الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

فتحي المسكيني: الشعراء الحقيقيون هم أولئك الذين لم يكتبوا قط

فتحي المسكيني: الشعراء الحقيقيون هم أولئك الذين لم يكتبوا قط
18 مارس 2015 21:11
فتحي المسكيني من أبرز الأصوات الفلسفية والشعرية الراسخة جداً في المشهد الإبداعي التونسي والعربي اليوم. في نصّه الفلسفي، كما في نصّه الشعري، لا يتوقف الرجل عن طرح الأسئلة العميقة والمغذّاة بتجربة التأمل المفصح عما هو وراء المعروف والمقول والمبذول، والذي يحتاج منّا كقرّاء، ليس إلى مزيد من المعاينة النافذة والمتشعبة لمحمولاته فقط، وإنما للقبض، أيضاً، على انشغاله بتأسيس طقوسه الإبداعية المتفلسفة والمتفردة خلالها. يبتعد الرجل بأطروحاته الفكرية، والنقدية الجدّية باستمرار، عن كل ما يُهشّم الرؤية، ويُقصي المعرفة، سواء لديه أم لدى معظم الأطروحات التي يتعامل معها، بخاصة وأنه مترجم جيد وموسوعي للعديد من المصنّفات الفلسفية الناتجة عن عقل فلسفي كونوي هائل، يتأثر بها ويؤثر، من باب الفكر التحوّلي التوليدي لديه. ولا غرو، فهو اشتغل على التنوير الفلسفي الألماني، وتشبّع بخصوبته الحيّة والمتجدّدة بإشعاعاتها منذ عقود طويلة إلى اليوم: كانط، نيتشه، هيدجر، بيتر سلوتردايك... إلخ، وهذا ما جعله يدمج الشعر بالفلسفة عبر تجربة نصيّة استثنائية، ونُطق عقلاني متجدد، يستحق عليه لقب «فيلسوف». في هذا الحوار تحدّث د. فتحي المسكيني بجدلية بارعة عن الشعر والفلسفة، قائلاً مثلاً إن مقولة «عصر نهاية الفلسفة» ليست سوى خدعة منهجية رائعة للحثّ على مزيد من التفلسف الحر. وأن الشعر لا يموت، ومثله الفلسفة لا تموت، اللهم إلا «بالنسبة إلى عقول القبائل العاجزة عن تنفّس هواء الأعالي». ورأى «أن الشعر أكثر تفلّسفاً من الفلسفة نفسها، و»الأكثر» هنا هي في معنى غير كمي إطلاقاً».. وأن دور الشعراء، وكذا الفلاسفة، ليس دينياً البتة. إنهم يقفون حيث لا يستطيع أي عالم لاهوت أن يرنو ببصره». وفي ما يلي نص الحوار: * أنت مفكر فلسفي وشاعر في آن.. لا بأس ماذا تريد من الشعر ومن التفلسف؟ وهل أنت مع مصطلح: «الشعر الفلسفي»؟ ** هناك دوماً بأسٌ ما من كونك شاعراً أو مفكّراً. فمن يحمّل نفسه القليلة هذا العناء الاستثنائي كي «يسكن الأرض شعراً» كما قال هولدرلن ذات قصيد، أو أراد أن يكون عقله «عصره مدرَكا في الفكر»، كما أشار هيجل العجوز في آخر كتبه، هو بلا ريب يتعرّض عمداً إلى كلّ معاني البأس من خوف وحرج وضرر: خوف من مجرد الكينونة في العالم بلا عنوان، والحرج من نظرة الخالدين الذين انسحبوا من هذا العالم كي يتفرغوا ربما للسخرية من أيّ كائن زائل، ما زال يطمع في التألّه بوسائل بشرية، وضرر التفكير العميق، الذي ينتهي بالأرواح الحرة إلى الجلوس على ربوة الإنسانية من دون أيّة ضمانات عن المصير. أمّا ما أريد