الثلاثاء 16 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

عوالم البيت العائم

عوالم البيت العائم
11 مايو 2017 10:44
1 الدِّيك وسفينة نوح يعود أول ظهور للسفينة في تاريخ الملاحة العربية، إلى عهد نوح عليه السلام، باعتباره أول من ركب البحر، وأوّل من رتّب أسبابه، وأوّل من صنع السفينة. وبما أن نوحاً، كما يشير الإخباريون العرب، يعتبر هو النسل التاسع فقط من ذريّة الإنسان التي تبدأ بآدم، وأنه الأب الثاني للجنس البشري، فإن ما يهمنا هنا هو ملامسة الأبعاد الأسطورية والرمزية التي حملتها سفينة نوح في قصة الطوفان الشهيرة. فبعد أن كفر قوم نوح، عُبّاد الأصنام به وبدعوته، وبعد أن آذوه واستهزؤوا به وأعرضوا عنه؛ فإن نوحاً دعا ربّه بأن يحل بهم الدّمار وأن لا يبقي من ذريتهم أحداً. فاستجاب له الله، وحكم عليهم الهلاك بالطوفان، فأنجاه هو وقومه بأن أوحى إليه بصنع السفينة والسير بها بين جبال الأمواج العاتية. هذه هي قصة الطوفان بإيجاز شديد. ولكن لنعد لدلالات سفينة نوح، فهي تستحق منا وقفة خاصة. يقول الثعلبي: «قال (نوح) يا رب كيف أتخذ هذا البيت؟ قال: اجعله أزور على ثلاث صور، رأسه كرأس الدّيك وجوفه كجوف الطير وذنبه كذنب الدّيك مائلاً. واجعلها ثلاث طبقات، واجعل طولها ثمانين ذراعاً وعرضها خمسين ذراعاً وطولها في السماء ثلاثين ذراعاً، والذّراع إلى المنكب. هذا قول أهل الكتاب» (i). شكل السفينة الأسطوري الأول عند العرب، كان إذاً على شكل مظهر جسم الدِّيك، والدّيك طير، ولكنه كما هو معروف، لا يطير. غير أن الأصمعي، له رأي آخر، فهو يقول: «إن العرب كانت تزعم أن الديك كان ذا جناح يطير به في الجو وأن الغراب كان ذا جناح كجناح الديك لا يطير به وانهما تنادما ليلة في حان يشربان فنفذ شرابهما، فقال الغراب للديك: لو أعرتني جناحك لأتيتك بشراب. فأعاره جناحه فطار ولم يرجع. فزعموا أن الديك إنما يصيح عند الفجر استدعاءً لجناحه من الغراب» (ii). وهناك أسطورة أخرى، عن تحوّل الديك إلى أسير داجن لا يطير، يوردها ابن سيرين، في كتابه «تفسير الأحلام الكبير»، فهو يقول: «إن نوحاً عليه السلام، أدخل الديك والبدرج (طائر أكبر من الدجاج أحمر العينين) السفينة. فلما نضب الماء ولم يأته الإذن من الله تعالى في إخراج من معه من السفينة، سأل البدرجُ نوحاً أن يأذن له في الخروج ليأتيه بخبر الماء، وجعل الديك رهينة عنده. وقيل إن الديك ضمنه فخرج وغدر ولم يعد. فصار الديك مملوكاً. وكان شاطراً طيّاراً فصار أسيراً داجناً، وكان البدرج ألوفاً فصار وحشياً» (iii). ولقد تعددت تأوِيْلات الدّيك، عند العرب: فهو طير من طيور الجنّة يسمّى «ديك العرش»، وهو يطرد الشياطين من البيوت، وهو المؤَذِّن المُؤْذِنُ بانبلاج الفجر والدّاعي إلى الصلاة، وهو السلطان والعين الصافية، وهو «مدمن خمرة»، وهو السفينة المستعار هيكلها من شكله. وهو كذلك، بحسب ابن سيرين، «رجل جَلْد محارب له أخلاق رديئة، يتكلّم بكلام حسن بلا