الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

آثار الموتى

آثار الموتى
11 مايو 2017 13:24
أعطني جمجمة لأعطيك مقبرة بوسع السماء، ورحابة الممات الذي يحصد الأرواح كمنجل في يد ملاك، هو ملك الموت! أعطني جمجمة لأعطيك وطناً لموتى يتساقطون فوق قارعة الطريق على هيئة نجوم ثنائية، يكسف إحداها الآخر فيحجب ضوءه، ويسيران معاً في كوكبة بنات نعش كنجمة رأس الغول ونجمة الشيطان، حتى يشيخا، يخرجان من السديم في عربة الموت، لا أدري، هل يتوقفان ليتأملا وجهه أم ينسيا وجههما فيه؟ ما حصل مع الشاعرة الأميركية إميلي ديكنسون، ليس مختلفاً وإنْ بدا كذلك، فقد توقفت حين رأت الموت يسير إليها، لتسير معه وقد أوقفت عربته لتمضي بذاتها نحو الأبدية! ولذلك كان عنوان قصيدتها قراراً وجودياً أنهت به حياتها وهي «ترفض التوقف من أجل الموت»! كوكبان بلا أقمار لنجم الصباح «كوكب الزهرة»، أن يحيا وحيداً بعد أن أفلت قمره في برية الكواكب السماوية، ففرط برمزه الفلكي كرسول للآلهة، إذ شذ عن مداره، وقل ميله المحوري إليه، فهل تحزن على هرمس المهاجر «عطارد»؟ أم تأسى على الذي هجره وأنت تراهما - دون غيرهما - كوكبين وحيدين بلا أقمار؟ أن تنسلخ عن كوكبك، تفلت منه، هرباً ربما، ربما اختباء، تمرداً، تفريطاً، لا أدري، المهم أنه انفصال، حدث قبل أن يتمكن غاليليو من رؤيته بلا مجهر فضائي، بعيداً عن عيون المتلصصين الفلكيين، حيث يتعلق العاشقان بروح هيرمس الذي يعلق بينهما كبومة الموت ناقلاً أرواح الموتى من صولجان الآلهة الأسطوري إلى العالم السفلي... شيء يشبك السحر باللعنة: القوى الخارقة باختراق القوة، كأنهما كوكبان جمجميان، لا يلتقيان ولا ينفصلان سوى من الموت إلى الموت! عِلم الجماجم في قسم الموتى، في متحف لندن، ترى جثثاً محنطة، لفراعنة ملفوفين بالشاش، مع صور أشعة لهياكلهم العظمية على جداريات العرض الزجاجية...إنه معرض للموتى، يدخل فيه فن الميتوبوسكوبي الذي تعصب له أرسطو، وقد استعان به لقراءة ملامح الجمجمة، وهناك أيضاً «Phrenology» كما أطلق عليه «توماس فوستر» وبه حدد الصفات العقلية الوراثية للكرة العظمية، فهل لك أن تصدق مثلاً أن ديكارت انحاز لتأملاته التشريحية المحدودة، عن وحدة الوعي والتفكير في جسد تقوم بنيته في معظمها على ثنائية لافتة قوامها العينان والأذنان والشفتان والوجنتان والقدمان واليدان.. فإذا ما أخذت بعين الاعتبار بيولوجيا الأعصاب ونظرية الأمزجة، لن تفاجأ بالتأملات التخيلية التي راقت لأصحابها حتى وإنْ لم تكن صحيحة علمياً، أو منطقياً، وهذا تحديداً ما يدفعك للإصرار على افتراض يقيني لآخر لوحة رسمها غويا! إنها لوحة الموت: جمجمة غويا المفقودة! ليس مهماً من أو كيف أو لماذا اختطفت «جمجمة غويا من مقبرته بعد موته»، الأهم من هذا كله، أن السرقة بحد ذاتها كان عملاً رمزياً إبداعياً أكثر منه لصوصياً، غاية في الإبهار والدهشة، فهل تحسد الميت؟ أم لوحته!. حوار بين جمجمتين لهنري وادزورث لونغفيلو قصيدة «جمجمة في درع» استوحاها من هيكل عظمي حقيقي خلده بها، بعدما تم العثور عليه في بلدة «Fall River» مقاطعة بريستول عام 1832، أثناء انزلاق كتلة ترابية إثر عمليات حفر، أماطت الرمل عن هيكل عظمي ربما محنط، بوضعية الجلوس يرتدي درعاً وحزاماً من نحاس، قيل إنه لبحار قرطاجي أو فينيقي أو مصري، وفي نظرية أخرى تعيده إلى الهنود الحمر، غير أن الشاعر اختار النظرية الثالثة: قرصاناً من بحارة الفايكنغ، ليكون بطل قصيدته، بعيونه الغائمة الكهفية، وصوت