الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

جماليّات التأويل

جماليّات التأويل
9 مايو 2017 20:03
أستهل موضوعي عن المحامل أو السفن الشراعية بأبيات استوقفتني للشاعر الخليجي الرائع غازي القصيبي: خليج ما وشوش المحار في أذني إلا سمعتك صوتاً دافئ الخدر ولا ترنَّم ملاح بأغنية إلا وضجَّت أغاني الغوص في السحر ولا رأيت شراعاً ضمَّهُ أفقٌ إلا ومرّت هواري الصيد في فكري لا توجد أية قراءة بريئة ومحايدة لأي تراث تقليدي موروث، إذ لابد ومن خلال تلك القراءة أن نستحضر موقفاً فكرياً يعشش في داخلنا، فنعبّر عنه أجمل تعبير، إن جازت هذه العبارة. فاستحضار أي تراث يثير تلك العلاقة الجدلية بين المتلقي والباث أولاً، وبين إسقاط أيدولوجيتنا على النص الموروث ثانياً. فإن كان موضوعنا اليوم سوف يسقط تلك الذات الفاعلة على مصطلح المحامل أو السفن التقليدية وأثرها على ثقافتنا الشعبية لإبراز الدور الثقافي الملموس لتلك السفن، فإننا سوف نعمل جاهدين على جعل النسق القرائي أكثر موضوعية، ليستوعبه الناس بمستوياتهم المتباينة. وبالتالي يمكننا تنشيط المصطلح والنظر إليه نظرة تراكمية، لمقارعة التراث بالموروث محتفظاً بدلالته الجوهرية، لترتقي تلك المحامل إلى سلم القيم البراجماتية. فالعلاقة بين الدور الاستراتيجي القار في تطور الحركة الملاحية والتجارية علاقة تكشف عن المخزون الثقافي لدى القارئ الذي سوف يكون بين مدّ وجزر، بين انفصال واتصال حتى تتضح في ذهنه عوالم البناء القيمي لتلك السفن التي تعدّ في ذاك الوقت هي الوسيلة الوحيدة للسفر، والتجارة، والنقل واستخراج اللؤلؤ وسواها... بحيث يكون المتلقي قادراً على استيعاب المعطيات، لإنتاج الخطاب المعرفي الذي يؤسس لتبادل المنفعة بين الإنسان وبين تلك السفن، بعيداً عن التمويه أو التغافل لزمنية الموضوع وتاريخ التأصيل له، رغم اختلاف الرؤيا وتضارب الآراء حوله. وإذا سلمنا جدلاً بكون تلك السفن وسيلة التواصل بين الشعوب، والتبادل الثقافي الثري، فإننا سنلمح وعياً ثقافياً ديناميكياً يؤطر لتلك المحاولات التأصيلية لحركة السفن التقليدية عبر إرث تراكمي من الجذور، والذي نجده واضحاً من خلال سلسلة طويلة لأجدادنا الأشاوس الذين أمسكوا بيدهم تلك الطاقات الجادة التي اكتسبت شرعيتها بمساعدة الجهود المبذولة، لتوثيق العناصر الحضورية بهدف استنطاق تلك السفن، وتوظيف دلالاتها دون التشرنق حول مفهومها السطحي فقط، لأن تلك السفن هي صروح متصاعدة مع المواقف بالاتفاق مع ديمومة المشاعر، والإحساس بربان تلك السفينة، إضافة إلى جملة من القيم الفلسفية، والفضاءات الفكرية المتناغمة مع أغاني الغوص في نفس أسطوري رمزي رائع. تدور في مخيلتي الآن جملة من الاستفسارات والإيحاءات التي تركت أثراً في الثقافة الشعبية للمحامل التقليدية، هل يا ترى عكست تلك الوسيلة المميزة حكايات الآباء والأجداد كما ينبغي أن تكون؟ هل سار هؤلاء وفق التصورات والضوابط التي جعلتهم محط أنظار العالم المحيط بهم وبمن جاء بعدهم؟ هل تبوأ الربان تلك المكانة التي يستحقها؟ هل كان لتلك المحامل إيحاءات تركت وراءها دوراً ريادياً في الإشعاع المعرفي والثقافي والفني؟ هل الدور الثقافي لتلك السفن تضمن ذاك النسق المضمر أو المنجز المسكوت عنه، والذي يشمل الدور الاستراتيجي الفاعل في تطور الحركة الملاحية والتجارية المعروفة منذ القدم؟ إن إشكالية تلك الاستفسارات كلها تعني الرسوخ لكسب الرهان وديمومة المشاعر والقيم للجمع بين الأصالة والحداثة تارة، وبين النزوع إلى عبق الماضي الأصيل مع التمسك بالحاضر الجميل وتمجيده تارة أخرى، لاستيعاب النفس الأسطوري لقصة البحر والسفن المتناغمة مع فضاءات سوسيولوجيا الواقع المأساوي الذي يتركه الغواصون في عرض البحر في بعض الأحايين. وبعد، هل يا ترى تتقاطع كل هذه الأنساق مع المدلولات لتأكيد القيمة الإيجابية التي يبحث عنها كلٌ من الربان والسفينة! لا شك أن استراتيجية توظيف تلك المحامل لتحقيق التواصل والتبادل الثقافي والحضاري بين أبناء الخليج وبين شعوب العالم أجمع يبرز هذا الدور الريادي الذي تحتله تلك السفن عبر الأجيال، إذن لابد أن نقر ونعترف أنه إرث متراكم تعددت مناهجه، واختلفت مسالكه مخلفة لنا طاقات إبداعية اكتسبت شرعيتها من قوة تلك السواعد الجبارة الحريصة دوماً على تثبيت المد الحضاري، لإنجاح التداخل والتمازج والتماهي بزخم ثقافي متلاحق يولَّد ملحمة جديدة تضم أبطالاً آخرين، لتدشين عوالم أخرى شعارها الطاقة التحفيزية عبر منظومة من التصورات المختلفة حيناً، والمؤتلفة حيناً آخر، لتشكيل الهوية دون طمس المعالم التراثية أو إبعادها عن أرض الواقع المعيش، والتمركز حول الذات الفاعلة فقط دون الانخراط مع الأنساق الأخرى. إن مثل هذا التواصل تجسده تلك التجربة الفنية والتي تنبثق من حصيلة ثقافية تستمد مادتها من نصوص راسخة عتيدة تحدَّثت عن تلك السفن من الأعماق دون استسلام أو خنوع. إن تلك السفن لها بعدُ تراثي مهم يجسد تلك العلاقة الحميمية جداً بين الخليجي وبين السفينة الشراعية، والموضوع لا يتوقف بالطبع أمام الدلالة اللفظية، لأنها لا تكفي لبناء ذاك التواصل الذي تحدده العلاقة بين الشاعر وبين النص باعتماد التلميح تارة، والرمز تارة أخرى لينتهي الأمر إلى موقف سجالي رائع تدخل فيه جميع الأطراف المعنية دون صدام فكري، أو فرضيات شائكة... وهذه هي الصفحات المضيئة في تاريخنا الطويل. إننا أمام لوحة فنية رائعة تدير حوارات فكرية ونفسية مع عدة أطراف ملموسة، لمحاولة تشريحها وبث الحياة في ثناياها، وإن كانت سقيمة في فترة زمنية محدودة فقط ولم تستمر كذلك، لأننا لن نتعايش مرة أخرى مع انكسارات الحدود الطبيعية والقسرية، بل سوف نتعامل مع تلك الظاهرة بنفَس قوي، وفاعلية ثقافية، وأهداف نموذجية دون ضياع القناعة عبر تجلياتها الحالمة. إذن ستظل تلك الأسطورة البحرية الخليجية مستمرة وقوية بوصفها موازية للحياة، دون أن تفتقد بُعدها التاريخي على مر الزمن، بل سيظل ذاك الصراع الزمني متوهجاً براقاً وفقاً للنقلات النوعية المتلاحقة، المتقاطعة مع الزمن الذي يشهد على بقائها، لتعميق إحساس الغواص والربان بالنجاحات التي حققها عبر التاريخ الطويل ليكون خطاباً غير مألوف، يتصالح فيه الوعي مع الذات لإنجاح الوظيفة الميتافيزيقية والسيكولوجية عبر الرحلات البحرية الطويلة والشائكة التي قطعتها تلك المحامل منذ أقدم العصور. ستظل تلك العلاقة الحضارية باقية خالدة أمانة في أعناق محبيها وعشاقها يسلمها السابق للاحق بحب لا تتغير معالمه على مر الأزمان. إنها من أجمل اللوحات التي اخترقت أفق المتلقي على جميع المستويات، وسجلت حضوراً رائعاً يشهد عليه التاريخ وتلك هي روعة التماهي في النسق المضمر حيناً والمفصح عنه حيناً آخر. ....................................................... * أستاذة البلاغة العربية
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©