كاظم جهاد (باريس)- محمّد سعيد الصكّار، شاعر اللون وملون القصيدة، ترجل عن الحياة أمس الأول، تاركاً الحروف والكلمات، تاركاً الألون كما خطاها ونقشها في الصفحات وفي اللوحة.
الشاعر والفنان العراقي المقيم في باريس محمد سعيد الصكّار صاحب المسيرة الحافلة بالعطاء فنّاً وأدباً، وُلدَ في المقدادية، قرب ديالى، في وسط العراق في العام 1934، ونشأ في الخالص، القريبة منها أيضاً، إلاّ أنّه صار من قاطني البصرة منذ صباه، فاكتسب ثقافة بصريّة واسعة تمتدّ حتّى الجاحظ الذي بسط تأثيره الكبير على نثر الصّكّار، والذي استمدّ هو منه ولعه بتنوّع الممارسات الأدبيّة والفنيّة دون استسهال لأيٍّ منها، وميله إلى التبحّر الذي لا ثقل فيه ولا إملال.
كان الصكّار يجسّد بالفعل، خير تجسيد، شخصيّة الشاعر «الظّريف» بالمعنى الكلاسيكيّ للكلمة عند العرب، أي المتحدّث البليغ، الموزون النبرة، الذي يُعرب في كلامه عن دعابةٍ مرهفة أكثر ممّا عن ولع مجّانيّ بالنّكتة، وعن أدبٍ توجّهه معرفة رصينة وحساسيّة ودربة لا تنطّع فيها ولا إسفاف. نشأ الصّكّار في جيلٍ يضمّ السيّاب والبياتي والبريكان وكانوا أكبر منه سنّاً، وآخرين ممّن يقاربونه في السنّ. كما عرف الجواهري وبادله رسائل وقصائد. وقد بقي في شعره وفيّاً لغنائيّة هذا الجيل، مع غلبةٍ واضحة للغة الشّعراء البصريّين من حيث الاحتفاء بالمشهد أو بالمرئيّات، ومن حيث التّعبير عن العاطفة دون انثيالٍ صاخب، والاحتكام الدّائم إلى الموسيقى.
![]() |
|
![]() |
وبالرّجوع إلى كتاب الصّكّار «الأبجديّة العربيّة المركّزة: المشروع والمحنة» (1998)، ينبغي أن نشير إلى فظاعة المحنة التي تعرّض لها الفنّان في ظلّ النّظام السّابق في العراق على أثر ابتكاره هذا. فقد عمل بعض أجيري الحزب الحاكم على تصوير هذه الجماليّة الجديدة على أنّها تحريفٌ لأصالة الخطّ العربي لا بل مؤامرة على مقوّمات الشّخصيّة العربيّة. ولقد سيق الفنّان نتيجة ذلك إلى ما يشبه محاكمة أمام أربع لجانٍ كُلّفت بدراسة هذه الأبجديّة وتقدير مدى خطورتها. لا بل أكثر من ذلك، أرسل النّظام بصورة صريحة أحد مُخبريه ليُلازم الفنّان في منزله من الصّباح إلى المساء طيلة شهرين. هكذا بحيث لم يعد أمام الصكّار إلاّ أن يغادر البلد، فوصل إلى فرنسا في عام 1978، ومن هناك نشر في شتّى أرجاء العالم أبجديّته ولوحاته وقصائده وسرديّاته التي تشكّل جميعاً بعض أجمل الشّهادات على حيويّة المخيال العربيّ وأصالته.
![]() |
|
![]() |
وكان معهد العالم العربيّ بباريس قد نظّم في الخامس عشر من مارس الجاري، بمشاركة من سفارة العراق في فرنسا، حفلَ تكريم للفقيد الصكّار بمناسبة بلوغه سنّ الثمانين، ولمؤازرته في نضاله النبيل ضدّ المرض. كان ذلك حفلاً شعرياً وسينمائياً وموسيقياً فاجأ الصكّار جمهوره الغفير بحضوره فيه رغم معاناته متاعب الشيخوخة. جاء على كرسيّ متحرّك تدفعه السيّدة زوجته، وأخذ الكلام، بصوت خفيض، منساب ومعبّر، شاكراً ومعقّباً غير مرّة.
افتُـتح الحفل بكلمتَي ترحيب وتثمين حارّ لتجربة الصكّار، ألقاهما وزير الثقافة الفرنسي الأسبق والرئيس الحاليّ لمعهد العالم العربيّ جاك لانغ، وسفير العراق في فرنسا فريد ياسين. ثمّ تذكّر الروائيّ محمّد برادة بدايات معرفته للصكّار، وتكلّم عن صداقة طويلة الأمد انعقدت حول طموحات فنيّة وأمل مشترك بالتغيير، واختتم بالقول: «أستحضره لؤلؤة مشعّة وسط زمرة السُّراة المترصّدين الفجرَ من بغداد إلى الرباط.»
أمّا فاروق مردم بك فقد تذكّر المناسبات العديدة التي جمعته بالصكّار، وخصوصاً الشاكلة الآسرة والمتواضعة في آنٍ معاً، التي بها راح الصكّار يشرح له في إحدى المرّات أسلوبه الحروفيّ وطريقته في معالجة الخطّ العربيّ. باستثماره الديناميّة الشكليّة والإيقاعيّة الخاصّة بكلّ واحد من حروف الأبجدية العربيّة، ابتكر الصكّار أربعة خطوط جديدة سمّاها «العراقيّ» و«كوفيّ الخالص» و«البصريّ» و«النباتيّ».