الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الدخول في البدائية من بوابة علوم العصر

الدخول في البدائية من بوابة علوم العصر
25 يونيو 2008 21:23
أواخر هذا العام، وتحديدا في الثاني والعشرين من شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، يكون عالم الأنتروبولوجيا الكبير كلود ليفي ـ ستراوس صاحب كتاب ''مدارات حزينة'' قد بلغ من العمر 100 عام· ولأنه واحد من أعظم المفكّرين الذين عرفهم العالم خلال القرن العشرين، ونظرا للدّور الهامّ الذي لعبه في فتح آفاق جديدة أمام الأنتروبولوجيا وأمام الفلسفة الإنسانيّة بصفة عامّة، فإنّ فرنسا سوف تخصّص له احتفالات وندوات تعرّف بأفكاره، وبالقضايا الكبرى والأساسيّة التي عالجها في مجمل أعماله خلال مَسيرته الفكريّة الطّويلة· وكانت البداية، صدور المجلّد الأوّل من أعمال كلود ليفي ـ ستراوس ضمن سلسلة ''البلياد'' الشّهيرة المختصّة في نشر أعمال عظماء الإنسانيّة من الأدباء والشّعراء والفلاسفة والمفكّرين من مختلف اللغات والثقافات· ***** قال المشرف على صدور المجلّد المذكور: ''إن دخول كلود ليفي ـ ستراوس ضمن سلسلة ''البلياد'' يمثل الاعتراف به كاتبا بالمعنى الكلاسيكي للكلمة· ونحن نتعرّف على نوع من الكتابة والأسلوب اللذين يندرجان ضمن لغة وأسلوب كل من بوسّييه وشاتوبريان· ويعني هذا الدخول إلى ''البلياد'' أيضا أنّنا نرغب في توسيع معنى ومفهوم الأدب· وهذا الأدب لم يعد معنيّا فقط باستكشاف الذّات الإنسانيّة، وإنما بمجالات أخرى مختلفة ومتعدّدة· ثمّ إن كلود ليفي ـ ستراوس يشكّل لنا نوعا جديدا من القراءة· وعندما نقرأ أعماله، فإنّنا نقوم بتجربة لشكل من أشكال الفكر، ونجد أنفسنا مجبرين على أن نجعل فكرنا يتفاعل مع أفكار الشعوب التي درس أحوالها وأوضاعها· بهذا المعنى يمكن القول إنّ كلود ليفي ـ ستراوس يحتفظ بشيء من التجربة الخاصّة بالأدب في القرن العشرين···''· اهتمامات غير طفولية ولد كلود ليفي ـ ستروس في بروكسيل (بلجيكا) يوم 28 نوفمبر/ تشرين الثاني ،1908 ومنذ الطفولة اهتمّ بثقافات الشعوب الأخرى، البعيدة بالخصوص· وكان أحيانا يحلم بالبرازيل، ذلك البلد الذي سحره فيما بعد، عندما نضج فكريا، فكتب من وحي رحلاته إليه، وإقامته الطويلة فيه، عمله الفكريّ الرّائع ''مدارات حزينة''· وعند دخوله إلى الجامعة، فتنته نظريّات فرويد في علم النفس، وأيضا أفكار ماركس· وعن هذا الأخير، كتب في ما بعد يقول: ''لقد حلّقتْ بي قراءتي لماركس بعيدًا حتى أنّني عقدت الصّلة من خلالها مع التيّار الفلسفي الذي يبدأ من كانط وينتهي بهيغل· وقد بدا لي أنّ عالما بأكمله انكشف لي· ومنذ ذلك الحين، لم يفارقني التحمّس لأفكار ماركس· ونادرًا ما كنت أنشغل بمسألة تتعلّق بعلم الاجتماع أو بالأثنولوجيا من دون أن أقوم مسبّقا بشحذ أفكاري من خلال قراءتي لصفحات من مؤلّفات مثل ''18 برومر للويس بونابرت'' أو ''نقد الفكر الاقتصادي''· أمّا النظريات والفلسفات الميتافيزيقيّة مثل الفينومينولوجيا والوجوديّة، فلم تفتن المفكر الشاب الذي هو كلود ليفي ـ ستراوس الذي اكتشف خلال السنة الفاصلة بين 1933 و،1934 كتابا سوف يحدّد مساره الفكريّ· ولم يكن هذا الكتاب غير ''المجتمع البدائي'' لروبرت· هـ· لويفي (R. H. Lowie) الذي ساعده على اكتشاف حياة وتقاليد البعض من المجتمعات البدائيّة، وجعله يشعر بأنّ فكره انفتح للمرّة الأولى على ''الهواء الطلق'' وواصفا