منفعة، وهو على كل الأحوال إمّا مملوك أو من نسل مملوك. ولقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: رأيت كأن ديكاً نقرني نقرة أو نقرتين أو قال ثلاثة، وقصصتها على أسماء بنت عميس فقالت: يقتلك رجل من العجم المماليك» (iv). ما يدهش فعلاً، هو أن ظاهرة فقدان الأجنحة في الميثولوجيا العربية، تشكل حالة خاصة في المخيال العربي، وترتبط مباشرة بقائمة رموز البحر في العمق. فظاهرة فقدان الأجنحة، كأجنحة الدِّيكة أو أجنحة الأسماك المجنّحة، كما مرّ بنا سابقاً، تعبران عن الانفصالية المأساوية، بين ما هو علوي/&rlm قدسي وما هو سفلي/&rlm طبيعي، وما هو عذب نمير وما هو مالح عكر، وبين ما هو آمن ومعزول وبين ما هو خطر ومجهول. كما تعبران عن معنى النفي والاغتراب والتحول، من حالة الخلود والبقاء إلى حالة الموت والفناء. إنها حالة فصل وقطع ونزوح، من مكان إلى مكان ومن وضع إلى آخر. إن هذا الخط الفاصل المعبر عن معنى الانفصالية الحيوانية، بين ما هو قدسي وأرضي، يمكن لي تسميته: خط فقدان الأجنحة! فمن يفقد جناحه في الأسطورة، يعني أنه فقد أصله القدسي وظل مرتبطاً ببيئته الأرضية لا يغادرها. لهذا تظل حياة هذه المخلوقات، كما لو أنها سعي دونكيشوتي دؤوب ودائم، لمحاولة استرجاع صورة الأصل الأولى المفقودة لديها. الأسماك والدّيكة إذاً، تعود جذورهما إلى أصل سماوي، قبل تحولهما الأرضي الفاجع. أما السفينة، فقد صنعت بوحي إلهي عن طريق جبريل. ولكن نوحاً، صنعها من مواد طبيعية كالخشب، وثبتها بمسامير أربعة، وكتب عليها أسماء الخلفاء الراشدين. كما أنه حمل فيها من كل زوجين اثنين، وحمل «جسد آدم وهو غض لم يتغير منه إلا أظافره فإنها اخضرت من غير رائحة. وحمل فيه أيضاً، تابوت آدم عليه السلام، وفيه عصيّ الأنبياء، وعدد العصي ثلاثمائة وثلاثة عشر عصاً للمرسلين، مكتوب على كل عصاً منها اسم صاحبها» (v). سفينة نوح إذاً، هي سفينة أنبياء ومؤمنين في الأصل، وليست سفينة ملاحين أو صيادين أو تجّار أو قراصنة مثلاً. إنها تمثّل الرسالة الأخيرة، للبقية القليلة الباقية من الجنس البشري الذين كانوا مهدّدين بالهلاك الشامل، بعد أن التقت مياه البحر بالسماء وعصف الطوفان بكل شيء. إنها سفينة دينية في معناها ومبناها الأصيل، فلقد صنعت برأينا لغرضين: الغرض الأول، ويتعلق بإنقاذ ماضي اللاَّهوت البشري، وهو ما تمثل في حمل جثة آدم وتابوته وعصيّ الأنبياء على ظهر السفينة. أما الثاني، فيتعلق بإنقاذ حاضر البشرية ومستقبلها، وهو ما تمثل في إنقاذ نوح للجنس البشري وللكائنات الحيّة الأخرى من الغرق والحفاظ عليهم، وذلك عبر إيحاءات الخالق كما ورد في الحكاية الميثولوجية. وعليه، فإذا كان الطوفان، يعني المحو والإبادة الشاملة؛ فإن السفينة كانت تعني النجاة والإنقاذ، باعتبارها الوسيلة الوحيدة فقط، من كان بإمكانها في ذلك الحدث الكارثي، تجاوز الهلاك والمحو وإنقاذ الناس والكائنات والحياة، من براثن الموت الجارف وبعثهما من جديد. هكذا، وبهذا التصور الرمزي الذي عبّرت عنه الأسطورة العربية، تصبح السفينة هي المنقذة الكبرى للجنس البشري والكائنات الحية وللحياة برمتها. فلو لاها لما كان هناك من وجود لهم يذكر. فهي أشبه بروحٍ هائلةٍ، حملت كائنات راجفة ومرعوبة ومهددة بالموت، وكافحت من أجل نجاتهم. إنها المُخَلِّص، حين كان يعز ويندر الخلاص. 