الثلاثاء 23 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شاعر السينما المتمردة

شاعر السينما المتمردة
25 يونيو 2008 21:32
هو واحد من أهم الممثلين السينمائيين في العهود الحديثة، كما أنه من طينة الفنانين الفطريين الذين سعت إليهم النجومية قبل أن يسعوا إليها، وأكثر من ذلك فإن المزج الذي يمارسه هذا الفنان بين مواهبه المشعة في التمثيل والكتابة والإخراج، خلقت له شخصية فنية وكاريزمية فرضت حضورها وصيتها السينمائي خلال السنوات السابقة، ومن يعود بذاكرته السينمائية إلى الوراء قليلا، وإلى العام 2003 بالتحديد، سوف يتيقن وبلا فائض جهد أو رصد، من القدرة الأدائية المذهلة للممثل الأميركي شون بن، والتي توضحت ملامحها بقوة في فيلم ''نهر ميستك'' ـ ترجم البعض العنوان إلى (نهر غامض) وهي ترجمة خاطئة لأن اسم العلم لا يترجم ـ في تلك السنة، ومع هذا الفيلم بالذات حصد بن جائزة الأوسكار عن فئة التمثيل (دور أول)، واستطاع في تجسيده لدور جيمي ماركوم، الأب المفجوع والمستعد للقصاص من قاتل ابنته، أن يتقمص ويستحوذ تماما على الشخصية المكتوبة على الورق· فارق المقارنات شون بن من الممثلين الذين تشعر معهم بالفارق عندما يصل الأمر إلى وضع مقارنات مع منافسيه، فالطاقة الداخلية والتعبيرية التي يتمتع بها تمنحه المساحة الكافية من الوهج والاستنارة، بحيث يمرر انفعالاته الشخصية المتأزمة والمعتمة إلى عين المشاهد دون تكلف أو قصد، إنها الصرخة الجوانية التي يصدرها إلى ملامحه حتى في أقصى لحظات الصمت والكتمان، وهذا التكنيك الأدائي الصعب يطلق عليه نقاد السينما (أسلوب المنهج) method acting حيث (يسكن) الممثل داخل الشخصية التي يؤديها طوال فترة إنتاج الفيلم، ويؤدي الدور عن طريق الاستدعاء الموجّه وإحلال ذكرياته المشابهة داخل ذكريات الشخصية· حظي شون بن بتقدير معنوي كبير مؤخراً عندما اختير رئيسا للجنة التحكيم في الدورة الواحدة والستين لمهرجان ''كان''، ورغم مواقفه السياسية وآرائه الجريئة وتصريحاته المعلنة ضد غزو العراق وضد التوجهات العامة للإدارة الأميركية والرئيس بوش، إلا أن الخط الفني الذي ينتهجه بن يتوفر على قدر كبير من الشغف والإخلاص والانتباه لقيمة الفن واستقلاليته، لا يحضر الهمّ الأيديولوجي بشكله المباشر والفج في أعمال شون بن، ولا يستدعي مقولات وشعارات جاهزة عندما يتعلق الأمر بالرؤية الشعرية والحالمة التي يختزنها فن السينما· فيلمه الأخير ''في البرية'' into the wild والذي أداره إخراجيا، عبّر وبقوة عن الجانب الشعري الفاره في أسلوبه السينمائي، في هذا العمل الكبير والاستثنائي داخل مسيرته الإخراجية أثبت شون بن قدرته على القفز فوق المراحل، ومن دون خسارات كبيرة على مستوى التفوق والتفرد وروحية التعامل المرهف مع الكاميرا· يحكي فيلم ''في البرية'' واعتمادا على مذكرات حقيقية، قصة شاب أميركي يهجر عائلته الثرية ونمط الحياة الضاجة في المدن، ويختارالعيش وحيدا وزاهدا في غابة نائية يصعب أن يصل إليها إنسان، وهناك في ذلك الفردوس الأرضي، يحقق الشاب ما عجز عنه الكثير من الشعراء والمتصوفة والرحالة الذين خانتهم الظروف للوصول إلى اليوتوبيا المعاشة والمتحققة في حالة التجلي والنقاء والعزلة الباهرة· شعرية متمردة ورغم بعض المقاربات الأسلوبية مع طريقة عمل ورؤية المخرج العبقري