الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العصافير في القفص

العصافير في القفص
9 يناير 2014 21:47
عندما دق جرس الهاتف رد رئيس مكتب مكافحة المخدرات الموجود في المطار، ودار بينه وبين محدثه على الطرف الآخر الذي يتصل من خارج البلاد حوار، وقال له إن «العصفورة في الهواء»، وكانت تلك شيفرة للحديث بينهما، كل منهما يعرف ما هو المقصود منها، ولم يزد الكلام على هذه المفردات الثلاث، وتم إنهاء الاتصال من غير أن يقول أحدهما للآخر حتى الكلمة المعتادة «مع السلامة» أو شكراً، وبنفس طريقة الكلام استدعى رئيس المكتب ضابطاً من الذين يعملون معه كان في المكتب المجاور ينتظر دوره المخطط من قبل، وبنفس الطريقة تلقى «الإشارة» بأن العصفورة في الهواء، وكانت تعني أن الهدف المرصود قد استقل الطائرة وفي طريقه إليهم وعليه أن يبدأ فوراً الاستعداد للقيام بالمهمة المكلف بها. دخل الضابط غرفة داخلية ملحقة بمكتبه، وارتدى ملابس أخرى عبارة عن زي سائق تاكسي أجرة مثل الذي يرتديه السائقون الذين يعملون بين المطار ووسط المدينة، وعلى رأسه قبعة قديمة، توجه إلى «الكراج» واستقل سيارة أجرة حالتها جيدة لكي تصلح لاستقبال السائحين، وأمام صالة الوصول في المكان المخصص لسيارات الأجرة أوقف السيارة في انتظار وصول الطائرة، المعتاد أنه يتم تنظيم العمل بين السائقين طبقاً للأسبقية بانتظام، لكن الضابط المتخفي لا يريد إلا «العصفورة»، وقد ادعى أنه يقوم ببعض الإصلاحات العادية في السيارة إلى أن تحط الطائرة على أرض المطار، ويخرج ركابها ومن بينهم الهدف الذي يريده، إلى أن جاءه اتصال على جهاز اللاسلكي السري الذي يحتفظ به في طيات ملابسه يخبره بأن الطائرة قد وصلت، ولم يرد طبعاً لكنه اتخذ استعداداته ليكمل مهمته على أكمل وجه كما هو مطلوب. خرجت الفتاة أو «العصفورة» كما كانوا يطلقون عليها في هذه العملية، نحيفة ترتدي ملابس وثيرة تظهر أنها ثرية بشكل فاحش، تتهادى في خطواتها، جميلة بملامح غربية شرقية مختلطة، بها سحر وجاذبية، بينما تخفي عينيها وراء نظارة شمسية سوداء، تضع يدها في جيب المعطف الذي ترتديه وتمسك باليد الأخرى حقيبة يدها، بينما يقوم عامل من المطار بدفع «التروللي» اليدوي الذي يحمل عليه حقيبة ملابسها التي كان واضحاً أنها صغيرة، بعد أن تخطت المنطقة الجمركية والجوازات بسرعة وهي سعيدة بالتعامل الراقي والإنجاز، الذي لم يستغرق دقائق معدودة، وفور الخروج قام العامل باستدعاء السائق لكي يقوم بتوصيل «السائحة» إلى المكان الذي تريده، وما كان هذا العامل في الحقيقة إلا ضابطاً آخر لكي تتم العملية بنجاح. التقط الضابط (السائق) الحقيبة ووضعها داخل السيارة، وقام بفتح الباب الخلفي للراكبة كي تأخذ مكانها، وهو يرحب بها ويبتسم متمنياً لها طيب الإقامة والاستمتاع بوقتها في هذه الرحلة، وبعدما اتخذ مكانه على مقعد القيادة، سألها السؤال التقليدي الذي يسأله أي سائق لأي راكب، رغم أنه يعرف الإجابة مسبقاً، كان سؤاله إلى أي فندق تريدين أن نتجه؟ فكان الجواب: لا أريد فندقاً سأذهب إلى شقة مفروشة في منطقة راقية معروفة، ومدت يدها لتعطيه العنوان الذي ترغب التوجه إليه فأخذ الورقة من يدها وهو يقول يبدو أن هذه الزيارة ليست الأولى لك، فأجابت بالطبع هذه هي المرة الثالثة، ولا أفضل الإقامة بالفنادق لأنني أحب أن أكون على حريتي خاصة وأنا أستقبل أصدقائي، ومرة أخرى أعرب لها عن ترحيبه وتمنياته بوقت ممتع، كان هذا الحوار بكل تأكيد يصل إلى غرفة المراقبة في مكتب مكافحة المخدرات بكافة تفاصيله. بعد نحو نصف ساعة، توقفت سيارة الأجرة أمام البناية التي تريد «السائحة» أن تنزل فيها، استدعى السائق الناطور الذي كان جالساً على «دكته» المعروفة في المدخل يرتشف الشاي، يرتدي ملابسه البلدية وعلى رأسه عمامة غير مهندمة، شاربه كث وغير حليق اللحية منذ عدة أيام، ينتعل حذاء قديماً، وأسرع إلى السائق ملبياً النداء، فطلب منه أن يحمل الحقيبة ويوصلها إلى الشقة التي تريدها الفتاة الجميلة التي كانت تقف وتخرج من حافظة نقودها عدة دولارات زيادة على المبلغ المطلوب، وهي تدسها في يد السائق الذي شكرها بشدة وقبل أن يودعها، ويترك المكان سألته هل يمانع في أن يعطيها رقم هاتفه المحمول ليتولى مهمة تنقلاتها في الأيام القادمة، فقدمه لها وهو يقول على الرحب والسعة، وهي لا تدري من يكون. حمل الناطور الحقيبة الخفيفة إلى داخل المصعد، وعندما دققت في ملامحه علمت أنه ليس الناطور السابق الذي كان موجوداً في المرتين السابقتين اللتين حضرت فيهما إلى هنا، وسألته عن ذلك، فقال لها إنه شقيقه وتوجه إلى بلدته البعيدة لأن زوجته تضع مولودها الخامس ويجب أن يكون بجوارها، وفي الطابق الرابع توقف المصعد وأخرجت الفتاة المفتاح من جيبها وفتحت الباب، وقام الناطور بوضع الحقيبة داخل الشقة، وهو يتمنى لها وقتاً طيباً أيضاً ويحمد الله على وصولها بالسلامة، ويعرض عليها خدماته في أي وقت، وقامت بإخراج مبلغ من الدولارات ودسته في يده، فأخذه وهو يدعو لها ويقول إن هذا رزق ابن أخيه المولود الجديد، فقامت بإعطائه مبلغاً آخر لأنه شخص قنوع يحب لأخيه ما يحب لنفسه. عاد الناطور إلى مكانه في مدخل البناية، وانتحى جانباً في غرفته وأجرى اتصالاً قال فيه «العصفورة في العش»، فما كان الناطور إلا ضابطاً آخر يقوم بمراقبة الفتاة في مكان إقامتها ويؤدي مهمته بنجاح منقطع النظير كما قام زميله الذي لعب دور سائق التاكسي ومن قبله الحمال في المطار، وهكذا كانت الفتاة تحت عيون رجال مكافحة المخدرات منذ وصلت لحظة بلحظة، وفي صباح اليوم الثاني تلقى الضابط السائق اتصالاً منها تطلب منه أن يتوجه إلى المطار لإحضار صديقتها «سارة» وقد سهلت على الضباط المهمة المكلفين بها، وبالفعل حدث اليوم مثل الذي حدث بالأمس مع تغيير قليل في بعض الأشخاص إلا هذا السائق والناطور. في المساء خرجت الفتاتان الصديقتان أسماء وسارة في نزهة طلبتا