الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

سقوط رأس الأفعى

سقوط رأس الأفعى
14 مارس 2013 21:41
أحمد محمد (القاهرة) - اسمها «عايدة الحرامية» منذ سنوات طويلة، ولا أحد يعرف اسمها الحقيقي، فقط اشتهرت بتلك الكنية التي صارت الاسم المتعارف عليه في المنطقة، امرأة حديدية فارعة الطول، تسير عكس الاتجاه في كل حياتها، تتشبه بالرجال، بل وتسيطر على كثير منهم وتفرض كلمتها وسطوتها، كل من في المنطقة يحسبون لها ألف حساب، فهي لا تعرف الخوف، قلبها ميت ودمها مخلوط بالشر، نظرة عين منها تجعل الشباب الأشداء يرتجفون، لا تتورع عن ارتكاب أي فعل، لا تعرف الخجل وتتحدث دائماً بصوت جهوري أصبح معروفاً ومشهوراً. كثيرون حاولوا الاجتهاد لمعرفة أسرار المرأة التي جاءت إلى هنا منذ حوالي عشرين عاماً كانت المنطقة جديدة، وقد اكتظت نسبياً بالسكان وكلهم ليسوا من هنا، بل جاؤوا للإقامة بعد أن اشتروا قطعاً صغيرة من الأراضي وبنوا عليها بيوتاً خاصة، يقيمون بأسرهم فيها وقليلاً ما تجد مسكناً أو شقة للإيجار إلا في السنوات الأخيرة، وعايدة جاءت مثلهم، لكن بيتها متميز بطلائه وألوانه الفاقعة التي تنم عن ذوق متدن، لكن في الوقت نفسه يبدو أن صاحبته أنفقت عليه الكثير، والغريب أن أهل المنطقة عرفوا أنها هي صاحبة البيت رغم أن زوجها جاء معها ومعهما ابنهما الصغير، لكن كل شيء ينسب إليها هي، فهو يعيش على الهامش ويدور في فلكها ويأتمر بأوامرها. وتلك الكنية الغريبة تسرب بعض أسرارها للجيران، وتردد أنها تمارس نشاطاً إجرامياً في السرقة، وسبق اتهامها في قضايا عدة، ومن جبروت المرأة كانت هي التي تتزعم عصابة من الرجال، مجموعة من اللصوص، يطلق عليهم «الهجامة»؛ لأنهم يهجمون على البيوت والمزارع والسيارات في الطرق السريعة، ويسرقون كل ما تقع عليه أيديهم، ومن هنا جاء لقبها «الحرامية» أما العجيب، فإن عايدة نفسها لا تخجل ولا تغضب من هذا اللقب وربما تفتخر به وتتباهى أحياناً، لتبث الرعب في نفوس الجيران وقد تحقق لها ما أرادت، الجميع يخشون أذاها ويتجنبونها بقدر استطاعتهم، فهي تفتعل الشجار وتعشقه ولا تعرف السكينة والاستقرار كأنها تتغذى على الشر والفتن، حتى إذا تحاشاها الناس حاولت هي الاحتكاك بهم واختلاق أسباب المشاكل. الجميع يتحدثون أن المال الذي بنت به هذه الدار حرام من السرقة والسطو، وكذلك هي لا تنكر هذا الكلام إذا تناهى إلى سمعها، ولماذا تنكره وهي ما زالت تمارس نشاطها الإجرامي كما هي، ولديها عصابات تتزعمها كل واحدة متخصصة في نوع من الجرائم؟.. فهي تحترم «التخصص» وتحرص على عدم التداخل والخلط في الأمور، وتتحلى عايدة بكمية من المجوهرات تكاد لا تستطيع أن تحملها فذراعاها محاطان بالأساور الذهبية، وفي أذنيها قرط كبير يبدو في حجم حدوة الفرس، ويلفت الانتباه وهو يتدلى يكاد يسقط بأذنها من ثقله، وتتعمد أن تحرك يديها لتبدو زينتها وتظهر مجوهراتها للعيون حتى لمن يعرفون. «عايدة الحرامية» تسيطر على