الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الخروج عن السرب

الخروج عن السرب
15 مارس 2012
لم تتعد لوحات الشاعر التشكيلي محمد المزروعي جغرافية الوجه الإنساني إلا قليلاً، ذلك خلال معرضه الذي أقيم قبل أسبوع في أبوظبي والذي لا يزال قائماً تحت عنوان “بنات النار”. وجوه ذات ملامح، هذه الملامح سر وجود اللوحة، كينونتها الخفية، وجوه لنساء، وجوه لرجال، وجوه عدائية، وأخرى مستسلمة، وجوه جشعة، وجوه كلبية، وجوه شهوانية، وأخرى بلهاء. تلك بتقديري الفلسفة التي أقام عليها المزروعي معرضه، فالوجه المشوه يمتلك جمالياته، لنتذكر أن أجمل قصيدة لبودلير هي “الجيفة”. سلمان كاصد مما يأسر المشاهد هذا الخفاء في سر تعاقب هذا الوجه، ومما يأسر المشاهد أيضا هذا الإخفاء فيما وراء الوجوه، الملامح سر وجودنا، سر تعرفنا، التجريد لدى المزروعي من السهولة فهمه، لأنه لا يتخطى الوجوه. لم يحمل المعرض اسماً للوحات، ظلت مجردة من اسمها.. الاسم هو الذي يعطي الأشياء كينونتها، وكأن المزروعي بإلغاء الأسماء نراه وقد استبدلها بالوجوه، فهي موطن المعرفة. من المنطقي وتجسيداً لهذا المفهوم نبادر دوماً نحن البشر بالتعرف عبر الوجه، العيون، الأنوف، الملامح، ونترك الاسم مستحضرين تذكره فيما بعد، تلك هي لعبة الفنان عندما يبصر هذه الكينونة التي تتحكم في علاقاتنا فينشئ منها نصاً. 38 لوحة نفذت بمختلف المواد لوحة طباعية “المونوتايب” الطبعة الواحدة وهي من الجرافيك وأخريات بالجرافيك وبعضها بالزيت على الورق أو بالاكرليك على القماش، وبالألوان المائية وبالخامات المتنوعة جميعها تحيط بعمل تركيبي واحد فقط هو “المانيكان” الذي قدمه المزروعي من خامات متعددة منها البلاستيك والدزاين والحديد. مساحة اللعب اتخذ المزروعي العينين والأنف مساحة للعب على أشكالهما، تنوعهما، تعددهما اللامتناهي في وجه الإنسان، فالتجأ بذلك إلى البورتريه مضمناً تلك العناصر اللامتناهية، ملخصاً من خلالها فكرة الجمال، رامزاً لهوس الإنسان، لعذوبته، لشفافيته، لنزقه، لقلقه، لانسجامه، لوحشيته وجنونه. ربما يلحظ المتلقي للوهلة الأولى أن هذه اللوحات جميعها متشابهة، متكررة، كونها تعيد تقديم المقدم، تعيد تقديم الأنوف والعيون إلا أنه حالما يحدق ملياً فيها يجد أن المزروعي يعيد تقديم الأشياء بصياغات مختلفة، لمسة هنا وأخرى هناك، ضربة من فرشاة مجنونة تعيد تركيب المعنى، بل تضعه على طريق آخر، تلك هي لا نمطية لوحات المزروعي حيث نجد الاختلاف في كل لوحة عن اللوحة التي تليها والتي قبلها، بل نجد أن كل لوحات المعرض وقد انتمت إلى ملامح مدارس تشكيلية مختلفة. غرضية اللوحة المزروعي يتلاعب بغرضية اللوحة فيتفرد في معرضه هذا كونه قدم رؤية مغايرة عن المألوف، إذ هو يرتكب حماقة التغريد خارج السرب السائد، حماقة الاعتراف به، فناناً، منسجماً مع ذاته حينما يختط لنفسه رؤى ومنهجاً تعبر عن أفكاره الفلسفية والنفسية ورغباته الضائعة، والتي تتجسد في كل ضربة من ضربات فرشاته التي تحمل فكرة غريبة تضيف للوحة بعداً معنوياً وموضوعاتياً، ذلك هو التعدد وتلك هي الفرادة. عندما يحاول المزروعي أن يقترب من الواقع، في تمثل العالم الخارجي كما هو، تراه يبتعد سريعاً عنه فيعمد إلى هوس الضربة القاسية، يضع على الرقبة سواداً، ينثر شعر الرأس بلا تنسيق، يقطع الأيدي، يلغي الرقبة، يخفي الجسد الانساني في اللون الواحد وكأنه خيال، وكل ذلك على افتراض أنه يخاطب متلقياً إيجابياً لا سلبيا، متلقياً يفهم ما وراء تلك الحركة، أما محمد المزروعي فهو