الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

مناسبات ماركيز.. الدائمة

مناسبات ماركيز.. الدائمة
15 مارس 2012
فجأة وجد الكاتب العالمي الكولومبي جابرييل جارثيا ماركيز الحائز على جائزة نوبل للآداب عام 1982 نفسه مضطرا إلى توزيع وقته خلال هذا العام بين عدد كبير من الاحتفالات الكبرى التي يقيمها له الأصدقاء والقراء معا، دون أن ينتبه إليها وهو الحيي الخجول الهارب دائما من أضواء الشهرة التي طاردته قبل نوبل وبعدها، ولم يعد الآن يملك وهو يعبر العام الخامس والثمانين باتجاه العام السادس والثمانين دفعا للأضواء التي بدأت تتسلط عليه من عاصمة الثقافة الإسبانية برشلونة مقر مديرة أعماله الأدبية كارمن بالسيلز ودار النشر التي قدمته للقراء في أول وآخر عمل روائي له “دار موندادوري للنشر”. أول هذه الاحتفالات كان يوم 6 مارس الحالي احتفالا بعيد ميلاده الخامس والثمانين (مواليد اراكاتاكا 1927)، تلك القرية الصغيرة التي تحيط بها غابات الموز والتي تحولت في كتاباته إلى “ماكوندو” الأسطورية المتخيلة التي انطلقت منها خيالاته الطفولية الأولى لتصبح فيما بعد مسرحا لأهم أعماله مسلطة الضوء على عالم مليء بالدهشة والغرابة. احتفالات عديدة ويعقب الاحتفال بعيد الميلاد، الاحتفال بمرور ستين عاما على صدور قصته القصيرة الأولى “الخضوع الثالث”، تلك القصة التي نشرها وهو في العشرين من عمره، وبعد أسابيع قليلة من حصوله على البكالوريا، وقراره أن يمارس مهنة الصحافة بعد أن فشل في تجارب كتابة الشعر، كما يقول في مذكراته “أن تعيش لتحكي”، وتبخر حلمه في أن يصبح عازف بيانو في حانة للعشاق، وربما كانت ذكرى فرحته بنشر هذه القصة وقتها ممزوجة بالألم والأسى لأنه، يتذكر، لم يكن يملك خمس سنتيمات لشراء صحيفة “الاسبكتادور” التي نشرت اسمه ولأول مرة بحروف بارزة مرفقة بأول قصة يكتبها، فكانت الفرحة ممزوجة بالألم. ثم يأتي الاحتفال الأكبر والأكثر جاذبية في حياة جابرييل جارثيا ماركيز وحياة قرائه وعشاقه في العالم كله، الاحتفال بمرور خمسة وأربعين عاما على صدور رائعته “مائة عام من العزلة”، الرواية التي كرسته ككاتب له مشروعه الخاص وفتحت أمامه الطريق إلى جائزة نوبل، وهو الذي كان حلمه، كما قال، أن يكون عازفا للبيانو في إحدى الحانات ليتقارب العشاق على عزف أنامله، فتحول إلى معشوق القراء في جميع إنحاء العالم، تلك الرواية التي كتبها مستلهما طفولته الأولى ملتصقا بالجدة “ترانكلينا” التي تحفظ الأغاني والحكايات وتحكيها له لعله ينصرف إلى النوم مرتعبا من هول أحداث حكاياتها، والجد “الكولونيل السابق بالجيش الوطني” الذي عاش حياته كلها في انتظار رسالة تكريمه والاعتراف بفضله في النضال من أجل الوطن وتخصيص معاش شهري يقيه شر العوز الذي كان يعيش فيه فعلا. يشهد هذا العام أيضا الاحتفال بمرور ثلاثين عاما على حصوله على جائزة نوبل للآداب، ورغم توقع الكثيرين لفوزه إلا أن المفاجأة أن يفوز بها في هذه السن المبكرة، لكنه كان يستحقها عن جدارة، ولم يفكر كثيرا قبل أن يرتدي زيه الكاريبي الأبيض ليتلقى جائزة نوبل بعيدا عن الملابس الرسمية المنشاة التي اعتاد الفائزون بجوائز نوبل الظهور بها باعتباره حفلا رسميا يحضره ملك، وتشاهده الصفوة. ثم الاحتفال أيضا بمرور عشر سنوات على صدور الجزء الأول من مذكراته الشخصية “أن تعيش لتحكي”، والتي ينتظر القراء على أحر من الجمر صدور الجزء الثاني منها الذي يبدو أن متاعب صحية للكاتب العالمي تحول دون وضعها على قائمة المبيعات، لأنه قبل أكثر من