ويله الذي يأتيه من غرفة القلب، يسأله الشاعر عن سبب مطاردته إليه، فيجيب أنه جاء ليفزع أحدهم بما يحمله له من لعنة! يشتغل لونغفيلو على ثيمة الذاكرة والمخيلة، فينسج شريطاً استعاداتياً له من خلال حبك مخيلاتي، ومخزون معرفي، وخفة يد سحرية تبث الحياة في روح تلك الجمجمة، فيراه طفلاً في حقول الثلج يلهو مع كوائن الطبيعة والحيوانات، قبل أن يكبر وينضم لطاقم أحد قراصنة البحر ليقود الحياة كبرية، يقتل نفوساً بريئة ويمزق قلوباً تنفيذاً للأوامر، قبل أن تأتي تلك الليلة التي لمح بها عيون الخادمة الزرقاء! يعيش الشاعر طريداً لحكاية ذاك الهيكل العظمي الذي شرب أرواح المحاربين ومات بندوب تملأ وجهه، فاقداً المرأة التي أحب، جف عمره ودموعها وقد رحلت عنه أماً، ليموت من أجلها عاشقاً... يدين له الموت بالامتنان إليه! لا يخلو طقس القصيدة من التماهي والتقمص، مع الانزياح العاطفي الذي تتداخل فيه جوانية الشاعر بوجدانية الجمجمة في انعكاس مذهل لظلال المرايا وبؤرها الضوئية الافتراضية، خاصة في اكتمال العلاقة بين العاشقين في طورهما الجمجمي، مع لعب مضمر على البعد الميثولوجي لوحوش بحر الشمال، فماذا بعد؟ ثروة من الهياكل لا بد، أنك تسأل نفسك كثيراً عن ملكوت المقابر، فهل تتسع هذه الأرض لكل أولئك الموتى عبر حقبة مديدة من العصور؟ ولا بد أن شاعر المعرة لفته ما لفتك قبلك، حين رأى القبور تملأ الرحب، والموتى يتكاثرون كما الأحياء، متسائلاً عن الأجداث من عهد عاد، ولكن ما يدهشك في تأمله أنه تجاوز التساؤل إلى التقمص ببيت شعري واحد، هو في واقع الحال، حالة شعرية مكتملة، بكل تكثيفها الفلسفي العميق، لا ترتكز على استعارة الذاكرة لإعادة تصنيعها عبر المخيلة، بقدر ما هي مشحونة بمقدرة شعورية وإحساس ثقيل بوجع الموتى، أو انزعاجهم من وطأة الأقدام التي تدوس أديمهم وتقض مضاجعهم بلا اكتراث! هذا البيت وحده، غاص عميقاً تحت الأرض، وقبل لونغفيلو أو حتى سراديب الموت التي تمتد إلى عمق خمسة وعشرين متراً تحت الأرض منذ القرن الثامن عشر في باريس، تذهب إليها لتلتقي موتاها، تصغي إلى أنين ضجرهم، قبل سياح الموت في معارض ومتاحف الهياكل العظمية حول العالم! ممرات خافتة، باردة، طويلة، لا نهائية، تقودك إلى غرف صغيرة، جدرانها مشيدة من رؤوس الجماجم والعظام البشرية!! وأنت الآن في اللامكان! فهل أنت ميت؟ لا تسأل عن الروح في هذا المجهول العظمي الذي لا تعرف هوية هياكله، لأن المجهول يضل ولا يدل! ربما أنك تحس بالظلم لكل هذا الغموض الذي يكتنف الموتى، فمن هم؟ متى عاشوا؟ ومتى تحولوا إلى رفات؟ عالم الموتى هو عالم الأسئلة، التي لا تنتظر جوابا سوى الصدى، في زمن رقمي يحول الأحياء إلى أرقام، يحاكيه زمن الموت في مقبرة «هالستات» في النمسا التي تضم سجلات رقمية توثق لاسم كل متوفى وتاريخ وفاته على جمجمته! تحت الأرض، هناك مدن هائلة سكانها من الجماجم والهياكل العظمية والرفات، حقول من حقول العظام المتكدسة في الكهوف الخبيئة وراء الجبال في إثيوبيا، منذ قرون، معارض ومتاحف للموتى في الأديرة والكنائس التي تتزين بعظام بشرية تحت الأرض، ككنيسة «سيدليك» في جمهورية التشيك، وإنْ أردت أن تحتفظ بميتك، ضمه إلى تلك الكاتدرائية التي تثبت عظم الجمجمة بالشمع لتحفظ ملامح وجهها..... حينها لن تقهر الموت تماماً، إنما ستحتفظ به في إطار شمعي تعلقه على جداريات الموت، وتزوره بين ذاكرة وأخرى، لتلقي على جمجمته السلام! الموتى لا يموتون تماماً، خاصة في بوليفيا التي يأخذ شعبها جماجم موتاهم إلى القداس كل يوم أحد، لإحياء ذكراهم، فهل فكرت أن تصطحب معك ميتك إلى الصلاة، كي لا يموت! والموتى لا يموتون لأنهم لم يزالوا قادرين على مساعدة الفقراء ومد يد العون للمحتاجين في ها العالم، لأن بعضهم يزين جماجم أحبته بالقطع الذهبية كنوع من التبرع على روح الميت...