2 المركب - البيت لا شكّ بأن رمز «المسكن فوق الماء»، والذي يمثله القارب أو المركب أو السفينة أو الفُلْك؛ يعتبر من أغنى رموز الخيال أنتروبولوجياً، بحيث تحول إلى «رمز يوازي الأنموذج لفرط غناه»، كما يؤكد جيلبير دوران. فالقارب مثلاً، وبشكله الذي يشبه القمر وهو هلال؛ فهو من ناحية يعبّر عن الصورة المأتمية لللإبحار ولنَقْلِ أرواح الموتى، كما ظهر في العديد من ميثولوجيات العالم. كما أنه من جانب آخر، يرمز من حيث الجوهر، إلى صورة «المهد الذي تهدهده الأم»، حين يكون طافياً فوق الأمواج. القارب إذاً، بقدر ما هو تابوت هو مهد، وبقدر ما هو موت هو ولادة أيضاً. من جانبه، يحدثنا رولان بارت، عن تلك الرغبة واللّذة التي تستولي على راكب المركب، بقوله: «يمكن للمركب أن يشكل رمزاً للرحيل، ولكنه قبل ذلك رمز للإغلاق. إن الرغبة في ركوب سفينة تعكس لذة العزلة.. ومحبة السفينة هي محبة للبيت المُفَضَّل، البيت المُقْفَل على الدوام. السفينة هي عملية سكن، قبل أن تكون وسيلة للنقل» (vi). هكذا، وبحسب بارت، تحولت السفينة إلى «بيت» عائم تسكنه تلك الأرواح النصف عارية في الغالب، والتي تهيم في عالم فسيح وغامض وخطر. ولكن إذا ما عدنا إلى مفهوم السفينة - البيت في تاريخ الملاحة العربية، فإننا سنلاحظ بأن نوحاً هو أول من سمّى السفينة بيتاً، فهو يقول: «.. يا رب كيف أتخذ هذا البيت؟»، والبيت المقصود هنا هو السفينة. ولكن نوحاً أيضاً لم يُسَمِّ هذه التسمية فحسب، بل إنه قام ببناء هذا البيت العائم الذي سمّاه، ووزع غرفه وطوابقه ومقدمته ومؤخرته، ثم سار به بكل ما فيه من حمولة قدسية وقاده في البحر الهائج نحو الخلاص. لقد جرب نوح إذاً، ما صنعته يداه وما سمّته مخيلته وما سمعته أذُناه من إيحاء، ولقد نجح في الأخير بالحفاظ على تلك الوديعة الثقيلة التي كانت في عهدته. بيت نوح لم يكن مجرد استعارة بلاغية أو شعرية أو رغبة في العزلة، كما هي عند بارت، بل هو بالأحرى اسم لبيت طافٍ ولِدَ كضرورة تاريخية لمتخيل لغوي - لاهوتي، وارتبط بحياة نوح نفسه وبوجود النسل البشري جميعه على الأرض. هكذا بتصوري، يصبح بيت نوح العائم، عبارة عن رمز أسطوري يعبر عن لذة النجاة والتطهر والحريّة والميلاد الجديد. إن هذه الحمولات الأسطورية للبيت العائم، لم يتجاهلها معالمة البحر العرب كذلك، ولكنهم في المجمل نظروا إليها بكثير من الواقعية والتجريب وأضافوا لها رموزاً ومفاهيم ودلالات جديدة. فالسَّفِينة لغوياً بحسب ابن منظور، تعني الفُلْك لأنها تَسْفِن وجه الماء، أي تقشره. وقيل كذلك، سُمّيت السَّفِينة سَفِينة