خمس سنوات قال إنها أصبحت جاهزة ولكنها تنتظر تفرغه لإعدادها بشكل نهائي للطباعة، لأن ما كتبه من هذا الجزء يتجاوز عدة آلاف من الصفحات ومطلوب تنقيتها وحذف أجزاء كثيرة منها كما فعل مع الجزء الأول. هدية غالية عند بدء هذه الاحتفالات كانت أول هدية تصله من ممثلته ومسؤولة نشر كتبه “كارمن بالسيلز” التي قدمت له هدية مزدوجة قيمة لها معناها عند الكاتب العالمي: باقة من الزهور الصفراء التي يعشقها والطبعة الالكترونية الأولى من روايته الأثيرة “مائة عام من العزلة”، ونبأ نشر هذه الرواية على الشبكة بغلافها الذي طُبعت فيه في طبعتها الأولى، عبارة عن سفينة تمخر عباب الغابات الكولومبية. وهذه الطبعة سوف تكون العمل الرابع لماركيز على الشبكة العنكبوتية، فقد صدرت له من قبل ثلاثة أعمال فقط في النشر الالكتروني: “حكاية غريق”، و”كل الحكايات”، و”أن تعيش لتحكي”، وتقرر أن تكون طبعة “مائة عام من العزلة” الالكترونية باللغة الإسبانية فقط، ولن يتم التصريح بأي طبعة بأي لغة أخرى، تنفيذا لسياسة يتبعها مكتب كارمن بالسيلز التي ترى أن العالم الافتراضي سوق ثقافي بلا حدود والتعامل معه يجب أن يكون وفقا لخطوات مدروسة، ولا يمكن اتخاذ خطوة فيه قبل دراستها بشكل جيد، والطريف هنا هو السعر الذي تباع الطبعة الالكترونية باللغة الإسبانية: 5.95 يورو، أي أقل من 6 يورو بقليل وهو سعر زهيد مقارنة بسعر الطبعة الورقية التي تتعدى الثلاثين يورو في طبعتها الشعبية. منذ اللحظة التي انتقلت فيها رواية “مائة عام من العزلة” مبحرة في الفضاء الافتراضي، انطلقت أيضا معها شخصياتها لتحكي عن أصول وبدايات هذا الكاتب الذي أبدعها خلال عام ونصف فقط، مستحلبا حكايات جدته لأمه “ترانكلينا” التي كانت تقص عليه حكاياتها المرعبة لتخيفه وتبقيه قريبا منها وبعيدا عن المغامرات، وإذا بها تصل إلى نتيجة عكسية، فقد استخدم ماركيز رعبه من حكايات الجدة ليبحر في عالم من الخيال والواقع الواقعي ويفوق ذلك الواقع المتخيل، وليحكي عن “ماكوندو” القرية التي اخترعها وعائلة جده “الكولونيل الذي ينتظر من يكاتبه” الذي دخل التاريخ من أوسع وأجمل أبوابه، أدب حفيده، مع أنه ناضل من أجل دخول هذا التاريخ مقاتلا في صفوف الجمهورية ثم انتظر لأكثر من نصف قرن في “انتظار من يكاتبه” لتتذكره بلاده ولو بقروش قليلة كمعاش تقاعدي جراء خدماته الوطنية. شهادات الأصدقاء بهذه المناسبات المتعددة التي تجعل من عام 2012 بحق عام جابرييل جارثيا ماركيز، تسابق أصدقاؤه من الكتاب والمبدعين إلى الاحتفال بهذه المناسبات، بعضهم متذكرا علاقته به، كما فعلت “كارمن بالسيلز” التي تحمست له ولغيره من كتاب أمريكا اللاتينية وكانت وراء انتشار جيل “البوم” او “الانفجار” الأميركي اللاتيني واحتلال كتابه واجهة الرواية العالمية، وظهرت وهي تحمل بين يديها روايته الأشهر “مائة عام من العزلة” وأكدت أنها لا تستطيع أن تتخيل حياتها بدون جابرييل جارثيا ماركيز، وأنها عاشت فقط من أجل أن تكون جزءا من عالمه الحياتي وليس الروائي، لأنها تفضل أن تظل بعيدة عن عالمه الروائي السحري الرائع. أما صديقه القديم ماريو فارجاس يوسا، أحد أركان جيل “البوم” والحائز على نوبل للآداب أيضا، ورغم أن علاقتهما فترت كثيرا بعد حصول ماركيز على نوبل قبل ثلاثين عاما، مما خلق نوعا من الحسد لدى فارجاس يوسا، فقد عاد ليتذكر أنه أول من أعد أطروحة الدكتوراه بجامعة مدريد عن ماركيز قبل أن يعرفه أحد، مؤكدا على إن لغة ماركيز تحتوي العالم ولا يحتويها، ويوحد عناصر الواقع ليبني عالما