الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

حبل غسيل..

حبل غسيل..
18 مارس 2015 21:00
قال لي محارب روماني قديم التقيته في كتاب تاريخ: «روما متحف سيار في الهواء الطلق». أهم ما قد يحتاجه المرء حين يزور روما، قدماه، يطويان الدروب بخفة وأناة تماماً كأقدام راقصي بحيرات البجع لِما في ذلك من رشاقة تتمتع بها المدينة وتتطلبها الرحلة إليها. روما التي تمشي معك حافية كغجرية غاوية، لن تخبرك أسرارها إلا إذا تعلقت بشرفاتها الأندلسية، وحبال الغسيل العربية التي تحمل أجساداً متهدلة تسترخي قبالتك بكسل فاتن، وأناقة عشوائية، لاتثير في نفس سكانها ما تثير فيك كسائح، يتعامل مع غسيلها على اعتباره تحفة تستحق أن تشد إليها الرحال لتلتقط صورة تذكارية لقصيدة درويش وتحتفظ بها في ألبوم اللغة! حبل الغسيل هذا يضخ الدم إلى قلب المدينة، مقترناً بشغف طفولي لاكتشاف الجسد بما هو أثمن منه: ثيابه التي ترتديه، وتؤويه، وتشاغب فيه، وحين تتململ من التمرغ بعرقة تخلعه لتغسله بماء الرائحة وتشد وثاقه إلى حبل الوريد، إلى أن يتحرر من جسده ويعيد الكرة من جديد! صراط الحرية لم يكذب الماغوط إذن حين اعتبر الأوطان حبيبة مفداة، (عزيزة الجانب دونها حبل الوريد وحبل الغسيل)، في لقطة تهكمية تواشج بين الحبلين في عقدة واحدة، لأن ارتباط الشاعر بحبل الغسيل ارتباط بيتوتي، يستحضر فيه ربة العائلة من الأساطير اليونانية القديمة وهي تمارس طقوس العناية بالمنزل والأسرة على طريقة أمه أول الربات في خيمة القصيدة، وهو ما نراه في قصيدة «أحن إلى خبز أمي»، التي تحضر فيها الأم كربة للموقد والحرية: «ضعيني إذا مارجعت وقوداً بتنور نارك/ وحبل غسيل على سطح دارك». بهذا المعنى يرتب الشاعر حريته، في الأعالي وهو يتأهب للخروج من القاع (السجن)، كحبل غسيل تعلقه أمه على سطح الدار، في تجل علوي يتسلق سلم اللغة وهو يتشبث بطرف الثوب كطفل موثق بحبل سرة لا ينقطع، وبين الانعتاق والوثاق أواصر حرية تجنح إلى مناغاة الجسد، تشف عن حشمة شريرة، تراود الثوب عن حبل الغسيل، وتسرق النظر إلى السماء من وراء ستائر بلا نوافذ! الشاعرة الكورية Kim Seung- Hee، في قصيدتها «أمشي فوق حبل غسيل» تتماهى مع الرؤية الدرويشية للحرية، في ذات الوقت الذي تتمكن فيه من رؤية السقوط، في فعل أرجحة يعود إلى مراحل الحبو الأولى كأنه تدرب على الرشاقة فوق الصراط، واحتفاء بمخلوقات العالم السماوي من غيوم وأقواس قزح ونساء انتحرن بالصعود إلى الهاوية! قداس جنائزي هنالك حزن يكتنف اقتناص المشهد، عند الشاعر العراقي عدنان الصائغ، فالمرأة التي تنشر غسيل أيامها، هي في حقيقة الأمر تتأمل الواقع العراقي بين ممارسة الحب والحرب، فالشرشف الفاضح معلق إلى جانب ثياب زوجها المبقعة بغبار الحروب، ولأن الافتضاح وارف بين الطقسين لا بد أن يكون في نشر الغسيل فعل تلصص، لأنها: «تختلس النظرات لسطح جارتها/ وهي تنشر ثيابها السود/ فتمسك قلبها بيديها ـ كليمونة معصورة ـ»، في تضافر وطني يقفل المشهد على سرقة أثواب الحداد عن حبل الجارة وارتدائها، فيفرك الزوج عينيه في محاولة منه لاستيعاب هذا الارتداء الجنائزي! الغسيل إذن يوثق للحالة النفسية والوضع العام في الوعي الجمعي، ويتخذ أبعادا إنسانية تحفر عميقا في الذاكرة التاريخية لنضال الشعوب وآلامها وتضحياتها، بل إنه شاهد عيان على المنافي والمذابح والمخيمات، إنه الوطن بكل حالاته عند درويش الذي لم يترك حبل غسيل إلا ونشره: «وطني حبل غسيل لمناديل الدم المسفوك في كل دقيقة» وفي قصيدة أخرى: «رأيتك عند باب الكهف/ عند الدار/ معلقة على حبل الغسيل ثياب أيتامك».. شاهد عيان في غزة كان لحبل الغسيل ذات الدور، فالمعرض الذي تم تنظيمه هناك خصيصا لحبال الغسيل، نشرت عليها ملابس لشهداء القطاع، كتب على كل قطعة اسم شهيدها وحكايته، في خطوة للفت أنظار العالم إلى الضحايا الذين لم يتبق منهم سوى ثيابهم تشهد على القاتل وتكمل مسيرة نضالهم وصمودهم. كأن الوجع الفلسطيني يحمل الراية من القصيدة ليسلمها إلى دارة فنون أخرى أو مشهد إبداعي آخر، فدرويش الذي أصر على طرد المحتل من «إناء الزهور وحبل الغسيل»، يعلن التعب فيقرر تعليق أساطيره على حبل الغسيل، ولهذا يستقيل، ليترك المهمة إلى الحبل، الذي أبدع الفلسطينيون بحمله كأمانة تعجز الجبال عن حملها، حيث أودعها الشاعر في خزينة الذاكرة وأوكل الشعب بحفظها كميراث قومي.. «الألم.. هو أن لا تعلق سيدة البيت حبل الغسيل/ صباحا/ وأن تكتفي بنظافة هذا العلم». غسيل العودة والمنفى إنه العلم إذن، الذي يرفع كراية، نظيفة ناصعة، يلتف حولها بنو كنعان، لتصل بهم إلى حبل الغسيل الأخير، حبل العودة، وهو الحبل الذي نصبه الفنان الفلسطيني الشاب «بشار الحروب»، في أجمل لوحة فنية مستقاة من حبال الغسيل الدرويشية.. ومكملة لرسالتها، حيث اختار بيوتا مهجورة، رحل عنها أصحابها قسريا، وقام بتعليق حبال غسيل حولها، ليبعث بها الحياة، ويثير انطباعا لدى العابرين على هذه القرية الخاوية، أن أهلها عادوا إليها، وأن غسيلهم وثيقة عودة، فما أحلى الرجوع إلى فلسطين! يبقى أن أعترف بأنني التقطت هذه الصورة في مقهى إيطالي وسط لندن، وقد أخذت بحبل الغسيل المعلق على شرفتها الأندلسية، بعد أن داهمت بيتي الشرطة البريطانية إثر شكوى تقدم بها جاري الإنجليزي، لتطلب مني أن لا أعلق حبل الغسيل على شرفة بيتي كي لا يشوه منظر المدينة، فأي مدن عارية هذه التي ترى في الغواية تشويها، وفي الحرية مدعى للاعتقال، وفي القصيدة جنحة غربة... أواه ما أفظع الغرباء يالله!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©