من الشعر، فهو التخفّف الأقصى من كلّ أنواع الضجيج العمومي حول أنفسنا الجديدة. ليس كالقصيد فنّاً رائعاً للصمت. كلّ شعر حقيقي هو تدرّب لانهائي على الصمت ما بعد البشري. لكنّ ما يحصل عليه الشعراء غالباً، هو بعض من سياسات السكوت فحسب. السكوت كحصاد سيّئ لنفوس تأبى التحوّل إلى مجرد حرّاس للفراغ. وأمّا ما أريده من التفلسف، فهو مساعدتنا قليلاً على تغيير قصة أنفسنا العميقة. نحن في قصة واحدة منذ وقت طويل، وآن الأوان كي نعترف بأنّ الركح الذي نقف عليه لم يعد يحتملنا. لا يمكنني أن أستثني أحداً من هذا الشعور بالملل من أنفسنا الحالية، لا الفرد ولا الدولة. بقي أنّ الإحراج الوحيد والذي يزعج الجميع، أعني جميع سكّان أنفسنا الحالية، من ثلاثية الأب/ الحاكم/ الإله إلى كلّ الرهطيين الجدد الذين أخذوا يؤثثون مساحة ذواتنا من دون إذن من أحد، هو أنّ القصة الجديدة تبدو، ليس على غير مثال سبق فقط، بل هي أصلاً بلا مؤّلف. ولا يمكن لأحد أن يزعم أنّه يعرف حبكتها ولا نهايتها. إنّ المؤلف هو الطرف الوحيد الذي بقي خارج أنفسنا. نحن اليوم ذوات بلا مؤلّف. وهذا ترف روحي غير مسبوق، حوّل كلّ تدخّلاتنا في العالم، سواء أكانت باسم الدولة أم باسم الشخص العادي، باسم المقدس أم باسم الحزن اليومي.. حوّلها إلى نوع غريب من الشعر أو ما يشبه الشعر. لا يحتاج الكلام إلاّ إلى صمت مناسب كي يصبح شعراً. والشعراء الحقيقيون هم، ربما، أولئك الذين لم يكتبوا قط. وعلى الأرجح يكون الشاعر العظيم قد مرّ بعد، حتى نكتشف أنّه بيننا. لذلك ليس ثمة فاصل، كما قال جاك دريدا، بين الفلسفة والأدب، بل فقط هناك تفكيك مناسب لحقيقتنا. أمّا عن مصطلح «الشعر الفلسفي»، فهو مثل صيغته المقلوبة (الفلسفة الشعرية) تجنيس للأقوال في الوقت الضائع، لأنّ كلّ جنس من القول يكون دوماً قد قال نفسه، ولم يعد محتاجاً لأي سلطة مرجعية كي تصنّفه. ذلك أنّ «النقد» (أي سلطة التجنيس) هو متأخّر دوماً عن إبداعه. وحين يخاطب الكاتب أو يحاكمه، تكون الأقلام قد استقالت من عناء الروح، وسلّمت المشعل لحدس آخر. من فلتات البنيوية * يقال إننا في زمن «موت الشعر»، وكذلك في زمن «نهاية عصر الفلسفة». فأي سؤال فلسفي جديد تتوخى تفجيره، أو بالأحرى أي مشروع؟ ** ذاك كان من فلتات البنيوية، حين ظنّ ذاك الجيل من المنظّرين أنّ «البنى» قد ألغت قوة السلب (هيجل) وإرادة الاقتدار (نيتشه)، واندفاع الحياة (برجسون)، ونرجسية الليبيدو (فرويد)، وتقوى الكينونة (هيدجر)، وعبقرية الحرية (سارتر)، ولحم العالم (مرلوبونتي)،الخ... كانت النظرية قد تحوّلت إلى شبكة صيد للخانات الروحية الفارغة من الإنسان، بدعوى «العلمية» التي أعلنت الحرب على «الأيديولوجيات»، حتى صارت قصيدة حب، موقفاً أيديولوجياً من «المرأة». وفي حدقة العالم المعاصر، كما ينظر إليه ملائكة من سماء حرّة من