الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ليل الصبّ

ليل الصبّ
25 يونيو 2008 21:29
طالما تغنى العشاق بليل الصابة والوجد، وتناوبوا تمثيل طوله وعذاباته، لكن مجنون ليلى كان أنضرهم عبارة في تصوير اختلاف الليل عن النهار، إذ يقول: نهاري نهار الناس حتى إذا دجا لي الليل هزتني إليك المضاجع أقضي نهاري بالحديث وبالمنى ويجمعني والليلَ بالهمّ جامع أبر الله أن يلقى الرشاد متيم كذا كل شيء حُمّ لابد واقع فالنهار زمن اجتماعي، يشترك فيه الناس بالأحاديث واللقاءات ورؤية الأِشياء بعيون الآخرين، ومداراة مواجعهم الشخصية والتلهي عنها بشواغل الحياة اليومية، والعشاق منهم على وجه الخصوص لم يكونوا يتطرقون إلى الإشارة لأحوالهم المادية، وكأن ذلك ينقص من صورتهم المثالية النبيلة التي يظهرونها في أشعارهم· لكن ما يعنينا في أبيات المجنون هو تركيزه على التوحد بالليل والاندماج في النهار، وتمثيله لذلك بطريقة شعرية بليغة، مما يبقى من الشعراء إنما هو جملة من التراكيب التي يصوغونها فتحمل بصمتهم الخاصة، وترتبط بهم في الذاكرة الإبداعية على مر الزمن، والمجنون ينفرد هنا بصيغتين تنسبان إليه هما ''نهار الناس'' و''هزتني المضاحع'' والأولى تشير إلى الزمن الجماعي في النهار مما يقابل الزمن الفردي المتوحد بالليل، وهو زمن تتفجر فيه براكين العواطف حتى ''تهز المضاجع'' فلا يقرّ لها المقام· والذين يتحدثون عن المعجم الشعري الخاص بكل مبدع على حدة، والمشترك بين الشعراء عامة يغفلون عن حقيقة هامة وهي أن مفردات المعاجم لا يمكن أن توصف بالشعرية أو العلمية أو غيرها، وإنما هي جارية على الألسن أو مهجورة، وحتى إذا كانت جارية في سياق خاص فهو الذي يمنحها الشعرية أو العلمية، لكن التراكيب وأشباهها هي التي تقيد الألفاظ وتحملها بالدلالات، فالوحدة الصغرى للشعر هي التركيب ابتداء من المضاف والمضاف إليه مرورًا بالجمل التامة، وهي التي يبتكرها الشعراء فتظل محفورة بأسمائهم في ضمير الثقافة· ونعود إلى ليل العشاق لنجده وسيلة لشيء آخر غير السهاد والوجد عند شعراء آخرين، وقد برعت مدرسة شعرية عريضة في الأدب العربي القديم في الحديث عن ''بدائل الوصال'' عندما تجعله الأعراف والتقاليد قاسيًا، وطيف المحبوب الزائر بالليل هو أقرب بديل ميسور، وقصائد الطيف غزيرة في التراث العربي، منها مثلاً ما يقوله ''قيس بن الخطيم'': أنّى اهتديت وكنت غير سروب وتقرب الأحلام غير قريب ما تمنعي يقظى فقد تعطيته في النوم غير مُصرَّدٍ محسوب كان المنى بلقائها فلقيتها ولهوت من لهو امرئ مكذوب والسروب هو الذي تعود على الخروج والضرب في الطرقات، والمصرّد هو المفلّ، فهو يتعجب من هذا الطيف وكيف اهتدى إلى الحبيب مع أنه لا خبرة له بالخروج ولا السعي فى الطرقات، ذلك أن الأحلام تقرّب البعيد وتجعل الحبيبة سخية غير مقلّة في عطائها خلال النوم بما تمنعه فى اليقظة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©