له إطاره وقوانينه الخاصة، فيبدو عالما ملونا ومفعما بالحيوية كما لو كان قطعة من فيلم سينمائي، لكنه عالم منظم وكل شيء فيه يشكل جزءا من تكوينه دون خروج على ذلك الإطار وتلك القوانين، وكلها عناصر سحرية متغيرة تتداخل مع بعضها كالمرايا المتقابلة، وتمثل طفولته وعائلته ومسقط رأسه أراكاتاكا البذرة الأساسية التي دفعت موهبته لتكون ما كانت، فكانت كلها النبع الذي نهل منه. فيما يرى الكاتب باتريثيو برون “انه كنز حقيقي أن تقرأه، لأن ما يفرق بين أدب لمبدع كبير وآخر أقل قامة أو حتى متوسط القامة هو الربط بين المبدع وإبداعه، مع إمكانية التخلي أحيانا عن النظر إلى ما يربط هذا الإبداع بحياة الكاتب الشخصية، ولكن مع كاتب كبير مثل جابرييل جارثيا ماركيز لا يمكن قراءة أعماله الروائية دون النظر إلى حياته الشخصية ومواقفه السياسية والاجتماعية، فالقارئ يطالع أعماله ويستمتع بها ولكن تلك المتعة لا تكتمل إلا بحضور حياة الكاتب ومواقفه لأنها كل متكامل، ومن هنا نجد أن قطع الطريق على الكثير من الخيال الجامح الذي ينطلق ليلتصق بالواقع ويحول هذا الواقع خيالا والخيال لا يمكن إنكار واقعه، لذلك بعد ماركيز أصبح من الصعب على أي كاتب من أميركا اللاتينية أن يخلق قرية من خياله يمكن لسكانها أن يطيروا في الهواء أو تتحول حياتهم اليومية إلى نوع من الأساطير التي تسير على قدمين كما فعل ماركيز مع قرية “ماكوندو”. وترى الكاتبة كلارا أوسون، أن ماركيز هو “ساحر العناوين”، وتقول أنها تتذكر كيف اكتشفت ماركيز: كانت أمي قد تركت كتابا مفتوحا مستندا إلى حافة أريكة الصالون، كانت رواية “الكولونيل لا يجد من يكاتبه” ولفت هذا العنوان نظري وتساءلت: لماذا لا يجد هذا الكولونيل من يرسل إليه الرسائل؟ وما هي أسباب عزلته المرعبة؟ ولذلك كان يجب عليّ أن أبحث في هذه الأمور وبسرعة لاكتشاف إجابة عن هذه الأسئلة، ومن هنا قررت اختطاف هذا الكتاب الذي كانت تقرأه أمي، ولم أعده إليها إلا بعد أن رويت عطشي منه وحصلت عليه أمي مني بعد معاناة شديدة، ثم اكتشفت بعد ذلك أن له كتبا عناوينها لافتة للنظر: “مائة عام من العزلة”، “الحب في زمن الكوليرا”، “ساعة النحس”، “وقائع موت معلن” و”الحكاية المدهشة والحزينة لايرنديرا البريئة وجدتها الشريرة” وقد كانت هذه الرواية الأخيرة على قصرها الأكثر إثارة وجاذبية لفتاة إسبانية مثلي كانت تعيش وقتها في زمن الجنرال فرانكو، واعتادت على عناوين غبية وجافة ومختصرة مثل: “الفئران” و”خلية النحل” و”الطريق” و”الخراما”، ومن هنا كانت عناوين ماركيز تعد بالدخول إلى عالم واسع الخيال ورحب يمكن فيه تنفس الهواء بحرية. وحاول الكاتب “ادواردو هالتون” أن يثبت أن “ماركيز كيميائي الحكايات، فيقول: إن جارثيا ماركيز كاتب للقصة القصية المعملية، فهو يدخل إلى كتابة القصة كمن يقوم بعمل تجارب كيميائية معملية يضع فيها أفكاره تحت مجهر خاص ويمزجها كمزج العناصر الكيميائية منتظرا الوصول إلى مزيج جديد، وباعترافه هو فإن كتابة القصة لا بد لها من “تدريب خاص” أو “تمارين كتمارين عازف البيانو”، ورغم أنه يكتب روايات رائعة إلا أنه سرعان ما يهرب من الرواية إلى القصة، وفعل هذا بعد كتابة رائعته “مائة عام من العزلة” ورغم ما قوبلت به من إعجاب نقدي وثقافي وجماهيري فقد هرب بعدها إلى عالم القصة القصيرة فجاءت مجموعته “حكاية ايرنديرا البريئة، وأطلق عليها وقتها “أنها قصص تجريبية”، ثم خرج منها مكتشفا الطريق إلى روايته “خريف البطريرك”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©