الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشعر في معركة الوجود

الشعر في معركة الوجود
18 مارس 2015 21:10
الفن معرفة وعمل، معرفة خلاّقة وعمل تضيئه المعرفة والتعبير يوحدهما، والمادة هي الوسيلة التي يستخدمها التعبير كي يمد جسراً بين المعرفة والعمل، فهي الرخام عند النحات والأصوات عن الموسيقي والألوان عند المصور وهي مفردات اللغة عند الشاعر. إنها ليست الصورة أبداً، ذلك أن الصورة تعبير استخدم الكلمة لتجسيد الأثر الفني أو فعل المعرفة الخلاقة. الشعر والمعرفة يجب أن نؤكد قيمة الشعر كمعرفة قد تكون أعلى من معرفة الظواهو ومن ميتافيزياء الكينونة، ذلك أنها تبصر ما لا يبصره العلم، وتدرك ما تحاول الفلسفة إدراكه ولا تبلغه مع الأسف إلا نادراً، يجب أن نؤكد ذلك ضد الذين يريدون أن يخفضوا منها بجعل الشعر فاعلية زيان قاصدين منه تكنية شعورية أو قيادة كلمات. لا شيء أكثر دلالة في هذا الموضوع من دور الأسطورة في الفكر الأفلاطوني، فأفلاطون في جدله لا يدخل الأسطورة لكي ينفي العقل، فهي ليست بناء كيفياً للتخيل كي يسلو به كسل البصيرة، إنها عون تقدمه الصور إلى وهن العقل كيما تقويه وتعرفه على ما هو قريب من المعقول دون أن يكون ممكن الإثبات، وهكذا تأخذ بيد العقل للعلو على ذاته كي يبلغ تخومه أو يتجاوزها غالباً، إن أفلاطون يستدعي الصور لكي يفهم رمزياً ما لا يفهم مباشرة. لهذا يمكن التكلم في آن معاً عن دور الأسطورة الأفلاطونية شعرياً وفلسفياً، في هذا على وجه الدقة تكمن عظمة كل شعر أصيل.. فهو يقودنا معتمداً على الحواس والصور والشعور إلى أكثر الأفراح علواً لفكر بدأ يتعاطف ليدرك بشكل أفضل. المعرفة الشعرية والشاعر الحديث عن المعرفة يضع الشاعر نفسه فوراً موضع البحث، إذ إن المعرفة هي العالم المنعكس على مرآة الوعي، وعي الشاعر. وبمعنى أول، نصادف هنا حقيقة أن كل شعر هو شعر ملتزم، ملتزم في وعي الشاعر، هذا الالتزام لا ينجم عن اتخاذ موقف فلسفي أو سياسي، بل عن كون الشاعر يقدم كل طاقات الشخص لهذا الملقى مع العالم، إذا كان الشاعر سطحياً يبقى العالم خارج شعره كمنظر وراء نافذة مغلقة، ولكن إذا كان الشاعر شخصانياً حقاً، إذا كانت كل موجبات حساسيته وبصيرته، إذا كانت كل ثروات ذكرياته وتاريخه وتجربته في الحب والموت والحرية مجمعة في البؤرة المركزية لحضوره، حينذاك يتغور الكون كله في روحه، ويصبح عبره لوحة إنسانية مثقلة بالمداليل الإنسانية، فالشاعر يؤنسن العالم عبر وعيه. غير أن وعي الشاعر هذا موجب للوحدة ذلك أننا لا نعقل إلا ما نوحده، يعقل العلم بادراكه العلاقات الجلية للظواهر، وتعقل الفلسفة باكتشافها العلائق الوجودية اللامرئية، ويريد الشعر أن يعقل بأن يعنى بالمرئي واللامرئي، في آن معاً، مستخرجاً اللامرئي في شبكة المرئي، ولهذا فهو لا يصل أبداً إلى إدراك نير يمكن اثباته ولكن إلى ادراك غني غامض. حذار. إن غنى الشعر ليس على قدر غموضه، كما يرى هؤلاء الذين لا يميزون بين العمق والغموض، غير أن الغنى والغموض يتولدان من كثافة التجربة الحية