السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مختبر العواطف

مختبر العواطف
18 مارس 2015 21:00
فيلم عباس كيارستمي «صورة طبق الأصل» Certified Copy 2011، يختلف عن أعماله السابقة في عدد من الأوجه، إذ منذ «الريح سوف تحملنا» (1999) وهو يحقق أعمالاً وثائقية وتجريبية وقصيرة، بعضها ذات طابع تجريدي مثل «خمسة» (2003) الذي يتألف من خمس لقطات طويلة ساكنة، فيها إيقاعات الحياة تتخذ دلالة غنائية، وهزلية أحياناً. وفيلم «شيرين» (2008) الذي صوره في بيته بطهران، وهو مؤلف من لقطات لنساء (أغلب ممثلات السينما الإيرانية، إضافة إلى جولييت بينوش) يشاهدن فيلماً لا نراه نحن المتفرجين. فيلم «صورة طبق الأصل»، على عكس أفلام كيارستمي السابقة، يعتمد على قصة وحوار وسيناريو. ولأول مرّة يصور فيلماً درامياً طويلاً خارج إيران (سبق له أن حقق أفلاماً وثائقية وقصيرة في أفريقيا وإيطاليا)، ولأول مرّة يستعين بنجمة مشهورة. هذا الفيلم يشكّل إضافة رائعة وجريئة إلى رصيد كيارستمي الإبداعي. وكما في أعماله الأخرى، نجد اهتماما خاصاً بالتفاصيل الدقيقة، الآسرة. إلى جانب التعرض، من منظور فلسفي وشعري، للقضايا الجوهرية العميقة في المجتمع: العلاقة بين الرجل والمرأة، الحياة والفن، الحضور والغياب، الواقع وتمثيل الواقع، النظر والتأمل. حياة في يوم الفيلم يدور في بلدة في توسكاني الإيطالية، خلال يوم واحد في حياة امرأة فرنسية (جولييت بينوش) صاحبة محل لبيع التحف القديمة، وكاتب وناقد ثقافي بريطاني (وليام شيمل، مغني الأوبرا في أول أدواره السينمائية) يتواجد في إيطاليا للترويج لكتابه ـ المترجم إلى الإيطالية ـ عن المواد الأصلية والمنسوخة، المعاد إنتاجها، في الفن. في هذا الكتاب يمتدح مكانة النسخ في تاريخ الفن، ويستجوب قيمة الموثوقية والأصالة في الفن، مؤكداً أن النسخة الجيدة، البارعة، من عمل فني يمكن أن تكون فعالة وذات قيمة كما العمل الأصلي تماماً، إذا مارست المحاكاة التأثير نفسه على المتلقي. تاريخ العمل ليس هو المهم، ما يهم هو كيفية النظر إلى النتاج. إن وظيفة وغاية النسخة أن تعطي الأصل معنى ما وقيمة. بينما هو يلقي المحاضرة، تأتي المرأة الفرنسية، برفقة ابنها، للاستماع إلى ما يقوله. لكن الابن الضجر، كثير التذمر والمشاغبة، يحثها على المغادرة. الكاتب لا يبدي أي تذمر أو ضيق عندما تأتي هي إلى محاضرته متأخرة، ثم تظهر استياءها من ابنها الضجر، المشاكس. الكاتب يزورها في محلها، فتقترح عليه أن تأخذه في رحلة بالسيارة إلى قرية مجاورة حتى المساء، قبل أن يحين موعد مغادرته بالقطار. هو يقبل الدعوة. يذهبان بسيارتها إلى قرية قريبة، فيما يتبادلان حديثاً مطولاً عن أشياء كثيرة ومتنوعة: الفن، الحياة، الطبيعة، العمل، الأطفال، العلاقات الإنسانية، الحب، السعادة إلخ.. وهما لا يتفقان في الرأي بل يتجادلان على نحو متواصل. في الواقع، هما يقضيان الوقت في الجدل والمشاحنة والمغازلة. مظاهر مريبة حتى هذه النقطة، نفهم مما يجري