الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الكتابة ضدّ المنفى والحرب

الكتابة ضدّ المنفى والحرب
15 مارس 2012
يتركز جل الترجمات الأدبية على الآداب الأنكلو سكسونية، في حين ما يزال الاهتمام بآداب شعوب العالم الثالث محدودا جدا لأسباب تتعلق أولا بمركزية الثقافية الغربية وسيطرتها على الثقافات الأخرى، والثانية هي ندرة المعرفة بتلك اللغات بسبب محدودية انتشارها عالميا، الأمر الذي يجعل الترجمة العربية لبعض تلك الأعمال تكون عن طريق لغة وسيطة هي الانجليزية أو الفرنسية غالبا. وتعدُّ رواية “موطن الألم” للروائية الكرواتية دوبرافكا أوجاريسكا مثالا عن الأعمال المترجمة عن لغة وسيطة هي الانجليزية. وبغض النظر عما تفقده تلك الأعمال من جمالياتها وإيقاعها في لغتها الأم، فإن هذه الترجمة التي صدرت ضمن سلسلة إبداعات عالمية الكويتية تكشف لنا عن تجربة مهمة لروائية كرواتية عرفت بمواقفها المناهضة لاستقلال كرواتيا وللحرب والنزعة القومية التي مزقت يوغسلافيا القديمة وخلفت مآس إنسانية مروعة. تتولى الراوية الكرواتية تانيا بطلة الرواية من خلال سرد حكايتها كمدرسة للغات الصربية الكرواتية في إحدى الجامعات الهولندية بامستردام سرد حكايتها وحكايات شخوصها ومعانتهم من اللاجئين والمنفيين الفارين من جحيم الحرب القومية والدينية في بلادها الممزقة حيث يحاولون عبر دراسة اللغات الصربية والكرواتية التي أصبحت من الماضي الحصول على الإقامة أو اللجوء. وإذا كان المنفى يشكل المكان الجامع لتلك الشخصيات، فإن لكل شخصية طريقتها في التعبير عن هذه العلاقة مع المنفى وسط حالة التمزق وضياع الهوية والألم التي تعيشها باحثة عن خلاصها بعد أن وجدت نفسها أمام واقع جديد وهوية جديدة وذاكرة مثقلة بالدم والدمار والضياع . تتميز الرواية بدءا من الاستهلالات الشعرية التي تتصدر بداية ونهاية الرواية ومطلع أجزائها وحتى لغتها السردية المكثفة بشاعريتها التي تضافرت مع استخدامها للسرد بضمير المتكلم في إضفاء طابع إنساني حميم على لغتها وأحداث روايتها وشخوصها “لقد جاؤوا إلى هنا مع اندلاع الحرب. استطاع بعضهم الحصول على صفة لاجئين وفشل الآخرون. كان معظمهم أتوا من صربيا، وقد رحلوا عن بلادهم لتجنب الخدمة العسكرية، حيث جاء البعض من جبهات القتال، وآخرون جاؤوا للتنزه لكنهم قرروا البقاء. وهناك أيضا من سمعوا عن كرم السلطات الهولندية في منح الرعاية الاجتماعية والمسكن للاجئين اليوغسلاف فجاءوا لاستبدال شيوع حيواتهم غير المضمونة بأشياء واقعية. وهناك من سنحت لهم الظروف باتخاذ شريك حياة”. إذا ثمة اختيارات ودوافع وأهداف متعددة تقف وراء وجود شخصيات الرواية في عالم المنفى، الأمر الذي يجعل العلاقة مع المنفى تختلف باختلاف نوعية الظروف واختيارات كل شخصية، وإن كان عالم الحرب الذي قادهم إلى المنفى قد جعلهم يجدون أنفسهم في مواجهة حقائق صادمة تتعلق بالانتماء واللغة والهوية والمستقبل وحجم الخسارات التي فرضتها الحرب على كيانهم ووجودهم. شخصيات الرواية تتميز الرواية بمحدودية شخصياتها بسبب العالم المحدود الذي تتحرك فيه بطلة الرواية وحالة الغربة التي تعيشها في منفاها، لكن اللافت لنظر القارئ هو أن أغلب شخصيات الرواية تظهر من دون أسماء في الأجزاء الأولى من الرواية، على الرغم من أن الراوية تقوم بتقديم شخصياتها والتعريف بهم وبالأعمال التي مارسوها لضمان حياتهم، والحصول على إقاماتهم في هولندا، وما واجهوه من ظروف صعبة