المنطقة وتعتبر نفسها «عمدتها» بما تملك من سطوة ومال ورجال تأمرهم فيطيعون، ولا يناقشون، وهي تلقي بهم إلى التهلكة وهم يعلمون، فهم لا يعرفون لهم عملاً إلا معها، ويتكسبون من ورائها، وكثير منهم تعلموا الإجرام على يديها فهي «مدرسة» في عالم الانحراف، ولا يمكنهم الخروج عن طوعها وإلا كان التنكيل وربما القتل جزاءهم، وتجد عايدة على الشر أعواناً أيضاً، فهناك من يستعينون بها في مهام لا يمكنهم القيام بها، مثل تأديب الخصوم أو الاستيلاء على قطعة أرض أو المعاونة في مشاجرة، تذهب برجالها، وخلال دقائق تنهي المعركة لصالح من استأجروها وتحصل على الأجر في الحال عدة آلاف عداً ونقداً ومعها الشكر والامتنان. قررت عايدة أن تجد نشاطاً لتغسل أموالها وتمارس عملاً تتخفى وراءه، فاستطاعت أن تبني مخبزاً وتتولى توزيع الخبز في المنطقة، تجلس أمامه، وهي تدخن الشيشة، وتصدر الأوامر للعمال، وهاتفها المحمول لا يتوقف عن الرنين، وكلها أعمال لا تخلو من الشر، وهناك من يعاونها في الرد على الاتصالات الكثيرة، وأحياناً تعلن غضبها ومللها فتلقى بالهاتف جانباً، وهي تسب كل المتصلين وربما كل الناس حتى من لا ذنب لهم ممن يقفون حولها قي انتظار شراء الخبز ولا أحد يرد تجنباً لأذاها وشرورها المستطيرة. ابنها الصغير كبر وصار شاباً، وابنتها لا تختلف عنها كثيراً وقد أصبحا يشبهانها تماماً، فهذه الفتاة المسترجلة تستقوي بنفوذ أمها، لا تمشط شعرها، وتترك له العنان فيصير مثل الكنيش، بينما هو منكوش بسبب إهمالها، وأطلقوا عليها لقب «كنيش»، وصار هذا اسمها الذي تعرف به، فعرفت بأنها كنيش ابنة عايدة الحرامية، ولا ينسبونها لأبيها؛ لأن أمها هي الأكثر شهرة وصاحبة الرأي والمشورة والقول الفصل، وحال الابن لا يختلف أيضاً، فهو الآخر يطلقون عليه لقب «كعبورة»، ويبدو أن عايدة كانت تقصد من وراء هذه الألقاب أن تكون امبراطورية إجرامية، وتستغل تلك الكنى مثل الجاهلية، وهي تعلم أثرها في النفوس. خرج كعبورة على رأس مجموعة من أمثاله لتنفيذ عملية سطو على السيارات في أحد الطرق، هم لا يقصدون أحداً بعينه، ولكن يختارون عشوائياً، وهذه المرة وقع اختيارهم على إحدى السيارات الفاخرة، استوقفوا سائقها، وكان يبدو انهم عصابة تنتوي شراً، ولسوء حظهم كان من بداخلها من التجار الذين يحملون أسلحة فبادروا بإطلاق الرصاص، وسقط «كعبورة» قتيلاً، وعندما جاؤوا بجثته لأمه لم يتحرك لها ساكن، ولم يتأثر قلبها بفقد فلذة كبدها الوحيد، كل ما يشغل بالها أنها تريد أن تثأر له وتنتقم، لكنها لا تستطيع أن تصل إلى قاتليه، فهم يقيمون في منطقة بعيدة وأكثر منها قوة ومالاً ورجالاً، وهذا فقط ما يحزنها ولم تفقد الأمل في إيجاد وسيلة ما لتشفي غليلها، إلا أنها لم تجد ضالتها حتى في استئجار سفاح ينفذ لها ما تريد وكما تفعل هي مع الآخرين، واعتقد القوم أن هذا الحدث سيجعل المرأة الطاغية تثوب إلى رشدها وتهتدي، لكنه ما زادها إلا طغياناً وعناداً وأخذتها العزة بالإثم. فجأة