ظاهرياً أن الكاتب شخص غريب يثير اهتمام المرأة عاطفياً، وهو بدوره ينجذب إليها، أو على الأقل تثير فضوله. وإذا تمعنا أكثر في سبر العلاقة الثلاثية: هو وهي وابنها، سنتوقف حتماً عند بعض المواقف التي سوف تثير فينا الارتياب في المظهر الاعتيادي للأحداث: الصبي يعلم بانجذاب أمه عاطفياً تجاه الكاتب الزائر فيثير غيظها ويوبخها على هذا الاهتمام.. فهل هما زوجان منفصلان وابنهما ساخط من اهتمام أمه به بعد كل سنوات القطيعة؟ الفيلم لا يوضح ما إذا كانا قد التقيا للتو، أو أن ثمة علاقة قديمة بينهما ونحن نشهد استئنافها أو تكرارها. يصلان إلى القرية. يرتادان مقهى تديره امرأة تحسبهما زوجين، وهما لا ينكران ذلك، بل يتقمصان دوري الزوج والزوجة وهما في حالة توتر وخلاف واتهام متبادل ومشاعر خيبة وخذلان. في القرية يشهدان مظاهر عرس لزوجين شابين يشعان أملاً وتفاؤلاً، وفي الساحة العامة يلتقيان بزوجين في مرحلة الشيخوخة، حيث ينصحه الرجل العجوز (يؤدي دوره كاتب السيناريو الفرنسي الشهير جان كلود كارييه) بالمحافظة على العلاقة الزوجية بإدخال الفرح في قلب «زوجته» عبر إيماءة بسيطة، كأن يربّت على كتفها بوداعة. ويوضح له: ربما ليس من الممكن المحافظة على جذوة الحب كما كانت قبل سنوات لكن هناك وسائل تعزّز العلاقة، كالاحترام والمراعاة والعطف.. من دون حاجة إلى التريث والتحسر، أو الندم، تجاه الفرص التي ضاعت والأحلام التي لم تتحقق. هل هذه اللقاءات تمت مصادفةً، أم أنها تمثّل أصداء من ماضي العلاقة ومستقبلها؟ تجارب مركبة في يوم واحد (تدور فيه أحداث الفيلم)، وضمن خط سردي محدد، نشاهد ونختبر تجارب غنية ومركّبة تنتمي إلى مراحل مختلفة من عمر شخصين: رجل وامرأة. المرأة سريعة الانفعال والإستياء، كثيرة التهكم، تتكلف الابتهاج وتميل إلى التلاعب، لكن أسفل مظهرها تبدو حزينة، تتحكم بها بواعثها وردود افعالها التي لا تستطيع اخفاءها وكبحها. وهي عاطفية.. تحتاج منه إلى إيماءة حب، إلى إظهار مشاعر الحب تجاهها. الرجل عقلاني، متحفظ، كتوم، رزين. شحيح في إظهار مشاعره. منذ أول ظهور له يبدو واثقاً من نفسه، هادئاً، رابط الجأش. وهو يستخدم الكلمات والأفكار كدرع لمشاعره. من مواعدة بريئة لرجل وامرأة غريبين ولا يبدو أنهما التقيا من قبل، وقرار ودّي بالقيام بجولة استكشافية أو نزهة إلى قرية مجاورة، إلى استدعاء أو استذكار لعلاقة زوجية دامت 15 سنة تقريباً، بكل ما تحتويه العلاقة من مشاعر مختلطة ومتشابكة ومتناقضة، ومواقف متباينة.. نجد استعادة لكل ما يطرأ على العلاقة الزوجية من توترات وخيبات وتجاذبات ولحظات استرخاء ودفء، تؤطرها عادات وسلوكيات وأنماط روتينية وحساسيات مفرطة. كأن الانتقال الجغرافي إشارة ضمنية إلى تحول درامي جذري. والانتقال يتم بوساطة حيل فنية بارعة، ليس من السهل ملاحظتها في حينها (لذلك نصح العديد من نقاد الفيلم قراءهم على مشاهدة العمل أكثر من مرّة). بانتحالهما للأدوار الجديدة، يخلقان الإلتباس لدى المتفرج الذي يزداد حيرة وارتباكاً، مع التحوّل المفاجئ في واقع الفيلم، وفي تعيين وإدراك حقيقة العلاقة بين الاثنين: هل هما يتظاهران و«يلعبان» أدواراً أم أنهما زوجان فعلاً لكن يتفقان على القيام بأدوار من باب الإثارة والتشويق؟ ثمة تلميحات إلى علاقة بينهما في الماضي وهما يتجاهلانها.. هل تقاسما معاً حياة مشتركة ماضية؟ ما هي طبيعة العلاقة؟ هل هما يجددان علاقة سابقة؟ هل هما حبيبان محتملان؟ زوجان؟ زوجان سابقان؟ زواج حقيقي أم متخيل؟ حبيبان (زوجان) يختبران مدى متانة العلاقة بينهما بعد سنوات من الانفصال أو الانقطاع؟ هل يمتحنان المشاعر والعواطف؟ هل هجرها فعلاً لسنوات والآن يعود إليها ليرمّم أو يجدّد؟ هل تغيّر بوعي وإرادة وصار رجلاً مختلفاً؟ أم أنهما غريبان حقاً، ولم يتعرفا على بعض إلا منذ ساعات، وهي تختلق الأشياء وتغريه بالمشاركة في عالم يتأرجح بين الوهم والحقيقة، وينزلق داخل وخارج دائرة التخيل؟ هل هما ممثلان يؤديان دوري زوجين حديثين وزوجين قديمين في آن واحد؟ الاكتفاء بفهم العلاقة على أساس أنها تظاهر أو محض لعبة سوف يفضي إلى تجاهل أو تجنب الأوجه المركّبة للفيلم وتبسيط القضايا التي يطرحها الفيلم. تحولات بلا تفسير التحوّل، من حالة إلى أخرى، يكون مفاجئاً وبلا إشعار أو تمهيد. والفيلم لا يقدم تفسيراً أو تعليلاً أو تبريراً للتحول. إنه يحدث فحسب، بشكل طبيعي، تلقائي.. على الرغم من أنه تحوّل جذري في مواقف الشخصيات والبناء السردي، ومعها تتحول وتتغيّر العلاقات، وتتفجر أو تتبدّل المشاعر، والفضل في ذلك يعود إلى قدرة كيارستمي على التحكم في إيقاع العمل ورشاقة حركة الكاميرا، وسلاسة أداء الممثلين. كيارستمي، على نحو مقصود، يتجنب تقديم إجابة واضحة وصريحة. وسرعان ما يتبادر إلى الذهن هذا السؤال: هل المعرفة هنا مهمة لنا؟ كيارستمي لا يبحث في طبيعة الحب والزواج والعلاقات فحسب، ولا يستنطق الانعكاس والمحاكاة فقط، بل أيضا يسبر التخوم ذات المسامات بين القصص والواقع. إنه يوجه نظرة غير اعتيادية إلى العالم الحقيقي. في أعماله، هو لا ينظر إلى الفيلم بوصفه مرآة تعكس الواقع، ولا حتى إعادة إنتاج للواقع أو إعادة خلق، بل هو العمل الذي يتلاعب بالواقع، وهو يتيح للمتفرج أن يتصل بحيوات الشخصيات ومشاعرها وعلاقاتها وأبعادها الإنسانية من منظور مختلف. في مواضع عديدة من الفيلم، يلجأ كيارستمي إلى استخدام الأسطح العاكسة، في شكل مرايا، نوافذ، الحاجب الزجاجي للسيارة، وذلك ـ كما يقول الناقد كيث فيبس ـ من أجل مضاعفة وتحريف المحيط والأشياء والصور التي تتحدث عنها الشخصيات لكن تظل مرئية جزئياً فحسب. على السطح، يقدّم كيارستمي عملاً قائماً على الأداء الطبيعي، موظفاً اللقطات الطويلة الرشيقة، وكاشفاً عن حساسية مرهفة في تعامله مع المكان والزمن، بينما في العمق يعمل على تخريب توقعاتنا وإرباك أفكارنا المتصورة سلفاً. إنه يتلاعب بمداركنا الحسية بطريقة هازلة واستفزازية.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©