المشاعر التي هزّت نفسه إثر قراءته للكتاب المذكور، كتب كلود ليفي ـ سترواس يقول في ''مدارات حزينة'': ''مثل حَضريّ يُطلق في الجبال، انتشيت بالفضاء في حين كانت عيني المنبهرة تعاين ثراء الأشياء وتنوّعها''· قصة الهندي بعد اكتشافه للأنثربولوجيا الأنجلو ـ أمريكية، اندفع الشاب كلود ليفي ـ ستراوس لاكتشاف الثقافات البدائيّة وفي ذهنه قصّة هندي تمَكّنَ من الفرار من القبائل الكاليفورنيّة (نسبة إلى كالفورنيا) التي كانت لا تزال متوحّشة· وعلى مدى سنوات، ظلّ هذا الهنديّ يعيش مجهولا من قبَل سكّان المدن الكبيرة، ناحتا الحجر، ليصنع منه رؤوس النّبال التي كان يصطاد بها· وشيئا فشيئا، انقرضت الحيوانات والطيور التي كان يصطادها ليجد نفسه ذات يوم عاريا وجائعا عند مدخل المدينة الكبيرة· وقد أنهى هذا الهنديّ حياته حارس عمارة في كاليفورنيا· وفي ما بعد سيكتب ليفي ـ ستراوس سائلا: ''العالم بدأ من دون الإنسان، وسوف ينتهي من دونه أيضا· والمؤسّسات والعادات والتقاليد التي كان عليّ أن أمضي الشطر الأكبر من حياتي في فهمها وفي استكشافها وإحصائها هي في حقيقة الأمر بداية تفتّح عابر لتكوين لا نملك تجاهه أيّ معنى، سوى السّماح ربّما للإنسانيّة بأن تلعب فيه دورها''· في عام ،1935 وبعد أن درّس الفلسفة في المعاهد الفرنسيّة، انطلق كلود ليفي ـ ستراوس إلى البرازيل حيث عُيّن أستاذا في جامعة ساوباولو التي ظلّ فيها حتى عام ·1938 وخلال هذه السنوات، اقترب المفكر الشاب من القبائل البدائيّة في غابات ''الأمازون''، وبدأ ينشغل بدراسة سلوكياتها، وعاداتها، وتقاليدها· ومتحدّثا عن اكتشافات كلود ليفي ـ ستراوس في هذه المرحلة الحاسمة من مسيرته الفكريّة، كتب أحدهم يقول: ''إنّ أهمّ إسهام لكلود ليفي ـ ستراوس هو مشاركته في لي عنق الرؤية الأثنولوجية المركزيّة للحضارات كما تمّ ترويجها من قبَل فلسفة التاريخ لدى ماركس: فـ''البدائيّون بحسب هذه الفلسفة يشكّلون مرحلة ثقافيّة متخلّفة في التاريخ الإنساني· واليوم، وقد أصبح تقييم الهويّات والاختلافات الثقافيّة مبدأ، فإنّه من الصّعب علينا معاينة أهمّية مثل هذا النقد· ومع ذلك، ومن دون أن نحترس، فإنّ عمق هذا المفهوم لم يختف بعد، حتى على مستوى الفكرة العفوية التي تقول إنّ المجتمعات البدائيّة قد تكون ''أقرب من الطبيعة'' من المجتمعات المحضّرة· فإن نظرنا إلى غياب الحضارة كشائبة (إيديولوجية التقدّم) أو كفضيلة (نقد الحداثة) فإنّ نفس الفكرة الغامضة حاضرة· وهذه الفكرة تقول إنّ البدائيّين ينتمون إلى الطّبيعة أكثر من انتمائهم للثقافة· وضدّ هذا، ركّز ليفي ـ ستراوس نقده قائلا إنّ هذه المجتمعَات لا تمثل مرحلة طفوليّة وسفلى في تاريخ الإنسانية· كان ليفي بروهل يتحدّث عام 1910 عن ''عقليّة ما قبل المنطق، وإنما هي مؤسّسات معقّدة لا رغبة لها في ما نمتلكه نحن بحسب مقاييس ثقافيّة· وأشكال هذه الثقافة المتوحّشة هي التي يضع ليفي ـ ستراوس أسسها في اتجاهين أساسيّين: التحليل الأنتروبولوجي لبنى الأبوّة والتحليل الأيديولوجي للحكاية الميثيولوجيّة، أي الحالات الاجتماعية العامّة والخطب الجماعيّة التي ترافقها''· نهاية الثلاثينات من القرن الماضي عاد ليفي ـ ستراوس إلى فرنسا، غير أنّ نهاية اندلاع الحرب الكونيّة الثانية جعله يسرع بالرّحيل إلى الولايات المتحدة الأمريكيّة ليعيش هناك سنوات طويلة، التقى خلالها بعدد كبير من المفكّرين والمبدعين والفنانين والفلاسفة· كما التقى العالم اللغويّ الشهير رومان جاكوبسون الذي كان أوّل من ساعده على وضع الأسس الأولى لما أصبح يسمّى بـ''البنيوّية'' التي ستصبح العدوّة اللدودة لوجوديّة سارتر ''هذا الطفل المدلّل''، وغير المحتمل الذي شغل طويلاً المشهد الفلسفي، مانعاً كلّ عمل جدّي مطالبا الناس بأن يكونوا منتبهين له هو فقط!''