السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

شعرية الصورة وعذابات العشق

شعرية الصورة وعذابات العشق
15 مارس 2012
حفلت أفلام المسابقة الرسمية في الدورة الثانية والستين من مهرجان برلين السينمائي الذي أقيم مؤخرا في العاصمة الألمانية، بمواضيع عديدة راهن معظمها على التجريب وكسر النمط التقليدي والشرط التجاري والتسويقي، ونجت أغلب هذه الأفلام من هيمنة المنتج الأوحد، فبدت من خلال منافذ إنتاجية غير ربحية أكثر تعافيا وتجددا وميلا للحقول البصرية والسردية المدهشة التي توفرها السينما بسخاء ـ وهي صفة مطبوعة على خيارات وهوية الفيلم الأوروبي عموما ـ ولكن هذا السخاء يرتهن بدوره لاستقلالية وتماسك الفيلم نفسه، وحساسية المخرج وقدرته الإبداعية التي تضمن حرية التعبير السينمائي وتخلصه من القيود التي يفرضها الذوق العام والسائد على حساب الذوق الخاص والنخبوي. هذا ما رأيناه في أفلام رصينة وجادة بقدر ما حملت من دلالات فكرية ثقيلة، بقدر ما أفصحت عن لغة بصرية جامحة ومتجاوزة، كما في “تابو” الفيلم المزدحم بالنوستالجيا والمونولوج الشعري الفائض الذي صدره لنا المخرج البرتغالي ميخيل جوميز، وفيلم “ميتيورا” المفعم بالروحانية والعتمات المضيئة لعزلة الرهبان في دير جبلي ناء ومحتشد بالرغبات الخفية، والتي جسّد فضاءاتها السرية وببراعة المخرج اليوناني سبيروس ستاثولوبولس، وهناك أيضا فيلم “قيصر يجب أن يموت” للأخوين تافياني والذي يعيدان من خلاله قراءة مأساة يوليوس قيصر لشكسبير من وجهة نظر معاصرة، بينما ذهبت أفلام قليلة باتجاه النبش والتنقيب في حكايات وأسرار التاريخ البعيد كما في فيلم: “غرام ملكي” للمخرج الدانماركي نيكولاي آرسيل، وفي الحكايات والأحداث المريبة للتاريخ القريب كما في فيلم: “راقصة الظلال” للمخرج الأيرلندي جيمس مارش، المتداخل في طرحه مع فيلم الأميركي ستيفن دالدري: “صاخب جدا، وقريب بشكل لا يصدق” حيث يحاور الفيلم ويتلمس أحداث الحادي عشر من سبتمر من زاوية نفسية وفلسفية لا توفر الكثير من الإدانة المباشرة والقائمة بشكل مجاني على مفهوم الفعل وردة الفعل. وللتركيز على نموذجين من كل جانب من هذه الأفلام يأتي الرصد المتمهل لفيلم “تابو” كنموذج للبحث في الطاقة غير المستثمرة للحكاية، والتي لن تكون هي عصب وهيكل الفيلم وقوامه النهائي، بل العكس من ذلك ستكون الحكاية هي مزاج الصورة وهواها وستكون هي الحالة البصرية المكثفة التي تمنح اللعبة العاطفية بين المتفرج والشاشة شكلا من الصراع الخفي بين الذاكرة الشخصية للمشاهد وبين ذاكرة الراوي، الذي لا يمكن له أن يتحكم في الابتكارات المشهدية للمخرج والمتجاوزة لقانون السرد وتسلسله. ابتكارات مشهدية النموذج الثاني سيكون ممثلا في فيلم “غرام ملكي” الذي تتحول فيه الواقعية التاريخية، إلى بحث عميق ومتشعب في أسرار ونوازع الذات الإنسانية الممزقة بين شرط الالتزام الأخلاقي ـ الخارجي ـ وبين شهوة الانجذاب الداخلي غير المتحكم به، ليكون هذا التمزق مرهونا بتضحية كبرى تحقق الخلاص الفردي للبطل التراجيدي، أينما كان هذا البطل، وأينما ساقه الزمن في دولابه الجهنمي الذي لا يعرف التوقف. في فيلم “تابو” يأتي المخرج ميخيل جوميز وبعد رحلة طويلة في عالم النقد السينمائي كي يقدم فيلمه الروائي الثالث، وهو مسكون بفكرة “الزمن الصلد”، الذي يمكن للسينما أن تحوله إلى زمن هش وقابل للإختراق، ابتداءا من الصورة المحايدة المليئة بغبش اللونين الأبيض والأسود، كي تكون هذه الصورة هي ترجمان النوستالجيا البعيدة والمنسية، ولسان الذاكرة البهية والمبجلة، وليس إنتهاء بتقاطعات السرد المتنقل بين الحاضر والماضي و انصياع هذا السرد لشرط الحدث الواقعي والتسلسل الموضوعي. ينقسم فيلم “تابو” وهو اسم لجبل في إحدى المستعمرات البرتغالية في أفريقيا الثلاثينات، إلى جزأين، الجزء الأول ينطلق من الزمن الراهن ويحمل عنوان: الجنة المفقودة” حيث نتعرف على شخصية (أورورا) العجوز التي تعيش في لشبونة والمصابة بالرهاب والخرف، كما أنها تعاني من شكوك مرضية تتعلق بخادمتها السمراء التي تعتقد أورورا أنها تمارس عليها نوعا من السحر الأفريقي الذي سوف يقضي عليها في النهاية، ورغم تطمينات جارتها المسنة ومساعدتها كي تتجاوز هذه المخاوف الوهمية، إلا أن أورورا تصر على فكرة القصاص الإلهى، لأنها ارتكبت أفعالا شنيعة في ماضيها الحافل بالخفايا والأسرار. وهي