حجاب المجايلة، زمن «موت الشعر» لم يقع. وكذلك زمن «نهاية عصر الفلسفة»... ما يحدث فقط، أنّ الشعر هو المستقبل الذي لم يعد كما كان. لا أحد يجوز له أن يحاكم مستقبله. كأنّه ماض سيّئ. كذلك فإنّ «عصر نهاية الفلسفة» هو نفسه كان خدعة منهجية رائعة للحثّ على مزيد من التفلسف الحرّ من كل قيد. لا تنتهي الفلسفة بما هي كذلك، بل الذي ينتهي هو نوع من التفلسف فقط، وكذلك الشعر لا يموت، بل الذي يموت أو يغيب، هو نمط معيّن في كتابته فقط. الفلسفة هي دوماً لقيطة أمّها. إنّها الأخت بالرضاعة للشريعة، كما قال ابن رشد ذات يوم، دون قصد واضح. وهي أختها في معنى الرضاعة المحرّمة أو المدبّرة. وعلى عادة العرب، فإنّ شأن الرضاعة من الأمّ الغريبة، لم يكن عرفاً جارياً فقط، بل كان نوعاً صريحاً من سياسة النسل، بحثاً عن عرق قوي أو عن روح في صحة جيدة. كانوا يخرجون للبحث عن مرضعة استثنائية لأبنائهم. وبقدر ما تكون غريبة وبعيدة في دمها، تكون مناسبة وأصيلة في حليب الحياة المبحوث عنه.. كذا شأن الفلسفة، إنّها تموت في نسلها الخاص كي تلدها امرأة أخرى، كما كانت كلمات «نبي» جبران الأخيرة: «قليلاً ولا تروني، وقليلاً وتروني، لأنّ امرأة أخرى ستلدني!» لا يموت الشعر، ولا تموت الفلسفة إلاّ بالنسبة إلى عقول القبائل العاجزة عن تنفّس هواء الأعالي التي أشار إليها زرادشت نيتشه: حيث يشعر الزمن نفسه أنّه صار وحيداً. لذلك لا يحتاج المتفلسف إلى «سؤال جديد» كي يتفلسف. وحسب هيدجر، كلّ كائن يحتمل السؤال «من؟» هو بمثابة «مشروع» كينونة ملقى به في العالم. كل مقطع من بشر هو مشروع جديد تماماً في العالم. عليه فقط أن يقف على السؤال المناسب عن نفسه. ومع ذلك، لا أحد يملك خطّة مسبقة عمّا أو عمّن سيكون. كذلك فعل الفلسفة، إنّه استشراف للإمكانية الاستثنائية لأنفسنا ككائنات مدعوّة، ليس إلى الاستقالة من أفق نفسها، وهو ما يقوم عليه كلّ دين دعوي، بل إلى الاضطلاع بمهمّة الكينونة في العالم كمهمة شخصية بشكل جذري. وإذا كان هذا هو وضع جميع البشر، فإنّ الفيلسوف وحده هو الذي يتجرّأ على المشي في هذه الطريق الوعرة نحو أعالي احتمال قدر الإنسانية من دون أيّ نزعة إنسانوية مريبة، نعني تمنّ على الناس مرتبتهم الإنسانية باسم هذا المبدأ أو ذاك. لا يضيف الفلاسفة إلى عصرهم إلاّ ما يجدونه فيه. وما يبحثون عنه على الدوام هو تلك الطريقة التي تمكّنهم من ترك عصر أو شكل من الحياة أو نوع من الانتماء، تركه يتكلم عن نفسه، وتركه يقول ذاته على طريقته. وليس هناك من ضرر في أن تقول ثقافة ما أو أمة رأيها العميق في نفسها. إذ كلّ ما سيُقال هو سيقال تحت سقف النوع البشري وفي حدود فكرة الإنسانية التي يستند إليها في تصوّره لذاته العميقة. وآن الأوان كي نقول إنّ الحديث عن «سؤال جديد» في الفلسفة أو عن «مشروع» جديد في التفكير هو لم يكن، حتى