الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

القدس في متحف الذاكرة

القدس في متحف الذاكرة
5 مايو 2010 20:19
في أحد اللقاءات الثقافية، أهداني الناقد والمترجم والروائي المغربي المعروف الدكتور محمد برادة نسخة موقعة بإهداء جميل من كتاب “ذكريات من القدس”، قائلا “إنه كتاب جميل وغني بالذكريات عن القدس المُصادر”، وفعلا فقد صدق الدكتور والصديق محمد برادة وأصاب. والكتاب هو “ذكريات من القدس” الذي ألفته سيرين الحسيني شهيد، وكان هذا الكتاب الذي ظهر في طبعته الأولى الإنجليزية سنة 2000 عن دار نوفل في بيروت، ثم باللغة الفرنسية في طبعته الأولى سنة 2005 عن دار النشر العريقة “فايارد”. وبعدها صدر الكتاب باللغة العبْرية في طبعته الأولى سنة 2006 عن دار الأندلس للنشر في القدس، أما الطبعة التي بين أيدينا فقد صدرت سنة 2009 عن دار الشروق في الأردن ورام الله. وقد جاء الكتاب بغلاف سميك وفي طبعة فاخرة تعكس القيمة العالية والتاريخية للكتاب. وقد أفلح الدكتور محمد برادة في أن ينقل هذا الكتاب انطلاقا من الترجمة الفرنسية وذلك باحترافية عالية، كما استطاع النفاذ إلى لب وجوهر الأفكار واليوميات التي كتبتها المؤلفة سيرين الحسيني شهيد، وهي صفحات حاملة للكثير من الآلام والمشاعر الصادقة والشهادات التي تؤرخ لفترة من الزمن تشهد الكثير من التحولات والفواجع والصدمات والآلام التي عاشها الشعب الفلسطيني ومازال يعيشها، وتحمل صفحات الكتاب طابع الذكريات المؤلمة التي كتبت بدم القلب ودمع العين. والكتاب في مجمله كما قال محمد برادة “عبارة عن مشاهد متقاطعة، ومحكيات عن زمن ولى مع امتدادات في الحاضر والمستقبل”. ويرى الدكتور محمد برادة أن محكيات هذا الكتاب “تتضمن مادة ممتعة وعناصر للتفكير، محطات إنسانية في شكل مسرات عابرة وشقاءات أكثر ديمومة”. مواقف ووقائع إن كتاب “ذكريات من القدس” بالغ الثراء بالمواقف والأحاسيس الإنسانية المكتوبة بالكثير من الصدق والصفاء والشاعرية وتؤرخ بصور مؤلمة ومشاهد طفولية لفترة ما قبل الانتداب البريطاني والاحتلال الإنجليزي التي تجمع في مجتمع وجغرافية واحدة شرائح واسعة من المجتمع الفلسطيني خلال فترة الثلاثينيات والعشرينيات من القرن الماضي. تقول سيرين الحسيني شهيد “كتبت هذه الصفحات عن طفولتي وعن فلسطين في الثلاثينات من القرن الماضي، من أجل بناتي والأجيال الآتية التي لعلها تجهل كل شيء عنا وعن طريقة عيشنا. ويبدو لي مهما الحفاظ على ذاكرة تلك الأيام المندثرة، ذلك أن الأمل في مستقبل أفضل لا يمكنه أن يتغذى إلا بمعرفة حقيقية للماضي. ولو شيء أحرص على قوله، هو أنه لا شيء كان يميزنا عن بقية سكان هذه المعمورة، لكن مصيرنا لم يكن مثل مصيرهم”. أما المفكر الفلسطيني الشهير الراحل إدوارد سعيد، فيقول في تقديم هذا الكتاب “في بعض الأيام، يثقل الماضي كثيرا على القلب. لكنني أعاود الاستغراق فيه وأتذكر. تلك الكلمات الأخيرة، البسيطة والمؤثرة بعمق، في الكتاب الذي تستحضر فيه سيرين الحسيني ماضيها الفلسطيني والذكريات المقتطفة ـ كما يقول الشاعر ـ في هدأة إقامتها الحالية في بيروت”. كما يقول إدوارد سعيد عن مؤلفة هذا الكتاب “إنها، وهي المولودة سنة 1920 في حضن أكبر أسرة للأعيان الفلسطينيين بالقدس آنذاك، قد تمكنت بطبيعة الحال من ارتياد وسط محظوظ وموسر. وعلينا أن نوضح بأن هذا الامتياز لم يبعدها عن مشكلات شعبها الذي كان يعاني آنذاك في الوقت نفسه من دمار نظام الانتداب البريطاني (الذي انتهى العام 1948 بتحطيم المجتمع الفلسطيني)، ومن التهديد الكاسح للتوسعات الصهيونية”. ويضيف: “إن سيرين تقول لنا منذ البداية بأن ذكرياتها تتناول، أساسا، الأمكنة في القدس وما جاورها، وفي أريحا أو مواقع فلسطينية أخرى”. ويتمثل الاستحقاق الكبير لكتابها يقول إدوارد في أنه لا يتحدث فقط عن حياتها وعن أهلها، وإنما يستحضر الوسط كله الذي كانوا يعيشونه داخله، أي ذلك النسيج المشترك الذي تمزَّق بطريقة مأسوية سنة 1948. إننا نشاهد رعاة وطباخين وأساتذة وأعماما وخالات وأبناء عم وفلاحين، وإخوانا وأخوات، ورفاق مدرسة، وبستانيِّين وأناس