الأسرار التي يكشف الجزء الثاني من الفيلم وعنوانه: “الجنة” الكثير من متاهاتها السردية المخزنة والتي ظلت حبيسة للذكريات المبهجة والمعذبة لأورورا في فترة شبابها، ومن خلال استخدامه لكاميرا قياس 16 يسرد المخرج حكاية أورورا الشابة التي كانت تعيش بإحدى المستعمرات البرتغالية في أفريقيا أثناء حقبة االثلاثينات من القرن الماضي، وكيف تتحول حياتها السعيدة مع زوجها الذي ينتظر مولودها الأول إلى مأساة مزدوجة، تشترك أورورا في صياغة نسيجها الدموي، مع عشيقها الإيطالي الذي تتعرف عليه في المستعمرة، هذا العشق المحرم بدوره سيتحول إلى نقد تاريخي للعلاقة غير السوية بين المستعمر وبين السكان الأصليين المستلبين والمحرومين من الثروات الهائلة المحيطة بهم والمخبأة تحت أرجلهم، ومن خلال ابتكارات بصرية مدوخة تعيد ذاكرة وجماليات الأفلام الصامتة، وسرد متوفر على صياغات شعرية مدهشة، تتدفق صور ومشاهد ولقطات الفيلم، في مسار متقطع وغرائبي ومفارق أحيانا للحكاية الأساسية، وكأن بمخرج الفيلم يقدم لوحة هذيانية، تتداخل فيها طهرانية الحب بلعنة الخيانة، وتتمازج فيها الرومانسية المفتقدة مع إملاءات الواجب الاجتماعي، ولن يخلو هذا التشريح الذاتي لشخصيات العمل، من تشريح مقابل ولكنه أكثر شمولا يتعلق بالجشع الكولينيالي وصرخة الضحية التي تتحول بدورها إلى لعنة تاريخية مقرونة بالدم والموت والخراب الروحي في المجتمعات المعاصرة. علاقات خفية وفي سياق مشابه لما تضمنته الحبكة الأساسية أو بؤرة السرد في فيلم “تابو” يأتي فيلم المخرج الدانمركي نيكولاي آرسيل “علاقة ملكية” أو (غرام ملكي) royal Affair ليستنطق المأساة من حيثيات وتفاصيل حكايات العشق المحرم ومن النتائج الكارثية لهذا العشق المدان والمتجاوز للسائد الاجتماعي، حتى لو كان أصل هذه الحكايات نابعا من وقائع تاريخية موثقة، وليست من مدونات الخيال الروائي. تقع أحداث الفيلم في القرن الثامن عشر وتحديدا في العام 1768 عندما يتولى الملك كريستيان السابع حكم الدانمارك، ويقرر الزواج من إحدى النساء المنتميات لطبقة النبلاء في بريطانيا، وعلى عكس تمنيات الأسرة الدانماركية المالكة، ومعها هيئة المستشارين، فإن هذا الزواج لن يساهم في شفاء الملك من هلوساته المرضية وسلوكياته المستهجنة، والأكثر من ذلك أن هذا الزواج الشكلي سوف يضع الأميرة الجديدة والغريبة عن المكان في دوامة من القلق والكآبة والعزلة الاختيارية، ورغم شغف الأميرة بالروايات والموسيقا والحكايات الرومانسية والفلسفة، إلا أن هذا الرباط الصادم سوف يجعلها حبيسة لألمها الداخلي العميق، والذي لن تشفى إلا بعد تعرفها على طبيب الملك الجديد الذي يحمل أفكارا تنويرية، ويتمتع جاذبية شخصية ووعيا ثقافيا واجتماعيا متفردا، ما يدفع بالملك إلى تعيينه مستشارا شخصيا له، وما يدفع بالأميرة إلى الارتباط به عاطفيا، وإخفاء سر هذه العلاقة عن كل المحيطين بالملك، تساهم هذه العلاقة الجديدة في استعادة الأميرة لعافيتها النفسية والعاطفية، بينما يساهم الطبيب بأفكاره الجديدة في إحداث ثورة اجتماعية سبقت الثورة الفرنسية، وكادت أن تضع الدانمارك في واجهة الدول الأوروبية التي تطبق مبادئ الحرية والعدالة والمساواة في هذه القارة المترامية الأطراف والخارجة لتوها من عهود سحيقة غلب عليها الجهل والفوضى والحكم الاستبدادي المطلق للكنيسة. هذه الشعبية الجارفة التي بدأ يكتسبها الطبيب المثقف تدريجيا سوف تثير غيرة المستشارين المحيطين بملكهم المخبول، والمؤمن رغم كل تصرفاته الطائشة، بأن هذا الطبيب سوف يحول بلاده إلى مهد للعلم والثقافة والإصلاح الاجتماعي، ولكن الغيرة المتزايدة من منافسي الطبيب سوف تتسبب في الكشف عن علاقته الآثمة بالأميرة، ما يؤدي في النهاية إلى انطفاء المشروع التنويري برمته، بعد إعدام الطبيب وتهجير الأميرة وأطفالها إلى بلد مجاور، حيث تشرع في كتابة مذكراتها حول الأحداث الهائلة التي عصفت بها وبالدانمارك، في تلك الفترة الطموحة والحرجة في تاريخ أوروبا كلها، ولتتحول المذكرات إلى ما يشبه وثيقة الغفران، التي تركتها لأبنائها كي تبوح عن أسرار عشقها المحرم، وكيف أن الظروف الصادمة والمؤلمة يمكن أن تقود أشخاصا حساسين مثلها، إلى نهايات مفجعة وأقرب إلى التضحية والاشتباك المطلق مع الحرية، رغم كل الندم والخيبة والخسارات الناتجة عنها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©