لأنها تَسْفِنُ على وجه الأرض أي تَلزَق بها. وفي كلا التفسيرين، نلاحظ بأن معنى السّفينة (وهي على وزن فَعِيلة، كما يرجعها النُّحَاة، أي بمعنى فاعلة)، جاء من الفعل الظاهر الذي تقوم به السفينة في البحر؛ فهي تقشّر وجه الماء وهي تَلزق به. ولكن التقشير، وكيفما كان نوعه، هو حركة قطع مستمر وإسقاط، إنه موت شيء قديم وولادة شيء جديد، بل هو البحث الدّائم عن لِحَاء الأصل في الأشياء. فالذي تُقطع رأسه مثلاً، تُقطع في الأصل روحه، إلا الأشجار التي توجد روحها في جذور الأرض، فهي لا تتأثر بمن يريد قطع جذعها لأنها قادرة على النمو من جديد. بل هي بالأحرى تخشى مِمن يقتلع جذرها ويزيل عنها كل أثر. إن الأشجار لا «تموت واقفة»، كما يذهب البعض، بل هي برأينا تموت فقط عندما تُقتلع من جذورها. فوقوفها وحتى لو كانت محروقة، يعني بأن أثرها ما زال حيّاً وباقياً. إن جذوع الأشجار، والحجر والحيطان، وأثر الجُرح الجّاف، والفواكه، والحيوانات، وأمراض الجلد، والأصداف، وموج البحر المنشق وهو يلطم الصخور، ونظرة النادم على خطأ ارتكبه؛ وحتّى تغير الحضارات والمجتمعات والثقافات والسلوكيات، يمكن لها أن تخضع أيضاً لعملية تقشّير واحتكاك مباشرة أو غير مباشرة، من لَدِنِ الإنسان والطبيعة على الدوام. إذ هناك دائماً وبشكل يومي، ما هو قابل للتقشّير والسقوط وما هو قابل للولادة والظهور. فإذا كانت السفينة هي التي تقشّر البحر، والفأس هي التي تطيح بجلدِ الشجرة، والإزميل هو الذي ينحت الحجر؛ فإن الأمر كذلك - وفي مستوىً آخر- يسري على الخطاب النقدي نفسه، التي تلعب أدواته المختلفة في تقشير النّص وإضاءة طبقاته الرسوبية ومحاولة الوصول إلى لُبِّ لحائه من الداخل. التقشيريّة، ظاهرة كونية إذاً ويمكن تناولها من مختلف الحقول والجوانب؛ ولكن من ذا الذي يلتقط النّثار الساقط بين هذين الجسمين، المعنيين، الحياتين، الزمنين، المقطوعين؟ وكيف بإمكانه أن يكتشف السّياق الغائب والمتشظّي بينهما ويعيد وصلهما؟ بهذا المعنى تظهر السفينة عند العرب لا بوصفها بيتاً فحسب، بل هي باعتبارها أولاً آلة تقنية حادّةٍ تسير في الماء، تلزق به وتجرحه في ذهابها وإيابها. إنها أشبه بسيف الماء، تقطّع الأمواج وتشقّها إلى نصفين، ولكنها بمجرد أن تمر يلتئم الجُرح وراءها مباشرة ويختفي كإثر عين. هذه العملية الجراحية للسفن، كما نلاحظ، تحدث في المحيطات والبحار المفتوحة عادة. ولكن عندما تضيق المسافة بين ضفّة وأخرى، مثلما هي عليه الأنهار والأخوار والخُلجان، وتكثر فيها حركة المراكب والقوارب والسفن؛ فإن علامات جرح الماء هذه تكون أكثر وضوحاً وقرباً كذلك. فالإنسان ومنذ أن عرف الإبحار، وهو يعمل على ترك آثاره على الماء كي يستدل بها هو أو غيره. ولكن البحر من جهته، يحاول دائماً إزالة هذه الآثار ومحوها وبلعها، بحيث لا يكون هناك أي أثر على من يعبر فوقه. الإبحار، وبمعنى آخر، هو نوع من السير الدؤوب في جراح البحر وترك الأثر عليه. إنه الصراع