في أقوى لحظات صدقه ونزاهته، سوى مجرّد استعارة.. استعارة قوية لرسم طريقة مناسبة للدخول في العصر أو في الانتماء العميق لأنفسنا. لا أحد يفكّر بعقل جديد. نحن نستخدم دوماً إمكانية من إمكانيات التفكير التي صارت متاحة نتيجة أنواع محدّدة من الشجاعة على استعمال عقولنا بشكل كوني. العلم مثلاً، والفن العظيم أو السياسة الكبرى أو الأديان الحرّة... الخ، هي أنواع من الشجاعة الكونية للنوع، وهي وحدها شروط إمكان المشاركة في تجديد تجارب المعنى الممكنة لنا، على أرضية ثقافتنا العميقة. الحكمة ليست معرفة * لقب فيلسوف.. هل يرهبك، أو يخجلك، أو تراه غير ملائم لك معرفياً حتى اللحظة (بمعنى الاستزادة المعرفية هنا وهضمها)؟ ** تعوّد المتفلسفة، في كل العصور، أن يتحرّجوا من لقب «الفيلسوف»، ومن ثمة هم يلجأون إلى أنحاء شتّى من طلب العذر لأنفسهم. ولذلك لا تخلو أيّ فلسفة من سياسة اعتذار مكتومة عن عدم وجود الفيلسوف أو عن استحالته، أو على الأقلّ عن عدم ادّعاء لقب الفيلسوف من دون حرج يُذكر. طبعاً ثمّة طرق شتّى للاعتذار عن حمل لقب «الفيلسوف»، وهذا ليس استثناء لأحد. حتى الفلاسفة من حجم سقراط أو كانط أو هيدغر، اعتذروا عن كونهم، إمّا «لا يعرفون شيئاً» أو «أنّنا لا نتعلّم الفلسفة، بل كيف نتفلسف فقط»، أو أنّ المتفلسف «ليس فيلسوفاً، بل مفكّراً في الكينونة». وكثرة أخرى من العباقرة خيّروا أن يكونوا شخوصاً مفهومية من قبيل «زرادشت» (نيتشه)، والذي ظهر له لدينا أحفاد من نوع «نبي» جبران خليل جبران، أو «مرداد» ميخائيل نعيمة...الخ. ولكن أيضاً»الفيلسوف المقنّع» ميشال فوكو، و»المفكّك» جاك دريدا، و»الكلبي» بيتر سلوتردايك، و»المتهكم الديمقراطي» ريتشارد رورتي...الخ. ليس للفيلسوف اسم واحد أو اسم مفضّل واحد. بل هو يتسمّى كما يُتاح له في زحمة السرد ما بعد الشخصي للمؤلّف. بهذا المعنى، لا يرهبني «لقب فيلسوف»، ففي بعض العصور كان الإنسان لا يرهبه أن يسمّى «ربّا» أو «إلها» أو «حكيما»؛ ولا يخجلني، فأنا لم أسمع أنّ «لقباً» ما كان خطأ ضدّ أحد. وأمّا أنّه «غير ملائم معرفياً حتى هذه اللحظة»، فإنّه لا وجود للحظة تكون فيها معرفة أيّ شخص حول العلم أو حول ذاته كافية أو مناسبة كي يكون فيلسوفاً، وذلك لأنّ الفلسفة ليست هي معرفة فقط، بل هي حسب تمييز كانط، «تفكير» قبلي. ونحن لا نضيف شيئاً إلى عقولنا حين نفكّر، بل نشرّع لحريتنا بأقصى ما تستطيعه طبيعتنا كبشر. الفيلسوف هو من يحبّ كلّ إمكانية الحكمة المتاحة في طبيعة العقل البشري، بما هو كذلك. وهو لا يدّعي أكثر من ذلك. لكنّ ذلك ليس مهمّة هيّنة أبداً. كما أنّ «الحكمة» ليست معرفة، بل هي فنّ استعمال عقولنا بشكل كوني. نعني بدلاً عن النوع البشري برمّته في لحظة ما. ولأنّ الفلاسفة يختلفون في تقدير ذلك، فلا أحد منهم يتسمّى «فيلسوفا» إلاّ تجوّزاً. وبمعنى