قادت الكثير منهم إلى مشافي الأمراض النفسية أو الانتحار بسبب الشعور الفادح بالضياع والخسارة إثر تقسيم بلدهم الذي لم يعد موجودا وتحول اسمه على سبيل الدعابة إلى بلد تيتو أو التيتانيك، بينما أصبح سكانه يسمون بـ”اليوغاف”. ينطوي تقديم شخصيات طلابها من دون أسماء على رغبة بالإيحاء بحالة الضياع وغياب الهوية والشعور بالذات عند تلك الشخصيات. تكشف العلاقة بالزمن عند تلك الشخصيات عن حالة الضياع والعبث والانقطاع التي حاول البعض أن يمنحها بعداً فلسفياً خاصاً، يؤكد على جدلية العلاقة بين المكان والزمان، كما يقول لها رفيق رحلتها العائد من زيارته إلى زغرب إلى وطنه الجديد أميركا” عندما ترحلين فإنك تغيرين ما هو أكثر من تغيير مكانك، فأنت تغيرين زمنك، زمنك الداخلي. الزمن في “زغرب” يمضي الآن بسرعة تفوق كثيرا سرعة زمنك الداخلي. أنت ما زلت عالقة في إطار زمنك الغابر. أراهن أنك تظنين أن الحرب اندلعت أمس”. قلت بانفعال: “إنها كذلك وهي لم تنته بعد”. ويتجلى هذا الحضور العميق للزمن الداخلي عند بطلة الرواية تانيا واستغراقها فيه من خلال عودتها إلى زمن الطفولة مستعيدة بعض الطقوس والمشاهد الأكثر دلالة والتي كانت سائدة في حياة أسرتها وسلوكها الاجتماعي آنذاك. ولاشك أن هذه العودة بقدر ما تشكل نوعا من الحنين إلى ذلك الماضي ومحاولة استعادة، فهي تعبر عن محاولة الالتجاء إلى ذلك الماضي هروبا من وطأة الحاضر والشعور بالفراغ والغربة والوحدة والفقد في عالم المنفى، وكأنها بذلك تؤثث عالمها الفارغ والبارد بدفء ذلك الماضي الجميل لكي تستعين بتلك الصور والذكريات على قسوة الحاضر أو التخفيف من غلواء مرارته ووحشته. غربة مزدوجة إذا كان الإحساس بالغربة في المنفى معطى طبيعيا بسبب صعوبة التكيف مع المكان الغريب، فإن المفارقة تكمن في العلاقة مع الوطن بعد عودة بطلة الرواية إلى مدينتها زغرب، حيث تبرز علاقة الغربة والانقطاع عن المكان من خلال ما أصاب ذلك المكان من تبدل وتغير طال كل شيء فيه من أسماء الشوارع والساحات إلى علاقات الناس، ما جعلها تشعر كأنها تدخل إلى مكان غريب. لقد جاء هذا التبدل الذي أفقد المكان ذاكرته القديمة مترافقا مع حالة التمزق والانقسام العرقي والديني والمذهبي الذي شهدته يوغسلافية القديمة، الأمر الذي يفاقم من حالة الضياع والغربة والأسى التي تعيشها تانيا، وينعكس على علاقتها بطلابها إذ تتحول فجاءة من الصداقة والتساهل إلى الجدِّية والصرامة التي تثير دهشة واستغراب الطلبة حتى أن ايجور يقوم بمهاجمتها بمنزلها وتعذيبها بعد تقييدها انتقاما لقيامها بوضع علامة راسب له. تبدو بطلة الرواية أسيرة الماضي وعذاباته الحاضرة في وعيها المأساوي لحقبة الحرب الكونية الثانية والهيمنة الشيوعية والبوليسية على الحياة والناس ثم الحرب المتعددة الجبهات حتى تتحول حياتها إلى كوابيس تتكرر باستمرار “ومثل نادب بلقاني رحت أنوح بكربي على الفرد وعلى الجميع. وكربي وحده كان أبكم. حزنت على زغرب وسراييفو وبلغراد وبودابست وصوفيا وبوخارست وواجهات مدينة سكوبي التي تهدمت”. تفيض لغة السرد بشعريتها وجماليتها التي تستبطن أعماق شخصياتها وهي تواجه مصائرها عارية من كل شيء في منفى عليها أن تفعل كل شيء من أجل الحفاظ على بقائها لكن فداحة المنفى تقود كل منهم إلى خيارات مختلفة لكنها جميعا تكشف عن حجم الألم الإنساني وحالة التمزق التي تحكم حياتها وعلاقتها بالحياة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©