وهي صورة حنونة وقاسية في آنٍ، لأن الروح عند هؤلاء هي الجمجمة! وقد تكون مهرجانات الموت في المكسيك مثلاً، بكل استعراضاتها العظمية والجمجمية مهرجانات احتفالية، لإثارة البهجة والفرح ومراقصة الموتى في ساحات مفتوحة ترفع فيها الأنخاب للأبدية، فهل تلومهم! أم أنه عليك أن تتأمل ما يدور في خلدهم وهم يكرسون هذه الثقافة كمظهر من مظاهر السعادة والخلود! الموت حين يصبح غيبياً تماماً، يصعب التعلق به، فمسألة نسيانه وتذكره تخضع لمزاج استحضاري طيفي، وليس مادياً، ومن يرتبطون بالذاكرة المجسمة لن تكفيهم الروائح ولا الطيوف، كلها مجاهيل أكثر منها مدلولات، ولذلك يمكنك الاعتماد على الهياكل العظمية كآثار للموتى بامتياز، ما دمت سائحاً عظمياً! الرسم برماد الموتى «رومان تيك»، فنان تشيكي، مغامر، يخترق المجهول ليرسم برماده المحترق، متحدياً وقار وهيبة الموت، سارقاً أمه من علبة العظم تلك أو من الصور والمخيلة بعد أن فقدها طفلاً، ليعيدها إلى الحياة برمادها، أي بجسدها، ثم ينثره بعد انتهاء العرض بمكان يليق به، فاللوحات ليست للبيع، إنما للبعث! الفكرة مجنونة، وخطيرة، وقاسية وحنونة، لكنها ليست شجاعة ولا هي جبانة، لأنك حين تمسك برماد من تحب، تشتغل به، تشغله وتشاغله، لن تحتاج إلى ما هو أكثر من الجنون، علماً بأنك حين تستغرق بحالته لا تندهش من فكرته بالاستناد إلى الفن لتهشيم تابوهات الموت، بتقنية إبداعة مرهفة، فيها من القدسية والرقي ما يشفع لها، في حين أن الحرب تدوس، وتهرس الموتى، بلا أية شفقة، ولا رحمة، وبأقذر الطرق وأبشعها، ممتهنة كرامتهم وحرمة موتهم! فماذا بعد؟ أن تمارس الحب مع الموتى إياك ثم إياك، أن تظن أن هذه الحالة تحيل إلى الشذوذ البشري الذي يحول الآدميين إلى أبالسة ووحوش، أبداً! عليك أن تجنح إلى الرمزية في التعاطي مع مخيال لعين كهذا؟ هناك جمهرة من الشعراء المعاصرين في أوروبا، يخوضون تجربة التواصل مع الموتى والهياكل العظمية إبداعياً، عن طريق الوشم أو القصص القصيرة أو المقطوعات الشعرية المكثفة، شيء أشبه بالهاكرز الفني الذي يخترق منظومة الموتى والمجهول، بما أوتي من مهارة ودراية، وخفة عقل، قادرة على صياغة علاقات طبيعية معهم، ولكن هل حقاً تحتاج في شغلك الإبداعي إلى افتراض هذا النمط العلاقاتي المستحيل!؟ أين هو عالم الأموات بالضبط؟ بمعنى آخر، هل تحتاج إلى جثة أو إلى هيكل عظمي لتجرب ممارسة الحب مع الموتى؟ ثم هل يحتاج الإنسان للموت كي يموت؟ هل الموت ظرف أم حالة أم قدر أم هيئة أم شعور؟ قد لا يكون من الضروري لك أن تكون ميتاً لتقع في حب هيكل عظمي؟ يكفيك فقط أن تكون شجاعاً بما يكفي لتدرك أن من هم فوق الأرض أقل حياة ممن يعيشون تحتها، وأن العشاق أول الموتى وآخر من يدخل الأبدية بلا جثة، وبلا أثر ولو حتى رقم أو صرة رماد أو صورة أشعة، العشاق لا يموتون ليس لأنهم أبناء الحياة، بل لأنهم ملائكة الموت ورسل الآلهة إلى العالم السفلي، إنهم أبناء هرمز، فلا تأسف بعد هذا على نجم الصباح، يسبح وحده كجمجمة قناصة في برية الأولمب، قلب حجرها القمري عليها، وقلبها على حجر الشمس.... يا إلهي ما أوطأ المدى في مقابر الفلك!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©