ما، كل تفكير فلسفي يستحق صلاحية كونية، هو بالقدر نفسه مجرّد تمرين على إعادة الإنسانية إلى عقلها. والفرد في هذا النوع من المهام، التي لا ينتظرها أحد، ولا تنفع أحداً بعينه، هو بلا أهمية. نعم، الفلسفة لا تفيد أحداً بعينه ولا ينتظرها أحد. ولذلك هي استثنائية بشكل فظيع. وعلينا أن نقرّ بأنّ هناك من يمنّ على المتفلسفة العرب لقب «الفلاسفة»، والحال أنّهم يمنحون صفة «الشاعر» أو «الكاتب» أو «الإمام» للمعاصرين دونما حرج يُذكر. وإذا كان المقياس هو استحالة وجود الأسلاف الكبار من جهابذة الفلسفة مرة أخرى، من وزن أفلاطون أو أرسطو أو كانط،..الخ، واستحالة ادّعاء اللحاق بهم، فإنّ الأمر نفسه ينطبق على أسلاف أيّ صناعة أخرى، فمن هو المتنبّي اليوم؟ أو الجاحظ اليوم؟ أو علي ابن أبي طالب اليوم؟ وبعيداً عن أيّ تهيّب مصطنع من لقب الفيلسوف أو إكباره أو تقديسه، هذه أنحاء مختلفة من رغبة مريبة في «توثين» الفيلسوف، وإخراج إمكانية ظهوره من أفقنا الأخلاقي. وكلّ توثين هو في سرّه قتل رمزي للوثن. أو إخراجه من أفق البشر، ولو كان ذلك باسم قداسته أو جلالته. عن الشعراء والفلاسفة * قيل كلام كثير وعميقحول علاقة الشعر بالفلسفة.. والعكس. والسؤال الآن ما هو الشيء الذي تراه مهماً للغاية في هذا المضمار العلائقي، ولم يتم التطرق إليه على مستوى هذين الحقلين الإبداعيين؟ ** علينا الإقرار أوّلاً، أنّ الشعر هو دوماً شعر حقبة معيّنة من حقب الكينونة في أفق إنسانية ما. لا يظهر الشعراء سدى، بل هم سلفاً أبناء نمط روحي هو الذي هيكل روح اللغة، وهيّأ لهم سياقاً مخصوصاً من سياسة الإيحاء وآداب القول وصلات مفضّلة مع الأشياء التي تؤثث لحم العالم. وبمعنى ما فإنّ كلّ قصائدنا تكون في كل مرة قد قيلت، ولم يبق للشعراء سوى أن يهتدوا إليها فقط. وهنا يكمن سرّ الأهمية القصوى لظهور الفلاسفة: إنّهم بعبارة هيدجر حرّاس اللغة، ومن ثمّ رعاة الكينونة في عصر ما، وفي أفق شعب من الشعوب الكبيرة، نعني تلك التي تمتلك قدرة توجيه العالم نحو أفق جديد للنوع البشري. «قيل كلام كثير وعميق حول علاقة الشعر بالفلسفة» يقول سؤالك.. أجل. لكنّه قد قيل دوماً وفي كل مرة في أفق معنى ما للكينونة في العالم. إذا تغيّر، تحوّل كلّ ما قيل إلى سياسة انتماء لا أكثر. ما لم يتم التطرق إليه إلى حدّ الآن، هو ما لم يتمّ التفكير فيه بعد. وحسب عبارة هيدجر الشيخ الرشيقة، «أكثر ما يدعو إلى التفكير هو كوننا لم نفكّر بعد». إنّها سقراطية من نوع ما بعد ميتافيزيقي. وعلينا أن نكمل الخانة المريعة هنا: أكثر ما يدعو إلى كتابة الشعر هو أنّنا لم نكتبه بعد. وكلّ شاعر عظيم يشعر بذلك في عمق أعماقه، ويكتمه. فقط، لأنّ كتمانه جزء لا يتجزّأ من البوح به. ولذلك كلّ شعر عظيم هو سياسة صمت من نوع فظيع. صمت في انتظار الفلسفة المناسبة التي هي وحدها ما يطلقه كبلابل من عصر لم يحن بعد. * أرسطو في الحقيقة كان أول من انتبه إلى الطاقة الفلسفية الكامنة في طبيعة الشعر عينها، حين أفصح «إن الشعر أكثر تفلّسفاً من التاريخ وأهم، لأن الشاعر يتعامل مع الكليات».. ما تعليقك؟ ** الشعر أكثر تفلّسفاً من الفلسفة نفسها. وهو «أكثر» في معنى غير كمّي إطلاقاً. وعلينا فقط أن ننزّل كلام أرسطو في سياقه: هو يجعل من «الكلي» مقياس الحكم على هذه الأجناس من القول. وبالطبع فإنّ التاريخ أي الخبر عن الأحداث، هو يقع دوماً في المفرد. كلّ تاريخ، من حيث هو تاريخ حدثي، هو تاريخ المفرد. وبعبارة الفلسفة هو تاريخ الجزئي. «ما وقع» هو دوماً ما وقع في تلك المرة، وليس في أي مرة أخرى. وإذا حسبنا أنّ الماضي هو الميدان المفضّل للتاريخ، وأنّه ليس هناك تاريخ للمستقبل إلاّ تجوّزاً، فإنّ الشعر يبزّ على التاريخ في جهات الكينونة أيضاً. حرج المؤرّخ هو كونه يخاطب الأحياء، لكنّه لا يتكلّم أبداً إلاّ عن الموتى. تاريخ الأحياء مشكل أكثر صعوبة ممّا يبدو. ولذلك يمتاز الشاعر بأنّه لا يتحرك في ميدان الممكن فقط، بل هو لا يتحرّج أبداً في طرق ميدان المستحيل وجرّه إلى التحوّل إلى قصّة، أي إلى تجربة معنى كلية. بقي أن نذكّر بأنّ وضع هذا الإشكال لم يبق حيث تركه أرسطو. فهيجل قد بيّن أنّ التاريخ هو أيضاً تاريخ كلي، وهذا يعني أنّ المفرد فيه ليس سوى نمط من «مكر العقل» الذي يتخفّى في الجزئيات، أي في نوع من سياسة الانفعال، حتى يهيّئ لروح العالم الطريقة المناسبة كي يتكلم. * هيدجر يعتبر أن الشعر هو تأسيس للكينونة عن طريق الكلام. والمأسسة هنا لا تعني البذل والعطاء الحر فقط، وإنما تعني كذلك أن الشعر يرسي الوجود الإنساني في الصميم.. وأن «نقيم على نحو شعري، معناه (حسب هيدجر) أن نبقى في حضرة الآلهة، وأن نعاني محاورة الأشياء في لبابها وماهيتها... هذا، وكما تعرفون د. فتحي، فلقد وجد هيدجر في شعر هولدرلن مدخلاً لرسوّ الحقائق الوجودية الكبرى، والوصول بالتالي إلى الطمأنينة الضافية، ما يعني في المحصلة، أن الإبداعين، الشعري والفلسفي، قد يكونان على سوية منطلقات واحدة.. ما تعليقك؟ ** حسب قراءة هيدجر لهلودرلن، الشاعر لا «يفكّر» في الكينونة، بل يشير فقط إلى ميدان «المقدّس» إشارة من نوع خاص، حيث تصبح الصلة بالكينونة ممكنة. ليس على الشاعر أن يضطلع بالسؤال عن معنى الكينونة في حقبة ما، بل عليه أن يحرس لغة الكينونة أو اللغة التي تجعل اللقاء مع السؤال عن الكينونة ممكناً. ولذلك ليس على الفلاسفة أن يتعلموا من الشعراء، بل فقط أن يخوضوا معهم محاورة عميقة حول طريق المقدس في حضارة ما. وحده الشاعر يمكنه أن يتوغّل في تلك الأقاصي من روح شعب ما، حيث يمكن أن ندخل في مقام قول ما حول معنى الكينونة. وعلى خلاف ما ننتظر، فميدان المقدس ليس ميدان الآلهة، بل هو الفضاء الذي يجعل ظهورهم