السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإقامة في السفر

الإقامة في السفر
20 أغسطس 2009 00:44
في أزمنة البدء أيّام العالم لم يزل بعد طريا هشّا محاطا بالأسرار، وأيام الكلمات لم تزل تمتلك سرّية الإيماءة وسلطان الإشارة، كانت الرحلة تعبيرا عن إصغاء الكائن لنداء الأقاصي. فالرحلة من جهة كونها حركة سفر وانتقال إنما تترجم الرغبة في العبور من الهُنَا إلى الهُنَاك، من الأليف إلى المجهول، من المحدود الضيق الخانق إلى المطلق. الرحلة ليست حدث سفر وتجوال في المكان أو في الوهم والخيال فحسب، بل هي ترجمة فعلية لرغبة الكائن في الخلاص من شرطيْ الزمان والمكان ومن العدم. في أزمنة البدء أيّام كانت الحياة هشة طرية مشتهاة وكانت الرحلة تعبيرا عن إصغاء الكائن لنداء الأقاصي. وفي أزمنة البدء كان خروج جلجامش من أُرُوكْ تجسيدا لهذه الرغبة الجارفة في تحطيم الحدود ومشاركة الآلهة في الخلود. وفي الأزمنة ذاتها كان بناء برج بابل تجسيدا للرغبة في الرحيل من البشري المحدود إلى المطلق والألوهي. لقد كانت رحلة جلجامش رحلة في المكان امتدّت أفقيا من بلاد الرافدين حتى جبال الأرز في لبنان. أما الرحلة التي خطّط لها بنو البشر عند بنائهم لبرج بابل فقد كانت حركة صعود وعُروجٍ امتدّت عموديا من الأرض إلى السماء وكلّلت بالخسران. ولن تخرج رحلة أورفيوس عند هبوطه إلى مملكة الدياجير عن هذه الأطر. فلقد كانت رحلة تنشد اختطاف الحياة من أحشاء العدم. وعلى هذا البحث الممضّ عن المعنى كان جريان رحلة عُوليس في الأوديسة. أما كتاب ألف ليلة وليلة فإنه كتاب سفر وترحال بامتياز. سفر من الواقعي المُصَدَّقِ به باتجاه ما لا يقبل التصديق لجعله ممكن التصديق، وما لا يمكن وقوعه في الأعيان لجعله ممكنا في التوهّم والأذهان بالالتجاء إلى القصّ والتخييل وتحطيم الحدود الفاصلة بين الممكن والمحال. ومثلما لم يجن جلجامش من رحلته غير المرارات، هُدّم برج بابل فبُلبِلت ألسنة بني البشر جرّاء سخط الآلهة. وعاد أوروفيوس كسير النفس إلى موطنه طراقيا بعد أن حكم على حبيبته يوريديكا بأن تؤبّد في مملكة هاديس وحيدة إلى الأبد. لكن الرحلة، تظل مع ذلك، حدث سفر باتجاه التّخوم، لأنها فعل وجود. ومعنى كونها فعل وجود أنها بحث عن المعنى أو توسيع لدائرة المعنى. والرحّالة، مثله مثل عابر السبيل إنما يختار الإقامة في السفر والترحال بحثا عن المغاير والفريد والعجيب. لذلك حين ننظر في كتب الرحالة العرب نلاحظ أن السرد فيها ينفتح على التعجيب ويكرّسه. بالحلم وفي الحلم يتمّ ابتناء المعنى. وبالحلم وفي الحلم تتمّ عمليّة توسيع دائرة المعنى. وكتب الرحالة العرب تحتوي على العديد من الأحداث والوقائع التي تسمح بتوسيع دائرة الحلم وتخطّي العقل إلى ما وراءه. وبذلك تصبح الرحلة، نتيجة ما تحتوي عليه من إغراب وتعجيب، بمثابة حكاية تنشد السفر باتجاه الأقاصي والنهايات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©