التي يريد الشاعر أن يعقلها عبر وعيه. ولهذا فإن القصيدة الحقة لا تنتهي مطلقاً بأن تذوب في وعي سامعها، لأنها لم تنه البتة تعبيرها عن كل الغنى الخفي الذي حضنت بذرته. الشاعر والعالم إذا كان وعي الشاعر موجباً للوحدة فمن المتوقع إذن في استقباله للعالم بحواسه النهمة وبصيرته المنفتحة أن يسعى لتوحيده. حينذاك يكتشف بأن الأشياء التي تعمر العالم أصبحت تتوامأ وبأنها تقدم توحداً في صميم تباينها، وبأن كلا منها يتلاقى مع الآخر كخيوط نسيج واحد، وبأن «الوحدة تباين». الحجرة نية صامتة، الزهرة نية ملونة، والحيوان زهرة أكثر غرابة، والبحر يحضن القارات لكي يدفع عنها الوحدة، والوعي الإنساني هو المرآة التي تتجمع فيها كل محاسن الكون. إن صلة تزاوجية تنهض بين أكثر الأشياء تبايناً، الأشياء التي تبرز تبايناتها فوق أساس من الوحدة، أن عهداً من السلام يوحد عناصر الكون التي تتجلى حينئذ كأبيات قصيدة واحدة، والشاعر هو الذي يقرأ هذا العهد، هو الذي يحققه في كلماته ويجعلنا نحسه عبر قصيدته. الشاعر هو مكتشف الوحدة، جامع القارات، سفير وطن في غيهب النسيان يتوقد الحنين إليه في دخيلاء كل منا، هو يد للتكوين. الصورة، الإيقاع، الكلمة حينذاك يوجب الصورة الدور الشعري للمعرفة فهي رمز هذه الوحدة التي يبحث الشاعر عنها كفردوس مفقود، إنه تنشئ علاقات بين الأشياء وأكثر الحوادث بعداً، تقص أعراس الألوان والأصوات، الأصوات والطيوب، الطيوب والطبيعة، الطبيعة والناس، الناس والمجتمعات، الموت والحياة. لهذا لا توجد صورة نهائية، لهذا يستطيع الشاعر أن ينهل صوره من أي كون: كون الريفي، المدني، السائح، العامل في منجمه، المحارب في ميدان المعركة، ما من صورة لا تصير تلقائياً شعرية، شريطة أن تكون «صورة»، يعني أن تكثف تجربة وتكون وصية لقاء وذكرى علاقة حارة كالنار، وأن تجعل الوجود حاضراً. بهذا العمق ذاته يأخذ إيقاع القصيدة أو الشعر دلالته، فمنذ أن يحصل الإيقاع من مجرد جناس الكلمات، يجعلنا ننسى أن ينبوعه الحقيقي ليس صورياً، أن مهمته هي في أن ينبهنا لحركة الوجود التي التقطتها القصيدة، على إيقاع القصيدة أن يحيي نبض الوجود، كما يحيي نبض الدم إيقاع القلب. من هنا، كذلك، قداسة الكلمة للشاعر، الكلمة ذخر تجربة شاملة يوجزها ويستخلص منها حدتها كلها، هي رماد بركان ابترد يغللها الشاعر في كلمات أخرى لكي يخلق المناخ الذي يعود فيه هذا الرماد المبترد للغليان من جديد. إن أحداً لا يعرف قيمة الكلمة أكثر من الشاعر هو لا يجل الكلمات لقيمة جرسها فقط، بل لا مكان لعالم تتضمنه وتبعثه فينا، إذا عرفنا أن نتلقاها بإجلال كثير. الشاعر والالتزام السياسة وليدة يأس الشعر، إذا كنا جميعاً شعراء أصيلين فسنصوغ كل لحظة رؤية لوحدة الأشياء والناس لدرجة أن تفقد السياسة علة وجودها، أو بالأحرى ألا تحتفظ إلا بعلة وجودها المفردة الوحيدة وهي أن تنظم على وجه عملي رؤية الشاعر وتدخل فيها الناس جميعاً وفق مساواة خالصة. من سوء الحظ أن هؤلاء المؤهلين لرؤية شعرية نادرون: فالبعض أعمياء عن الشعر كما أن آخرين