في أفق البشر ممكناً. المقدس هو ما يجعل فكرة الإله ممكنة. ولذلك فدور الشعراء العمالقة دور حاسم في الإعداد لظهور الآلهة. لكنّ دور الشعراء ليس دينياً أبداً. وكذا دور الفلاسفة. إنّهم يقفون حيث لا يستطيع أيّ عالم لاهوت أن يرنو ببصره. أفلاطون ونيتشه واحتقار الشعراء * لكن ما رأيك في التقاء كل من أفلاطون ونيتشه على احتقار الشعر والشعراء.. واعتبار القصيدة مسألة لا تستحق صفة الإبداع البتة، لا لشيء إلا لأن الشعراء في رأيهما لا يتجاوزون المعرفة السائدة لدى العوام، ولا يهمهم بالتالي سوى إرضاء أولئك العوام؟ ** هذا قول يحتاج إلى بعض التحقيق. لا أفلاطون ولا نيتشه يمكنه أن يحتقر الشعر، بل هما يخافان فقط من حضور الشعر حيث لا ينبغي له. الشعر لا يقول ما يكون، بل ما لا يكون. وله تبريره الخاص لذلك. وأفلاطون نفسه بدأ شاعراً. وكذا حال نيتشه، وهيدجر أيضاً. في البدء كان الشعر. أو هكذا قال الرومانسيون. وربما لأنّه يكون قد شرّع لعلاقة البشر بما يتجاوز أفقهم، وذلك قبل أن يدخل الفلاسفة أو الساسة على الخط. ثمّة تأخّر رائع في كل فلسفة، وكل سياسة كبرى. تأخّر عن ماهية الشعر. ولذلك فإنّ الأقرب هنا سيستحيل الأبعد. وهذا قدر الشعراء. هم السكّان الأصليون للعالم. وتراهم يُطردون من مدينة الفيلسوف (أفلاطون) ومن ملّة النبيّ (سورة الشعراء)، ومن صحبة المفكّر الحرّ (نيتشه). هل من المصادفة أنّ هذا قدر الشعراء في ثلاث ثقافات أو عصور مختلفة ومتباعدة؟! لكنّ هذا ليس دليلاً ضدّ الشعر، ولا سبباً وجودياً كونياً لاحتقارهم. ولذلك فإنّ ما سنّه أفلاطون، وقال به نيتشه، ليس احتقار الشعراء، بل ضرورة ضبط سياسة كبرى للحقيقة يكون من شأنها أن تحدّ من خطر الشعر على إمكانية الحقيقة في أفق إنسانية ما. وكان نيتشه يعترف متألّماً على لسان زرادشت: «والحقّ أنّي لأخجل من أنّه ما زال ينبغي عليّ أن أكون شاعراً». الشعر هو القدر العميق لكل فلسفة ترنو بوجهها نحو التعالي الأكبر للغة البشر: معنى الكينونة. ولذلك لا علاقة للشعر والشعراء بالعوام ولا بسياسة العوام. خطر الشعر لا يتأتى من أنّه يؤثّر في رأي العوام في أنفسهم أو في الكينونة، بل في أنّه يهدّد صرح الحقيقة الذي يبنيه الفيلسوف أو النبي أو الفكر الحرّ، وليس أقلّ من ذلك. إنّ كلام هوميروس عن آلهة اليونان هو خطر على مدينة يحكمها الفلاسفة، كما تصوّرهم سقراط / أفلاطون: فلاسفة الفضيلة التي تحبّ الحكمة أكثر من الحياة. والشعراء خطر على صحبة العقول الحرة، لأنّ الفنانين عامة، لا يملكون ما يكفي من «إرادة الاقتدار» للطموح فعلاً للذهاب الجسور إلى «ما بعد» الإنسان.. لا يملك الفنان حدساً على القيمة الإبداعية لأثره الفني، ولا هو يسيطر عقلاً على كل إمكانية الحقيقة التي تثيرها أعماله. ربما هو يصاحب إبداعه من دون أن يملك آفاقه أو أعماقه. لكنّ ذلك لا يخوّل