الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

بيانو

بيانو
15 أغسطس 2009 23:37
في خبر مقتضب شغل حيزاً بسيطاً ومتواضعاً من الشريط الإخباري على إحدى الشاشات، أنَّ جهاز بيانو نجا من القنبلة الذرية التي استهدفت مدينة هيروشيما اليابانية، في أربعينيات القرن الماضي، قد أعيد تأهيله، وجرى تخصيصه للعزف من أجل السلام العالمي. وفي كم هائل من الأخبار التي امتلأت بها الصحف، وصخبت بأصدائها الأجهزة المرئية والمسموعة، أنَّ معركة حامية من الشتائم المتبادلة تدور رحاها بين «الفنانين» راغب علامة وفضل شاكر، ولأنَّ أحد المتشاتمين هو سوبر ستار، فكان من البديهي أن تكون القذائف الكلامية من مرتبة «الدي لوكس».. حتى لحظة كتابة هذه السطور، كان البيانو الخارج من تحت الأنقاض المتضررة لا يزال يعزف للسلام القادم من أعماق الذات البشرية، فيما كان الفنانان لا يزالان يتقاذفان بآخر ما توصلت إليه المخيلة الفنية المبدعة من أساليب السباب المقذع، حيث عُلم أنَّ راغب قد توغل في شتائمه فأدرك أسلاف فضل، الذي ردَّ مستهدفاً «السوبر» وشقيقه، وتشير المصادر المطلعة (كثيراً وجداً) إلى أنَّ نار الشتيمة المستعرة لن يخمد أوارها قبل أن تأكل أخضر الصلات العائلية ويابسها لكلا الفنانين، بعد ذلك لن يجد أحدهما (وربَّما كلاهما) حرجاً في أن يتحفنا بأغنية ملتهبة عن الحب ومشتقاته الوجدانية.. قبل فترة ليست بعيدة شهدنا سجالاً لا يقل سخونة بين اثنين آخرين من أهل الفن، هما ملحم بركات ومحمد عبده، مع حفظ الألقاب جميعها، المتوارثة منها والمكتسبة. بين الخبر المقتضب والكم المتراكم من الأخبار تنفرد مساحة معقولة للتأمل والتساؤل: الواضح أنَّ الناس الذين استخرجوا البيانو العتيق من تحت الركام الذري أرادوا توجيه رسالة صارمة ضد الحروب بمختلف أشكالها، والأشد وضوحاً أنَّهم أدركوا العمق المؤثر الذي تنطوي عليه الموسيقى، وما تملكه من فعالية تجعلها قادرة على مواجهة الذرَّة المتفجرة، وهي بين أكثر المنجزات البشرية فتكاً. هكذا أرسى هؤلاء المنقبون تحت دمار البناء والرؤى معادلة لا تعوزها الدهشة: الفن أكثر من مجرد شطحة ذهنية، وأعمق من بعض التجلي العابر لبعض مكنونات الموهبة، إنَّه موقف إنساني بالغ الثراء والأثر، كما هو وسيلة ناجعة من وسائل مكافحة الانهيار السلوكي والقيمي الذي قد يقضي على عالمنا المتحضر ذات لحظة تخلٍ. بكلمة أراد المنقبون وضع الفن في مواجهة الموت، وهم نجحوا في ذلك، وتمكنوا من البرهان على أنَّ البقاء هو للموسيقى حتى عندما تكون القوة المدمرة في مقابلها من النوع الشامل. في الجهة المقابلة من المشهد ثمة فنانون يتشاتمون، مدشنين بذلك زمناً فنياً صاخباً لا ينشد الورع التقليدي، زمنا ملتبسا يتداخل في أرجائه حابل الإبداع بنابل السفاهة، خليط عجائبي يليق بعصر التضرر القيمي الذي قيض لنا أن نكون شهوداً عليه.. زمن يملك فنانوه من النباهة ما يجعلهم يعملون بذهنية الموظف، فيكونون فنانين خلال الدوام الرسمي, أو حيث تدعو الحاجة فقط، وليس على مدار اليوم والعمر كأولئك الساذجين، باعثي الروح في البيانو المترمد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©