معمرين وأصدقاء وعشاقا وأقارب، وأشياء عزيزة على النفس، وأمكنة ولحظات وفترات: المنازل، والمدارس، والقرى وفضاءات النزهة والاجتماعات الاجتماعية التي استولت عليها إسرائيل وحولتها إلى ممتلكات أجنبية أو حطَّمتها بكل بساطة. من خلال كتابة سيرين النثرية، تنبعث حياة شخصية من الماضي، بهدوء ولكن بعناد أيضا لتستولي على انتباهنا وتحثنا على التفكير”. ونلمح كذلك من حولها ووراءها تاريخا جماعيا طويلا مُدْركا بكيفية طبيعية وبدون تكلف وكأنه ثمرة بُنُوَّة وانتساب لا يستطيع أي عنف ولا أي مؤسسة أن يمْحُواه نهائيا”. ذخيرة تاريخية إن كتاب “ذكريات من القدس” يؤكد إدوارد سعيد هو “ذخيرة تاريخية وبشرية مؤلفة أساسا على شاكلة فسيفساء من شذرات ممتعة في معظمها، ومن مسرّات وشقاءات أكثر ديمومة، وكلها موضوعة بكثير من الاحترام والمحبة على أمل أن تُربِّيَ وكذلك بطبيعة الحال أن تجذب القارئ الذي لولا مثل هذه المحكيات، لما علم شيئا عن العالم الذي ضاع اليوم جانبه الأساسي. إنها شهادة حميمية ولا شك، ولكنها أيضا أدب أليف، إنساني، صادق، كريم وفصيح. واستنادا على هذا النوع من المادة الخام الحية سيتشيّد مستقبل فلسطين، لأنها مادة خام ستدوم أمدا طويلا وستخدم أهدافا اكبر من ما قصدت إليه سيرين شهيد المتواضعة دوما”. إن هذا الكتاب الذي كتب بطريقة سهلة تنفذ إلى أعماق القلب وتدميه، يحمل الكثير من الصور الفوتوغرافية التي التقطت بفنية عالية ومعبرة تؤرخ لطفولة المؤلفة ولإفراد عائلة الحسيني ولجيل شعب عانى الكثير وهو الشعب الفلسطيني، وخاصة عن والدها جمال الحسيني الذي كتبت عنه بأسلوب مأساوي مُحزن قائلة: “يحتل والدي سُويْداء قلب ذكرياتي الأولى في القدس. كان يمضي وقتا طويلا معي في البيت، إذ إن أمي مُنشغلة دوما مع الأطفال الرُّضَّع المتتالين. في الصباح، كنا كثيرا ما نتجوّل معا في الحديقة. وكان عليّ أن أجري لألحق به، لأن ساقيَّ كانتا تتْعبان لتسيرا بنفس سرعة ساقيه المفرطتي الطّول، أثناء ما كان يتمشّى داخل تلك الحديقة التي أحبها على الدوام. يتراءى لي الآن العُشب بلونه الأخضر المضيء المزركش بندى الصباح، فيما هو يذهب ويؤُوب وأنا أعدو إلى جانبه متشبثة بيده. مساء، كان يقّص عليّ حكايات ويغنّي ليُنيمني. كنت أحب الاستماع إليه وهو يستحضر الألعاب التي كان يلعبها مع إخوته وأخواته في الصّغر. كان يقول لي إن أخته الكبرى فاطمة كانت تمسك بيد من حديد عصابة إخوة ثمانية، بينما الكلّ يُدلّل أمينة، الأخت الأصغر. في مجموعة صور طفولتي، هناك ذكرى حيّة بوجه خاص، تأخذ اليوم دلالة متفردّة. ذات يوم، في أول الظهيرة، دخلت إلى غرفة والديَّ. كان عمري ثلاث أو أربع سنوات. وكان أبي جالسا على طرف السرير مرتديا قميصه وبنطلونه وهو بصدد انْتعال حذائه. أسرعت لأساعده في ربْط سُيُوره مُستعرضة بافتخار مهاراتي. أدركت أنه على أُهبة الخروج فأخذت وأنا مُنكبّة على حذائه، ارتجَّاه ألاّ يخرج معي لنلعب في البيت. “لماذا تريد الذهاب، أقول له وأنا أتباكُى، لماذا، لماذا، لماذا؟”. بدأ يمزح ويضحك معي، لكنه لما رأى أن لغطي لم يكفّ، رفعني من على الأرض ووضعني على رُكبتيْه. “اسمعي، قال وهو ينظر مباشرة في عينيّ، يجب أن أُنجز أشياء مهمة”. وسألني، عندئذ، إذا كنت أتدرك بعدُ ذلك اليوم، في أريحا، عندما شاهدنا عائلات للاجئين أرمن. وفعلا، فإن صورة ذلك المّد البشري الذي كان يمرّ من طريق القدس، وجميع الناس الذين كانوا يجتازون شوارع أريحا حاملين أمتعتَهم على ظهورهم وهم يجُرُّون أطفالهم من ورائهم، كل ذلك بقيَ جدّ حاضر في ذهني. “هل تتذكرين إنّي شرحت لك أنهم كانوا يبحثون عن ملجأ؟ ألمْ نُحس معا بالأسى من أجلهم لأنهم طُردوا من ديارهم وبلدهم؟صمتَ لحظة قبل أن يُتابع :”إنا نحن الفلسطينيين لم نعمل بكلّ قُوانا، فسيكون علينا قريبا أن نجُوب العالم بحثا عن ملجأ و..”.توقَّف فجأة. كان وجههُ متشنّجا من الانفعالات، ولمحتُ دموعا في عينيْه. ابتعدتُ عنه مُنزلقة من فوق ركبتيْه وخرجتُ جارية من الغرفة. لم أكن أُطيق أن أرى أبي وهو يبكي”.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©