· بعد الحرب، أصبح ليفي ـ ستراوس مستشارا ثقافيّا في السفارة الفرنسيّة في الولايات المتحدة الأمريكيّة· وقد ظلّ في هذا المنصب حتى عام ·1948 وعند عودته إلى فرنسا، عمل في التدريس· وفي الآن نفسه انشغل بتأليف واحد من أعماله الأساسيّة، أعني بذلك ''البنى الأوّلية للقرابة'' الذي كتب في نهايته يقول: ''لقد لاحظنا هكذا أن قواعد معقّدة واعتباطيّة في الظاهر يمكن أن تختصر في عدد صغير: ليس هناك إلاّ ثلاث بنى قرابة ممكنة تتشكل بمساعدة موضوعيْ تبادل يتعلقان بطابع مفارقة وحيد، هو الطابع المتطابق أو المتفارق للنظام المدروس''· الخروج من الحلقة وخلال الخمسينات من القرن الماضي، انشغل كلود ليفي ـ ستراوس بما سمّاه ''وضع قليل من النظام داخل العلوم الإنسانيّة''· وقد كتب يقول في ''الإنسان عاريا'' الذي أصدره عام 1971: ''لقد نجحت الفلسفة ولوقت طويل في أن تحبس العلوم الإنسانيّة داخل حلقة وذلك بعدم السّماح لها بأن تدرك بالنسبة للوعي أي موضوع آخر للدّرس غير الوعي ذاته (···)· وما تريد الماركسيّة استكماله بعد روسو، وماركس، ودوركهايم، وسوسير، وفرويد هو الكشف عن موضوع للدّرس من غير الوعي· وإذن جعله في مواجهة الظواهر الإنسانيّة، في وضع مشابه للوضع الذي نجحت فيه العلوم الفيزيائيّة والطبيعيّة في أن تثبت أنّه الوحيد القادر على السّماح للمعرفة بأن تعمل وبأن تكون''· وعندما كان المثقفون الفرنسيّون منشغلين بالقضايا السياسيّة، خصوصا خلال الحرب الجزائريّة، رفض كلود ليفي ـ ستراوس الانضمام إلى صفوفهم، وأبدا لم يوقع أية عريضة من تلك العرائض التي طالبت باستقلال الشعوب المستعْمَرَة· وكان يقول: ''نحن لا نستطيع أن نقيم مجتمعا انطلاقا من نظام معيّن· وأي مجتمع هو قبل كلّ شيء مصنوع من ماضيه، ومن عاداته، ومن ممارساته: مجموعة من العوامل اللاعقلانية ضدّها تتكالب الأفكار النظريّة''· وكان يقول أيضا: ''من الأفضل أن أُوَاصل العمل بكتمان، وأن أحاول لا حلّ المشاكل الكبرى لمصير الإنسان أو لمستقبل المجتمعات، وإنّما تجاوز صعوبات صغيرة لا أهمّية لها في الوقت الرّاهن· وقد اخترتها لأنني أعتقد أنّه باستطاعتي معالجتها بطريقة دقيقة لا تقدر عليها تلك العلوم التي تسمّى بالعلوم الإنسانيّة وذلك عندما تتصدّى منذ البداية لمواضيع جدّ معقدّة على أمل أن تساهم - ولكن على مدى طويل ـ في بلورة فهم أفضل لأولويات الحياة الاجتماعية ولنشاط الفكر الإنساني''· من عام 1959 وحتى عام ،1982 وهي السنة التي تقاعد فيها، عَمِلَ كلود ليفي ـ ستراوس أستاذا في ''الكوليج دوفرانس''· وفي عام ،1973 انتُخِبَ عضوا في الأكاديميّة الفرنسيّة· عن كلود ليفي ـ ستراوس، كتب اللّغوي والفيلسوف تودوروف يقول: ''يجسّد كلود ليفي ـ ستراوس بالنسبة لي راهنا إمكانيّة تجاوز الفصل التقليديّ بين العالم والفنان· فقد عرف كيف يبيّن أنّ الفكر الميثولوجي ليس أقلّ قوّة من فكر العلماء· وقد أثبت ذلك في جميع كتبه التي لا يقلّ جمالها عن جمال الرّوايات''·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©