والغامض والكتوم تيرانس ماليك صاحب أفلام شعرية أميركية مهمة مثل ''خط أحمر رفيع'' و''الأراضي البور'' و''أيام النعيم''، إلا أن الشعرية المتمردة التي تسم فيلم ''في البرية'' تصنع فارقاً نوعياً هنا، فشون بن يميل إلى إذابة الشخصية في الطبيعة أو المكان، بحيث تنجو هذه الشخصية من عبء الزمن وتتمرد عليه، بينما يميل تيرانس ماليك إلى خلق نوع من الفواصل والمساحات بين الشخصية والطبيعة، ويملأ هذه المساحات برؤيته ووعيه الشعري الخاص المستقل عن زمن ومكان الحدث· وفي مسيرة شون بن الإخراجية العديد من المحطات التي يمكن للمرء أن يتوقف عندها، فمن ينسى مثلا فيلم ''حارس المعبر'' the crossing guard والذي يحلل سيكولوجية الطريد والمطارد في حلقة منهكة من العنف والثأر والقنص البشري، وذلك عندما يوجه جاك نيكلسون كل طاقاته البدائية والوحشية من أجل الانتقام والتشفي من حارس المعبرالمتسبب دون قصد في موت ابنته ـ ثيمة شبيهة بفيلم ''نهر ميستيك'' ولكن وبدوافع ومعالجات مختلفة في الفيلمين· ومن الأفلام الأخرى التي تولى فيها بن دفة الإخراج وبشغف ذاتي يميل لقوة الموضوع والرغبة الحثيثة في تحويل القصص إلى مرويات بصرية على الشاشة نذكر أفلاما مثل ''الهندي الراكض''، و''الوعد'' والفيلم الذي شارك في إخراجه مع عدة مخرجين آخرين حول هجمات الحادي عشر من سبتمبر· وعلى مستوى الأداء لا يمكن لعشاق الفن السابع سوى التوقف طويلا أمام دور شون بن في فيلم ''المحكوم بالإعدام'' dead man walking الذي ظهر على الشاشة في العام 1995 ورشح من خلاله لجائزة الأوسكار عن أفضل تمثيل رجالي (دور أول) وهو دور أصاب المشاهدين بحالة من الصدمة المروعة التي أزالت تماماً الحاجز الوهمي بين الممثل والشخصية، إنه التماهي المطلق الذي لا يبلغه سوى الممثلين الكبار، الذين يتحول فعلهم الإبداعي والأدائي إلى نوع من التضحية والجنون واللوثة الطاهرة· ومن أدوار بن الحاضرة بقوة نذكر دوره في أفلام مثل ''21 جراما'' تحت إدارة المخرج المكسيكي أليخاندرو إيناريتو صاحب الفيلم الشهير ''بابل''، وكذلك دوره المؤثر في أفلام ''أنا سام'' و''المترجمة'' و''وزن الماء'' و''اللعبة'' و''خط أحمر رفيع''· سيرة مكتملة ولد شون بن في العام 1960 بولاية كاليفورنيا، وخرجت مواهبه الفنية من معطف أسرته الفنية فوالدته هي الممثلة إلين رايان ووالده ليو بن يعمل في حقل الإخراج، وكان فيلم ''تابس'' في العام 1981 هو أول عمل احترافي لشون بن في حقل التمثيل، ألحقه في السنة بفيلم ''أوقات سريعة في مرتفعات ريجموند''، أما الدور الذي أثار انتباه النقاد والجمهور فهو دور الإبن المراهق مع الممثل الشهير كريستوفر والكن في فيلم ''نطاق ضيق'' المقتبس من حكاية حقيقية، وأطلق فيه بن مخزونه الشخصي من الجاذبية والإلهام والسحر الأدائي· في أحد الحوارات الصحفية قال بن: ''أصبحت ممثلا بسبب روبرت دي نيرو''، وهي إشارة تذهب مباشرة إلى المعنى الرفاقي والتواضع المهني والتواصل بين الأجيال السينمائية دون تضخيم للأنا أو لبطولات شخصية، وهي صفة ملازمة لشون بن الذي يرفض في كل مرة أن يتحدث عن أدواره والأسرار المحيطة بمنهجيته في التمثيل، لأنه يرى وببساطة أن التمثيل يجب ألا ينفصل عن الذاكرة الأصيلة والتجربة الشخصية للممثل·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©