الأزلي، بين إرادة الإنسان وإرادة البحر. والإبحار كذلك، هو عملية تقشير متبادلة تجري ما بين السفينة والبحر. فالسفينة التي تقشّر بسيفها وثقلها وجه البحر؛ فإن موج البحر بدوره أيضاً يقشّر آثارها ويمحوها هي نفسها أحياناً. لهذا يظهر البحر على أنه ليس سوى صحراء رائبة ومائجة تتلقى الطعنات يومياً؛ ولكنها لا تموت ولا تجف وتعمل على كنس كل أثر للإنسان، الإنسان الذي مرّ ونجا، أو الذي علقت جثته مع رفاقه بسفينتهم الغارقة في الأعماق. 3 فلسفة الموت والإبحار من هذه النقطة برأيي، تأتي واقعية المعالمة العرب وعقلانيتهم، في نظرتهم للسفينة ولفلسفة البحر والإبحار عموما. فالسفينة، بالنسبة لهم، بقدر ما يمكن لها أن تصبح مأوىً للبحّارة وميلاداً لهم كما تذهب الأسطورة؛ إلا أنها كذلك يمكن لها ان تكون سبباً في مماتهم وزوالهم أيضاً. فأعظم السفن وأكثرها تجهيزاً وقوّة، يمكن لها أن تغرق وتتسبب في كارثة أو هزيمة. إذ لا شيء تقريباً يطفو فوق سطح البحر، إلاّ ويكون معرضاً للغرق والفقد والخطر في كل لحظة، إلاّ من رحمه ربه طبعاً. فالبحر، وقبل أن يكون مصدر رزق ومَعْبَر وإلهام للحالمين والمغامرين من الناس على السواء، فإنه أيضاً عدو لا ينام ولا يضعف ولا ينقص. إن قاعه اللؤلئي والمرجاني الغامض والساحر والمغلق، ليس في الحقيقة سوى مقبرة للعابرين منذ القِدَم. فالبَّحار الذي تفاجئه المنيّة وهو على ظهر السفينة مثلاً، كان يكفن ويُرمى في البحر بعد أن تقام له صلاة الجنازة، حيث لا يتم الاحتفاظ بجثته أبداً، خاصة في تلك الرحلات الطويلة التي كانت تستغرق أشهراً عديدة. إن هذا النوع من الأموات الذين فقدتهم مناطق الخليج عبر تاريخها الملاحي الكبير، تحتاج من المؤرخين والباحثين والكتّاب أن يلتفتوا ولو قليلاً، إلى كتابة سجل موتى البحر، هؤلاء الرجال الذين أكلتهم الأسماك ولم تُحفر لهم حفرة ولم توضع لهم شاهدة قبر ولم يتبّقَ منهم أي أثر. أي مصير مأساوي إذاً، هذا الذي واجهه أولئك البّحارة الموتى؟ وهل من الممكن لمن قامت على أكتافهم حضارة البحر، أن يتم تجاهلهم ونسيانهم ومحوهم إلى هذا الحد ؟ ثم كيف ننسى شهداء النضال البحري وثوّاره القتلى، وهم من قاتلوا المستعمرين ونظفوا المنطقة من وجودهم قديماً؟ ما نود قوله باختصار، هو أن الموت حاضر في السفر، بل في كل الأسفار، وكذلك في كل خطوة كانت نحو المياه العميقة. إنه شريك ملازم للبحّارة و المبحرين والربابنة. ولعل علم الملاحة برمته، ولد في الأصل لمعالجة فكرة تجنب الموت غرقاً. لهذا عكف الربابنة ومنذ القدم، على محاولة إيجاد الحلول والوسائل والبدائل التكنولوجية والرسومات الخرائطية والمعلومات الدقيقة، التي توفّر للمراكب وللملاحين الوصول إلى أهدافهم بأمان وسلام. بدءاً من تفحص السفينة وهي ما زالت على اليابسة، وذلك «لأن شيئاً من المراكب يكون في نجارته خلل»، وانتهاء بسَنّ آداب الإقامة في المراكب، وما تلتزمه هذه الإقامة من شروط وقواعد وسلوكيات وأفعال وانضباط