حضارياً. وغني عن القول إن المرأة ما تزال في القرن الواحد والعشرين أسيرة بل رهينة الخطاب التسليعي المخاتل، الذي عجز في إقناع أحد بجدواه سوى رأس المال الجشع وبعض الراغبين في امتلاك الجسد الأنثوي ومصادرة وعيه لذاته، لأن انتفاء هذا الوعي بقداسة الجسد يجعله قابلاً لأن يُستخدم ويُوظف ويُعرض ويُروَّج على هذا النحو المهين. ولكي تحقق المرأة الكتابة الحرة لا بد من أن تُقلق هذا الخطاب، وتحرك التابوات وتسائلها، وتحلل الثنائيات وتناقشها، هذا الخطاب الذي يرى الحضارة والإنسانية والإنجاز الفكري والثقافي والإبداعي مهمات رجولية فقط، فيما المرأة ليست سوى جسد جميل مهمته الإغواء. وما دمنا في سيرة الإغواء فإن واحدة من مهمات الكاتبة المرأة أن تعري هذا المفهوم بدلاً من أن تضع الحب في طاحونة المستفيدين منه. وأن تضع الحكي في مقابل الإغراء، ولها في جدتها، شهرزاد، أسوة حسنة. فشهرزاد تمكنت بالقص فقط من تحويل شهريار من قاهر ومتسلط لا يرى في المرأة سوى كائن خائن يستحق القتل إلى إنسان يستقي معرفته من العوالم التخييلية التي يبدعها هذا الكائن نفسه/ المرأة. ماذا تكتب المرأة؟ هذا سؤال إشكالي يرتبط بأسئلة أكبر بعضها اصطلح على تسميتها أسئلة الثقافة والإبداع، وليس المقصود منه بالطبع وضع (أجندة) تسير عليها الكاتبة أو تأطيرها في قضايا بعينها لأن هذا يناقض الحرية التي هي سر الكتابة وجذوتها وعلامة سويتها الإبداعية. والحال أن طرح السؤال ليس إلا محاولة للقول بأن المرأة الكاتبة مسؤولة مسؤولية تاريخية عن كتابتها، وعلى كاهلها يقع عبء هائل ـ أعانها الله عليه ـ وعليها هي ايضاً أن تعين نفسها عليه بامتلاك الوعي لكي تترك بصماتها على نوعية التعبير الإبداعي ومضمونه وتشكلاته. وتسهم في طرح تصورها الخاص لإشكاليات الكتابة، واجتراح الجديد والمغاير على هذا الصعيد، بحيث تكون كتابتها عامل خصب ونماء يرفد ويزود الكتابة العربية بشكل خاص والإنسانية بشكل عام بينابيع إضافية تروي عطش المكتوب إلى نصفه الآخر الغائب، وتضع كتابة المرأة في موازاة كتابة الرجل لتكون صورة الإبداع البشري كاملة غير منقوصة. مطلوب من المرأة الكاتبة أن تكتب ادباً مهماً وجاداً وجيداً يسعف في تبديد الكثير من الأغاليط والسدف والالتباسات التي نسجت حولها، والإبانة عن جوهر الابداع الخالص المدفون في أعماقها والمطموس لأسباب وشروط اجتماعية وتاريخية لا يتسع المجال هنا للاستفاضة فيها. وتقديم ما من شأنه أن يرد على النظرة العمياء والقراءة العرجاء التي يتم عبرها التعاطي مع الأدب المكتوب بأيدي النساء، والتي لا تخلو من نزعة الى الاختزال والتقليل من شأن النجاحات المتحققة بالنظر اليها كما لو انها سلوك فردي نُدْرَوي غير متسق ولا ينظمه خط ناظم عام، اي انه الاستثناء لا القاعدة. مطلوب من المرأة الكاتبة، أو بعبارة أخرى، على عاتقها تقع مسؤولية تقديم البراهين الإبداعية على أن قلة الكاتبات قياساً بالكتاب لا تعود الى طبيعة المرأة ولا إلى قصور في تكوينها بل إلى الظروف التي توفرت للرجال وحرمت منها النساء، اللواتي ظللن لعهود طويلة حبيسات البيت او الحرملك او المشربيات وممنوعات من التعليم او ممارسة اي شكل من اشكال الحياة المجتمعية، فكيف بالكتابة التي تعني في جانب منها البوح والتعبير من دون أن تنسى أنها والرجل رغم استئثاره بالتشريع والقانون ورغم كل هيبته الاجتماعية تعوزهما معاً، وفي أحيان كثيرة، حرية التعبير، ويواجهان سقفاً منخفضاً من الكلام المتاح. وبالتأكيد يقع في صلب اهتمامات الكاتبة أن تقرأ بنهم، وأن تتقن الكتابة والتعبير وتمتلك اسرار الابداع وتختار الموضوعات المهمة والمؤثرة والقضايا المصيرية والعامة ولا تقف عند حدود التعبير عن مشاعر الحب والإحباط والخيبة والعواطف. مطلوب من المرأة الكاتبة أن تنجز هذه الصفقة العقلية بوعي للفخاخ المدسوسة هنا وهناك وأهمها هذه الحفاوة المبالغ بها بالكتابة عن الجسد، التي تصادر سلطة الكتابة نفسها، سلطة النص، سلطة الكاتبة لتجعل من صورة الجسد هي السلطة الرائجة. وباختصار، على المرأة أن تكتب لكي لا تكون (نصف بني آدم) أو (نصف انسان) ولتكون (بني آدم كاملاً) أو (انسانة كاملة) لا أكثر ولا أقل.. وأن تنتبه وهي تكتب من الفخاخ الكثيرة التي يمكن ان تجعلها حبيسة “الحرملك الإبداعي” الذي لا يختلف كثيراً عن “حرملك” زمان.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©