أعلنت «عايدة» تخفيض كمية الدقيق التي يتم خبزها، وكذلك رفع سعر رغيف الخبز، لم يستطع أحد أن يراجعها وانصاع الجميع لقراراتها، وليس لهم سبيل في الشراء من مكان آخر، فهي تحتكر الخبز هنا، لكن «عرفة» الشاب الملتزم الذي جاء إلى هنا قبل ثلاث سنوات ومعروف عنه التقوى والورع ومساعدة الناس هو الوحيد الذي رفض وقال لا، وأصر على أن يقف الناس في وجه الجبروت ويحصلون على حقوقهم، وتوجه إليها وحدثها بالحسنى، لكنها حولت مجرى الحوار إلى شجار وتدخل الحضور وتمكنوا من فك الاشتباك، وعاد إليها عرفة في اليوم التالي ونصحها أيضاً وطلب منها الالتزام بالسعر الرسمي، وبنظرة واحدة من عينيها للصبية الذين يعملون معها كانت المعركة وأمسكوا بالشاب وحاولوا الفتك به لولا أن تجمع كل شباب ورجال ونساء المنطقة وتدخلوا وأوسعوهم ضرباً واستجمعوا شجاعتهم للمرة الأولى في حياتهم بعد أن فاض بهم الكيل. اشتعلت النار في صدر عايدة بعد أن تجرأوا عليها وعلى غلمانها السفهاء، وقررت أن تنتقم لتستعيد هيبتها التي اهتزت بشدة ولا يعيدها إلا الدم، وعقدت العزم واستدعت ستة من الصبية العاملين معها، وأمرتهم بالتربص للشاب وقتله والتمثيل بجثته ليكون عبرة لمن يعتبر، وبالفعل تربصوا له أثناء توجهه إلى صلاة الظهر، ومزقوه بالسكاكين جهاراً نهاراً، على مقربة من باب المسجد ولم يراعوا حرمة للمكان ولا للدماء، سقط الرجل جثة هامدة، وسال الدم على الأرض، وتعالت الصرخات هنا وهناك، بينما عايدة تطلق زغرودة وتعلن الانتصار في معركة الانتقام والثأر للكرامة وتهدد وتتوعد أن كل من يتجرأ ولو بنظرة عين إليها، فإن هذا سيكون مصيره. أعلن شباب المنطقة غضبهم ورفضهم لما حدث، وشعرت عايدة بأنها في خطر فاختفت هي ورجالها، وصب الغاضبون جام غضبهم على ما تبقى لها من أثر فأحرقوا المخبز وأشعلوا النار في بيتها الذي لم يعد يصلح على الإطلاق، والقي القبض على عايدة والمتهمين معها، وحاولت أن تنفي علاقتها بالجريمة وتتنصل منها، ولم يعترف أي منهم بها، لكن تقدم عدد كبير من شهود العيان الذين شاهدوا الحادث البشع وأدلوا بأقوالهم في التحقيقات، وعلمت عايدة وهي في محبسها بذلك واستطاع صبيتها أن يهربوا لها هاتفاً محمولاً، فاتصلت بالشهود تهددهم وتتوعدهم إذا أصروا على أقوالهم وشهدوا ضدها، بعضهم بالفعل تراجع، لكن الغالبية منهم مضت في سبيل قول الحق مهما كلفهم الأمر ولو حياتهم، فيكفي ما لقيه الجميع بسبب الصمت والخوف والجبن، فكل هذا هو الذي صنع منها أسطورة في عالم الإجرام ولم تجد من يردعها أو يقف أمامها لينطق بكلمة واحدة. فتحت النيابة الكثير من الملفات المغلقة والقديمة وتبين أن عايدة هاربة من العديد من الأحكام والقضايا ومطلوبة في الكثير من الجرائم المتنوعة، لكنها ما زالت واهمة وتأمل في البراءة، بينما الإعدام قادم إليها حسب الاتهامات الموجهة إليها، وأوكلت إلى ابنتها «كنيش» إدارة شؤون العصابات.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©