ضم عن الأصوات، وفضلاً عن ذلك فإن الشعراء أنفسهم غير أمناء غالباً لرؤيتهم الشعرية: فهي تمثل قمة من حياتهم يصعب عليهم جداً أن يبقوا في سويتها، ولذلك يخونونها مراراً، وأن احتفظوا منها بحنين منهوم. بيد أنهم سيجدون هنا معنى آخر للالتزام في الشعر.. أن الشاعر الذي توصل في لحظة أثيرة من وجوده، إلى كشف وحدة العالم في وحدة وعيه، لن يتقبل أبداً إذا ظل أميناً لها، فوضى منازعه الشخصية وسيولد معه أينما كان حالة شعرية ليس لإشعاعها الأكثر مبادأة إلا أن يبدع مناخاً من الصداقة والوعي أنى يمر. الشاعر هو من يُلين المقاومات، من يُذيب العصبيات ويفتح المطاف للتعاطف والصداقة وهو في خلقه محيطاً من الحب يشهد فقط لتقديسه الشعر، هنا يتساوى الشعر والقداسة. العمل الشعري والعمل السياسي ولكن مادام الشعراء الحقيقيون نادرين ومادامت حتى بالنسبة لهؤلاء لحظات الشعر الحقيقية غير مطردة إذ ذاك تصبح السياسة ضرورية، ليس فقط بتمظهرها التنظيمي كما رأينا آنفاً، بل بتمظهرها صراعاة وقيادة وعملاً. في حقل الصراع هذا حيث يتضاد الناس ويقتتلون لانتصار مثلهم سيحصل للشاعر أو أن ثالث للالتزام، ذلك أن ليس له امتياز عيان متآلف عن العالم، كي يتفلت منه حين يصبح ضرورياً أن يحارب لأجل هذا الحق بتآلف تبدو فيه الإنسانية جمعاً أنها تطالب بما يخصها عبر صوته الخاص. غير أننا إذ نميز بين شهادة الشاعر من حيث هو رجل سياسي، صحفي أو عسكري، ومن حيث هو شاعر يكمل مهمته الشعرية: فهل يبقى له سبيل للالتزام؟ بلى، فبقدر ما على شعره أن يكون دعوة لنا إلى الوحدة إلى العدالة، إلى الحب، وبكلمة واحدة إلى أنسنة الكون بقدر ما عليه أن يكشف لنا قنوط العالم منذ أن يتصدع وينقلب عالماً لا إنسانياً، وإذ يبقى الشعر إلف الدلالة الضائعة، إذ ذاك يهيج فينا الحنين لما كان واجب الوجود. هناك شعر غياب يمنح رونقاً موهماً لغياب الشعر عن عالم تسود فيه اللاعدالة وقلة المحبة وفقدان تقدير الأشياء كلها، يعني، عن عالم، بدل أن ينقذ وحدته، يترك نفسه يتصدع مزقاً لا ترابط فيها. إن شعر الغياب هذا، الذي تبنجس منه نداءات والزامات هو الكفاح السياسي للشاعر، كشاعر أنه حينذاك كما يبدو جلياً معرفة للسلب لحظة هو نداء إيجابي للعمل، إنه في كشفه لنا هول عالم لا شعر فيه يقودنا بقوة إلى عالم من الشعر. الشاعر والاستشهاد هل يوجد محل عبر هذا التخم، لشكل آخر للالتزام السياسي؟ بوسائل الشعر وعبر التعبير الشعري، لا أظن يوجد محل فقط لصراع سياسي بوسائل خاصة بالسياسة. أكيد إذن أن العالم هو أحياناً عديم التآلف لدرجة أن كل شعر يتغرب عنه بحيث أن الشاعر ملزم هو أيضاً بأن يتغرب عن كل شعر. إن استشهاد الشاعر عالم أضاع فيه الشعر دمه كله، آنئذ يبقى له أن يقدم دمه الخاص أملاً ببعث الشعر. * فيلسوف لبناني، ولد في مصر (1915 - 2003). كان محاضرا رائدا من على منابر بيروت، في الندوة اللبنانية خاصة، وفي باريس بعد سنة 1969، والنص نشرته مجلة «شعر»، في عددها الصادر في شتاء 1957.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©