الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

وجه بدر شاكر السياب:ظلّ جيكور

وجه بدر شاكر السياب:ظلّ جيكور
18 مارس 2015 21:00
من فرط نحافته، تطابق هيئة بدر شاكر السياب، شكل طيف أو شبح بالتمام والكمال. كأنه طيف لكائن متخيل لا وجود له إلا في شعره. شبح لشخص لا سبيل للعثور عليه واقعا، لأنه مضمر في صور مجازية داخل غابة قصيدته. ليس نحافة الشاعر ما يسترعي الانتباه بحدّة، بل وجهه الغريب، ورأسه المستطيلة فادحة الحجم، كأن الرجل المتداعي يحمل صخرة وجوده عظيمة الثقل. لا يحيل الوجه العجائبي لبدر شاكر السياب على حقيقته الشعرية، بل يناقض عمله كشاعر، وتنحو قوته الإيحائية منحى علامات بعيدة ومنزاحة، كأن يكون الوجه لرجل حزب، أو صائد سمك في نهر دجلة، أو حفار قبور... كيف تجاهل الرسم هذا الوجه التكعيبي؟ غرائبية وجه الشاعر الهشّ، تصلح لكي تكون خلفية صلبة للوحة أيقونية جامعة، هي مجمل أنقاض تاريخ العراق وموجز خرائبيته. لوحة شبيهة بغرنيكا بيكاسو مثلا... يتماهى وجه بدر شاكر السياب مع تاريخ ألمه الداخلي، الألم الانساني الذي يصخب به شعره، وقد ابتكر الشاعر له شكلا خلاقا. تطوق الهشاشة وجه بدر شاكر السياب، الوجه الذي يبدو دميم الخلقة أول وهلة، وقبيحا بما لا يدع للشك برهة اشتباه... غير أن دمامة الوجه وقبحه، أليفة إلى حد مثير، هي غير تلك الدمامة اللامرغوب فيها، هو غير ذلك القبح الذي يصرف النظر سريعا... في قبح ودمامة وجه بدر شاكر السياب، سحرية، تجعل الناظر إليه مشدودا ومشدوها، يمعن النظر في خلقته العجيبة. إنه القبح الذي لا يصل حدود البشاعة، القبح الجميل، المسبوك بدقة تحتفظ بأثر الدهشة. يعزز من فرادة وجه بدر شاكر السياب، عمله الفني كشاعر. كأن الشاعر ظل يكتب وجهه في كل ما أنجزه من شعر. مهما بدا هذا الشعر طاعنا في أغوار داخله (ذاتيته)، ومهما بدا هذا الشعر وطنيا أو قوميا أو ثوريا أو خارج ذاته... هل كان الشاعر يرمّم وجهه في كل ما كتب؟ هل كان يعيد ترتيب وجهه في تخييل نصوصه وينحته بالشكل المأمول؟ أم كان يدون الجمال اللامرئي لوجهه، الجمال المتواري خلف قبحه، وهو الجمال الذي يستعصي على أي متأمل أن يراه، لأنه خفي ومضمر... لا يمكن لقارئ بدر شاكر السياب أن ينظر إلى وجهه، أو يسمع رنين اسمه، دون أن تطفو على سطح الرؤية أو يعنّ في الذهن طيف قريته «جيكور»... تلك العلاقة بين الشاعر وقريته التي تخطت حدود الحنين والأمومة إلى علاقة ميثولوجية، جعلت من «جيكور» قرينا لاسمه، كأن جداول ومياه «جيكور» تجري في المساحات بين حروف اسمه الثلاثي، كيف لا واسم «جيكور» نفسها يعني بالفارسية (الجدول الأعلى)؟ ومن هذا الجدول الأعلى بزغت كل أطياف الشاعر. ليس الماء ما يهلوس في ميازيب اسم (بدر شاكر السياب) بل ثمة موسيقى لرياح النخيل ومعترك لظلال النباتات أيضا. ثمة مفارقتان بصدد استغوار وجه الشاعر: المفارقة الأولى أن يكون بدر شاكر السياب ابنا لقرية مائية، ويكون وجهه قاحلا، كما لو كان أرضا مجدبة، يعتورها قحط مائة سنة. المفارقة الثانية أن يحيل اسم الشاعر (بدر) على القمر في عز الاكتمال، فيما يحيل وجه صاحب الإسم على شكل نقيض للبدر، هو شكل نبات الصبار. (ضلع أو ورقة الصبار الشوكية). بلى الصبار الذي يتماهى وطبقات المرارة المرصوصة في معمار شعره المثخن. قحط وجه بدر شاكر السياب، يزج بالمرء في صورة من صور وادٍ جنوبيّ أو مفازة صحراء، حيث تؤول الأشياء تحت الشمس المصطخدة إلى فخار... هكذا يبدو وجه بدر شاكر السياب كما لو خرج لتوه من معمل فخار غريب، في طور أن يأخذ شكلا لم ينته إليه بعد... هل هذا ما يجعل الوجه اللامكتمل، مفزعا؟ الفزع الذي يثيره وجه بدر شاكر السياب لا علاقة له بالرعب، بل هو فزع الدهشة. أي نعم وجهه يظل علامة لطقوسية جنائزية ما، علامة تنحاز لمحفل الموت، أكثر ما تنتسب لمحفل الحياة... غير أن شيئا ملتبسا فيه، يجعله حميما ومألوفا... قدر هذا الوجه أن يكون أفقا لمناخ الموت ورمزا لمخاضات الألم ومسوخ المرض... كأنه عنوان مختصر لكونية الأمراض المزمنة: السرطان مثلا... ما يلطف من ضراوة الألم في شبحية وجه بدر شاكر السياب هو ابتسامته الطفولية، التي يحاول أن يكشف عنها طيف جمرة تحترق ما تزال في الرماد الهائل لنظرته الشاحبة... لا يمكن أن نتصور الشاعر ينبس بصوت يذكر، فالنحافة القصوى لهيئته وخرائبية وجهه، تقول بملء اليقين، أن الرجل الهش، لا يمتلك صوتا، وإن نطق فهسيس غير مفهوم كأنه مرور رياح على شجر الصفصاف... يبدو صوته أيضا أنينا، وليس من علة مرض، بل من علة إقامته في الغياب. لا يمكن لهيئة شاعر نحيل بشكل مسرف كبدر شاكر السياب، أن تقنعنا بأنه يقيم في الحضور أبدا، وحتى إن آمنا بذلك بشكل جزافي، فسنقرّ بالأمر شرط أن تكون الصورة هي أنه يضع قدما في شاطئ الغياب والقدم الثانية على وشك أن تغادر شاطئ الحضور. ولأن الأمر في كل الأحوال يتعلق بشاطئ مفزع، فوجهه هنا يبدو أيضا كما لو يتمثل صرخة رعب (صرخة بدون صوت طبعا)، شبيهة تماما بلوحة الصرخة للرسام النرويجي إدغار مونك.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©