الباحث دوماً عن سر التجريد. يرى المزروعي أن لوحاته حينما لا تحمل أسماء بفرض كيلا توجه المتلقي إلى معنى أدبي مضموني فتعطل فيه استخدام ذائقته البصرية. في لوحة له نسميها “فتاة ونساء” نجد معادلاً بصرياً، امرأة ونساء، رموزا صغيرة لشخصيتها، لتاريخ حياتها، ربما هي رموز لانشطارها الذاتي، أو ربما تدرج موضوعي لتحولاتها. كذلك في بورتريه لذكر و4 نساء، وهنا لابد من التعليق على ماهية العدد وغرضيته، فالعدد بحسب المزروعي لا يمتلك قيمة معرفية، لكننا نفترض أن لا وعي الفنان قاده إلى التعبير عن هيمنة هذا العدد وبخاصة ارتباطه التاريخي بالأنثى، وبالتعدد الرجولي أو ربما ـ بحسب الفنان ـ بالعناصر الأربعة “التراب، الماء، النار، الهواء”. يرسم المزروعي في لوحة أخرى رجلاً وقرينته الأنثى، الرجل في حالة استسلام والقرينة في حالة تسلط وكل ذلك نقرأه من خلال رمز بسيط لا ينتبه إليه، حينما جعل الفنان القرينة واقفة بكبرياء والذكر جالساً بخنوع. المفقود والمأمول رمز آخر من الصعوبة الالتفات إليه عندما يرسم المزروعي رجلاً بالأسود والأبيض، وآخر شبيه له بالألوان.. هناك في فقدان اللون أراد المزروعي أن يجسد انسحاقه، بل أن يسحق شخصيته التي لا لون لها، وهنا في اللون أراده أن يتألق. ينتهي المزروعي من رسم لوحة لامرأة خائبة، ضائعة، خاسرة العمر، ولا دليل هناك له في اللوحة على كل تلك الأوصاف، ينتبه فجأة إلى أن ثمة مساحة هناك في الزاوية السفلية اليمنى من اللوحة لا تزال بيضاء، هناك، يضع الرمز وهو “غراب أسود يمد منقاره إليها”. يستغل المزروعي أسطورة الغراب الذي يحمل نبأ البهجة، ذلك الذي يفسر مشاعر المرأة - فرحاً أو خوفاً - هو الخبر المفقود والخبر المأمول، وبالرغم من أن الغراب يبدو صغيراً إلا أنه يشكل نصف المعنى في هذا العمل. لوحة لوجهين كلبيين، مسخ للأشكال، وما بينهما اصفرار الموت، في منتصف اللوحة، كائن محفور في اللون “مونو كلر”. يستغل المزروعي الطوق/ الاسورة ليقرأ تاريخ العسف عبر الكولاج، الاسورة عندما تنتقل من الواقعي إلى الفن تتحول دلالتها من الدلالة الجمالية التي تمنح للمعصم إلى الدلالة القهرية، القسرية، والتي تمنح للمعصم أيضاً، وهنا ندخل في المعاني المتعددة لها بين الزينة/ القيد، إنه محاولة للتعبير عن القيد الاجتماعي حيث تأخذ هذه الاسورة معنى فنتازياً. العيون والأنوف العين دلالة التعبير، الأنف دلالة الاستقبال. قدم محمد المزروعي هذا المفهوم في البورتريه، فهو يحاول تسكين لحظة محددة أشبه بالفوتوغراف اذ هو لا يسعى إلى خلق ديناميكية ما، وإنما يحاول أن ينقل اللحظة التي لن تتكرر في الزمان. ولكن مما يؤخذ على فكرة البورتريه أنها عادة ما تكون مقاربة مع وجه معروف لدى الفنان، هنا نجد تجسيداً للتغريب البريختي عندما يغرب المعروف/ المعلوم باتجاه المجهول، لأن البورتريه لدى محمد المزروعي لا انتماء له، وبحسب المزروعي نفسه فإن البورتريه حالات مختلفة أكثر منها وجوهاً، ولكن لا يستطيع إظهارها إلا من خلال شيء متعارف عليه. ولو كانت أجزاء الجسد الأخرى تدخل ضمن المهيمن الجمالي كما هو الوجه لكان توجه لها الفن فأظهر جمالياتها. ذلك هو عالم محمد المزروعي عندما يشتغل على الموضوعة والدلالة وأن همه الأول هو ألا يشتت نفسه في إيجاد علاقات فنية مغايرة أو إيجاد تعددات شكلية، إذ أنه يرى كما يبدو من لوحاته أن كل لوحة هي الغرض نفسه الذي يريده من الرمز الذي يكتنفها. ويبقى تساؤل أخير.. لماذا “بنات النار”؟
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©