لأحد، ولو كان أفلاطون أو نيتشه، أن يسخر من تجربة المعنى التي تتمخّض عن إبداعه. فذلك ملك الإنسانية. وليس ملك هذا الناقد «العامي» أو ذاك. هامش ص 4 جسد المكان الدكتور فتحي المسكيني من مواليد العام 1961 في مدينة «بوسالم» في ولاية جندوبة التونسية، وهو يدين لهذه المدينة التي تقع في شمال غرب الجمهورية، بذاكرة معبّأة سلفاً بطقوس الطفولة، وشتى أساليب الإمساك بجسد المكان ورائحته، كما أن «بوسالم» بدأت تُكنّى باسمه كواحد من أعلامها الكبار. يحمل د. المسكيني دكتوراه دولة في الفلسفة، ويدرّس حالياً في جامعة تونس. من أبرز مؤلفاته نذكر: «هيجل ونهاية الميتافيزيقا» 1997. «التفكير بعد هيدجر أو كيف الخروج من العصر التأويلي للعقل» 1997. «الهوية والزمان.. تأويلات فينومينولوجية لمسألة النحن» 2001. «نقد العقل التأويلي أو فلسفة الإله الأخير» 2005. ومن أبرز ترجماته: «في جينالوجيا الأخلاق» لنيتشه، «الدين في حدود العقل المجرد» لكانط... إلخ. هامش ص 5 وهن الفنانين يتحدث نيتشه في «جينالوجيا الأخلاق» عن (وهن الفنانين) فيقول: «... لم يزل على الشاعر ومؤلّف البارسيفال (أوبرا بارسيفال الشهيرة للموسيقار فاجنر) أن ينغمس في روح القرون الوسطى وتضارباتها، وأن يغوص فيها على نحو عميق، موغل وحتى مريب. لم يزل عليه أن يقف على حدة معادياً لكلّ رفعةٍ وكلّ شدّة وكلّ تأديب للروح، لم يزل عليه أن يقع في نحو من فساد العقل (إذا سُمح لي بالتعبير على هذا النحو)، مثلما لا يمكن لامرأة حامل أن تتجنّب قُزوز الحمل وغرائبه: أنّ على المرء، كما قيل، أن ينسى، حتى يهنأ بالولد. وعلى المرء أن يحترس من هذا الخلّط الذي ما أيسر ما يقع فيه أيّ فنّان، بسبب contiguity نفسانية (أي امتداد حبل الأفكار، وهو مبدأ من مبادئ تداعي الأفكار استخدمه هيوم في القرن 18 وعلم النفس المنفعي البريطاني في القرن 19) حتى نتكلّم كالإنجليز: أن يتصرّف كما لو أنّه سيكون هو ذاته ما هو قادر على تمثّله أو تخيّله أو التعبير عنه. وفي واقع الأمر: لو كَانَهُ لما أمكن له بلا ريب أن يتمثّله أو يتخيّله أو يعبّر عنه؛ ما كان هوميروس ليقول شعراً في أخيل ولا جوته في فاوست، لو كان هوميروس أخيلاً أو كان جوته فاوساً. إنّ فنّاناً تامّاً كاملاً إنّما هو، إلى أبد الآبدين، منفصل عن «الواقع» وعمّا هو فعلي؛ إلاّ أنّ المرء يفهم كيف أنّه يمكن أن يأخذه تعبٌ كأنّه يأسٌ من هذا «اللاّواقع» الأبدي، وهذا الزيف في كيانه الأكثر حميميّة، كيف أنّه قد تأخذه الرغبة في أن يتخطّى، بخاصة أكبر المحظورات لديه، أن يتخطّى الواقع الفعلي، أن يكون فعليّا. وماذا كانت النتيجة؟ للمرء أن يخمّن.. إنّ هذا هو الوهن النمطيّ للفنّانين...». (من كتاب «في جينالوجيا الأخلاق»، نيتشه ـ ترجمة د. فتحي المسكيني، 4)
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©