وتيقظ كامل؛ كي لا تكون هناك أي هفوة أو خطأ محتمل يغير من وجهة الرحلة بكاملها أو يُحدث مأساة غير متوقعة فيها وبها. فعلى راكب البحر مثلاً، كما يوجه ابن ماجد في مرشداته، أن يلزم الطهارة أولاً فإنه في السفينة ضيف من ضيوف الرحمن. أي عليه أن يكون نظيفاً، ونقياً، وعفيفاً، عندما يركب السفينة، حيث لا ينبغي لربّان نجِّسٍ أو قذر أو مخمور أن يقود سفينة عربية. لأنه سيحولها إلى مزبلة للأوساخ والقذارات قد تطال الأجساد والأرواح، وقد تجلب الأمراض وتفسد الهِمم وتشيع الفوضى وقلة الاحترام والطّاعة بين المسافرين. إن النجاسة، هي جَلاَّبة أذيّة وتحلل وفوضى؛ بينما الطهارة هي باعثة إيمان واتزان وفرح وإنتاج وشجاعة. لذا كان لا بد للربّان أن يكون نظيفاً ونزيهاً؛ لأن نظافته تعتبر من نظافة السفينة، ونظافتهما معاً تعتبران بدورهما سعادة لمن عليها وسلامة لهم جميعاً. بالإضافة إلى هذا الشرط الأخلاقي الأساسي لراكب البحر، هناك الكثير من القواعد والتنبيهات التي أتى بها ابن ماجد لإرشاد الربابنة: فمنها ما هو سيكولوجي وتربوي، ومنها ما هو إداري وتقني ومعرفي وحكمي، والتي تكشف كلها عن سعة اطلاعه وعمق تجربته ودقتها وصدقها. ولعل أهم ما كان يشترط على قائد السفينة معرفته من قواعد الملاحة في كل رحلة هو: «جهة المكان المقصود، والموسم الملائم للسفر إليه، بحيث يكون مهب الرياح ملائماً لسير السفينة في الاتجاه المطلوب. ثم معرفة عرض المكان المقصود، أي مقدار ارتفاع نجم القطب الشمالي (الجاه) عنده، ليستخرج الفرق بينه وبين عرض المكان، الذي يسافر منه، من الأصابع، فيعرف من الفرق بينهما مقدار المسافة أو الأصابع التي يجب عليه قطعها، وهذا يستلزم المعرفة التامة بنجوم القياس والمنازل. ثم معرفة العلامات البحرية كأعماق البحر، التي يستدل بها على معرفة الطريق الصحيح والأمين. والحيتان، وبعض الطيور، وثعابين البحر، وغيرها من العلامات التي يستدل بها على قرب البرور. والخبرة في سياسة المركب وتصريفه في الأحوال المعاكسة» (vii). شرط أخلاقي على راكب البحر مثلاً، كما يوجه ابن ماجد في مرشداته، أن يلزم الطهارة أولاً فإنه في السفينة ضيف من ضيوف الرحمن. أي عليه أن يكون نظيفاً، ونقياً، وعفيفاً، عندما يركب السفينة، حيث لا ينبغي لربّان نجِّسٍ أو قذر أو مخمور أن يقود سفينة عربية. لأنه سيحولها إلى مزبلة للأوساخ والقاذورات قد تطال الأجساد والأرواح، وقد تجلب الأمراض وتفسد الهِمم وتشيع الفوضى وقلة الاحترام والطّاعة بين المسافرين. إن النجاسة، هي جَلاَّبة أذيّة وتحلل وفوضى؛ بينما الطهارة هي باعثة إيمان واتزان وفرح وإنتاج وشجاعة. لذا كان لا بد للربّان أن يكون نظيفاً ونزيهاً؛ لأن نظافته تعتبر من نظافة السفينة، ونظافتهما معاً تعتبران بدورهما سعادة لمن عليها وسلامة لهم جميعاً. سجلّ لموتى البحر كان البَّحار الذي تفاجئه المنيّة وهو على ظهر السفينة يكفن ويُرمى في البحر بعد أن تقام له صلاة الجنازة، حيث لا