من السائق أن ينظمها لهما، عبارة عن جولة في المناطق المعروفة، وتناولتا العشاء في مكان هادئ، طوال الوقت الذي كانتا فيه معه في السيارة تتحدثان بكلام غير مفهوم هو أقرب إلى الشيفرة وهما لا تدريان أنه منقول على الهواء مباشرة إلى مركز المراقبة من خلال الأجهزة المزروعة في السيارة، بينما السائق لا يشغله إلا الترحيب بهما ويبدو أنه لا يهتم بما تتحدثان فيه أو ربما يدعي أنه لا يفهم ما تقولان وكذلك لا يهتم، خاصة أن الفتاتين تتحدثان بعدة لغات في نفس الوقت بكلمات مختلطة بين الإنجليزية والفرنسية وقليل جداً من العربية، وعندما قام بإعادتهما إلى حيث تقيمان طلبتا منه أن يحضر في الصباح صديقهما القادم من الخارج هو الآخر، وحدث كما حدث في المرتين السابقتين. إلى هنا انتهت الخطوة الأولى وبدأت الثانية بعدما التأم الشمل بين الثالوث الخطير، فهذا «بلال» شاب مهاجر إلى بلاد الفرنجة، كان ثرياً ولم تكن هجرته فقط من أجل المال، يمتلك مطعماً في عاصمة أوروبية، يتعرف من خلاله على المهاجرين من مختلف دول العالم وخاصة من منطقة الشرق الأوسط، لما يجدونه عنده من أطعمة بلدانهم التي اعتادوا عليها، وبعدما راج نشاطه أصيب بداء الإدمان الذي قضى على الأخضر واليابس عنده، وكانت هاتان الفتاتان سبباً في وقوعه في هذا المنحدر، لكنهما عرضتا عليه انتشاله مما هو فيه والحفاظ على ما تبقى له، الأمر يتلخص في تهريب الكوكايين باهظ الثمن الذي لا يتعاطاه إلا الأثرياء وفي نفس الوقت يحقق أرباحاً خيالية، في البداية رفض خشية القبض عليه لأن المخدرات يتم الآن كشفها بسهولة، فكانت الخطة التي تريان أنها آمنة أن تقوما هما بالتهريب في جيوب سرية في حقائب اليد التي لا تثير الانتباه، وما عليه إلا أن يقوم بالترويج والتعامل مع التجار. تم الاتفاق على خطة التنفيذ، وعلى أن يقيموا في شقته في بلدته والتي مازال يحتفظ بها، ولا يقيمون في الفنادق حتى لا يتم كشف أمرهم، ومن ناحية أخرى يكتشفون المراقبة بسهولة كما يزعمون، وكانت الزيارة الأولى لهم استكشافية عن الطرق والتفتيش والتنقلات، ونجحت المهمة الأولى لهم، وقاموا بتهريب كيلوجرام من الكوكايين المخدر، غير أنه تم ضبط بعضه لدى التجار الذين اشتروه والكشف عنهم من أول مرة، وتأكد أنهم سيقومون بالمحاولة مرات أخرى كثيرة متعددة طالما لم يتم ضبطهم، وهم يحصلون على تأشيرات سياحية لعدة أيام، ويتم التسليم والتسلم في المناطق الأثرية. وكانت النهاية عندما ألقي القبض على المتهمين الثلاثة، لم يصدقوا أنفسهم وهم يرون السائق والحمال والناطور وحتى عامل السوبر ماركت وموظف الدليفري هم أنفسهم الضباط الذين يحققون معهم، ويحررون محاضر الضبط والتحريات والتحقيق، لم يجد المتهمون مفراً من الاعتراف فلا مجال للمراوغة أو الإنكار، فكل شيء ثابت بالصوت والصورة، وتم حبس العصافير كلها وإيداعهم قفص الاتهام.
المصدر: القاهرة
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©