يتم الاحتفاظ بجثته أبداً، خاصة في تلك الرحلات الطويلة التي كانت تستغرق أشهراً عديدة. إن هذا النوع من الأموات الذين فقدتهم مناطق الخليج عبر تاريخها الملاحي الكبير، تحتاج من المؤرخين والباحثين والكتّاب أن يلتفتوا ولو قليلاً، إلى كتابة سجل موتى البحر، هؤلاء الرجال الذين أكلتهم الأسماك ولم تُحفر لهم حفرة ولم توضع لهم شاهدة قبر ولم يتبّقَ منهم أي أثر. أي مصير مأساوي إذاً، هذا الذي واجهه أولئك البّحارة الموتى؟ وهل من الممكن لمن قامت على أكتافهم حضارة البحر، أن يتم تجاهلهم ونسيانهم ومحوهم إلى هذا الحد ؟ ثم كيف ننسى شهداء النضال البحري وثوّاره القتلى، وهم من قاتلوا المستعمرين ونظفوا المنطقة من وجودهم قديماً؟ صحراء رائبة تكنس طاعنيها الإبحار عملية تقشير متبادلة تجري ما بين السفينة والبحر. فالسفينة التي تقشّر بسيفها وثقلها وجه البحر؛ فإن موج البحر بدوره يقشّر آثارها ويمحوها هي نفسها أحياناً. لهذا يظهر البحر على أنه ليس سوى صحراء رائبة ومائجة تتلقى الطعنات يومياً؛ ولكنها لا تموت ولا تجف وتعمل على كنس كل أثر للإنسان، الإنسان الذي مرّ ونجا، أو الذي علقت جثته مع رفاقه بسفينتهم الغارقة في الأعماق. سبيل النجاة إذا كان الطوفان يعني المحو والإبادة الشاملة فإن السفينة كانت تعني النجاة والإنقاذ، باعتبارها الوسيلة الوحيدة فقط، من كان في إمكانها في ذلك الحدث الكارثي، تجاوز الهلاك والمحو وإنقاذ الناس والكائنات والحياة، من براثن الموت الجارف وبعثهما من جديد. هكذا، وبهذا التصور الرمزي الذي عبّرت عنه الأسطورة العربية، تصبح السفينة هي المنقذة الكبرى للجنس البشري والكائنات الحية وللحياة برمتها. فلولاها لما كان هناك من وجود لهم يذكر. فهي أشبه بروحٍ هائلةٍ، حملت كائنات راجفة ومرعوبة ومهددة بالموت، وكافحت من أجل نجاتهم. إنها المُخَلِّص، حين كان يعز ويندر الخلاص. مركب العزلة يمكن للمركب أن يشكل رمزاً للرحيل، ولكنه قبل ذلك رمز للإغلاق. إن الرغبة في ركوب سفينة تعكس لذة العزلة .. ومحبة السفينة هي محبة للبيت المُفَضَّل، البيت المُقْفَل على الدوام. السفينة هي عملية سكن، قبل أن تكون وسيلة للنقل. رولان بارت .......................................................................... هوامش * * فصل من كتابي «مجهول البحر ومعلومه»، منشورات دائرة الثقافة والإعلام &ndash الشارقة، 2002. (1) موسوعة أساطير العرب، مصدر سابق، ص: 105-106. (2) المصدر نفسه، ص:297. (3) المصدر نفسه، ص:298. (4) المصدر نفسه، ص:298- 299. (5) المصدر نفسه، ص: 106. (6) انظر، جيلبير دوران، الأنثروبولوجيا: رموزها، أساطيرها، أنساقها، ت: د. مصباح الصمد، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1991، ص: 228 &ndash 229. (5) حسن صالح شهاب، أحمد بن ماجد والملاحة في المحيط الهندي، مركز الدراسات والوثائق &ndash رأس الخيمة، ص:69.  
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©