الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أين الخطأ؟

أين الخطأ؟
10 أغسطس 2009 00:58
عدت تلك الليلة متأخراً أكثر من المعتاد، فاستقبلتني زوجتي بوجه متجهم، وعندما حاولت استرضاءها انفجرت بوجهي: ما عدت أطيق الحياة معك.. طلقني.. طلقني، ثم أخذت تبكي وتنتحب كأنها فقدت عزيزاً. تلك الكلمة البغيضة، صارت ترددها بكثرة في الفترة الأخيرة، كأنها كلمة عادية، كلما حدثت مشكلة بيني وبينها صرخت بدون تردد: طلقني.. طلقني، أصبحت تلك الكلمة مثل العلكة تدور في حلقها ثم تطلقها أمامي في كل حين، حتى صغاري تعودوا على سماعها، وكأنها كلمة عادية، يمكن أن تقال يومياً مثل كلمة السلام عليكم أو كيف حالكم، حتى أن ابننا الكبير – وهو في الخامسة من عمره – طلب مني أن اشتري له دراجة، وقلت له: ليس الآن، غضب مني وصرخ بوجهي قائلاً: طلقني.. أنا لا أحبك، فهو يعتقد بأن هذه الكلمة يمكن أن تقال في كل حالات الغضب. لا أكذب إن قلت بأنني أصبت بنوع من التحسس ضد هذه الكلمة – فعندما أسمعها، تزداد نبضات قلبي، ويغلي الدم في عروقي، ويتولد لدي شعور هائل بالغضب، وتكون لدي رغبة قوية في تحطيم كل شيء، ولكني استعيذ بالله من الشيطان الرجيم، وأمسك نفسي في اللحظات الأخيرة قبل الانفجار. فكرت بيني وبين نفسي بأن أفعل شيئاً لأضع حداً لزوجتي، وألقنها درساً كي تنسى هذه الكلمة طوال حياتها، فلا تعود لذكرها بعد أن تدفع الثمن غالياً. تلك الليلة عدت فيها متأخراً فقابلتني بوجه متجهم، ثم أطلقت كلمتها المعتادة: طلقني، عندها قررت أن أضع حداً لهذا الوضع السيء، فلم أشعر بنفسي إلا وأنا أردد أمامها بصوت مرتفع، هو أعلى من صوتها: أنت طالق.. هل ارتحت الآن؟ هل هذا ما تسعين إليه؟ أذهبي إلى الجحيم، فلم أعد أطيقك أنا أيضاً، وتمتعي بطلاقك الذي صرت تطالبين به يومياً، كأنه جزء من طعامك وشرابك وتنفسك، هل ارتحت الآن؟ هل هذا ما يسعدك؟ عكس ما كنت متصور، فقد جلست في مكانها مذهولة، بدلاً من أن تبدي أية انفعالات، تفرح مثلاً لأنها حققت ما تريد أو تعود لصراخها وعويلها بعد تلك الصدمة، ولكنها لم تفعل شيئاً، ظلت في مكانها جامدة وكأنها تخشبت من الصدمة، ولكني أخرجت ما بداخلي وقلت لها: ماذا تريدين بالضبط!! لديك كل ما تتمناه المرأة.. منزل مريح.. سيارة.. خادمة.. أطفال يملأون حياتك بهجة؟ وظيفة سهلة ومريحة في التدريس!! راتبك في جيبك لا أحد يسألك عنه!! فماذا تريدين أكثر من ذلك؟ نظرت إلي بعينين تملؤهما الدموع وقالت: لا شيء.. أشكرك على أية حال. حملت ثيابها وانصرفت إلى منزل أهلها، وقد منعتها من أن تأخذ الصغار معها، قلت لها: أطفالي سأعتني بهم بنفسي، أنت لا تريدين حياتنا، فاذهبي لوحدك. جرجرت حقيبتها وخرجت، وقد كان الوقت قريباً من الفجر، فلم أطلب منها البقاء حتى الصباح، فلتذهب إلى غير رجعة، أليس هذا ما كانت تطلبه طوال الوقت؟ الأمر الواقع كانت لدي قناعة أكيدة بأن الأمور لن تتغير كثيراً بعد غيابها، فالخادمة هي التي تعتني بأمور البيت والأطفال، وكل ما هو مطلوب مني، نوع من الإشراف البسيط وستصير أمورنا بأحسن حال، هذا ما تصورته، ولكن الواقع كان على عكس ما تصورت. في ذلك اليوم ذهبت إلى عملي متأخراً، وقد ظل بالي مشغولا بالصغار، قلق غريب لأول مرة أعيشه، صرت أتصل بالبيت كل ساعة تقريباً لأتابع مع الخادمة وضع الأطفال، ثم بدأت باستعجال انتهاء الدوام كي أعود إلى البيت بسرعة ولا أترك أولادي لوحدهم مع الخادمة، فما يدريني ماذا ستفعل بهم، بعدما علمت بعدم وجود أمهم؟ اضطررت لتغيير برنامجي اليومي لسد الفراغ الذي تركته، فبقيت في المنزل مساءً حتى ناموا، وبعد أن تأكدت من نومهم، خرجت لأرفه عن نفسي قليلاً، ولكني كنت أفكر بهم طوال الوقت ولم أشعر بالراحة إلا بعد أن عدت بسرعة إلى البيت، كي أطمئن عليهم، فما يدريني، فلربما استيقظ أحدهم، بالتأكيد سيفزع إن لم يجد أحداً في البيت. حتى الخادمة التي كنت اعتقد بأنها المدبرة الوحيدة لشؤون البيت، فوجئت بأنها لا تقوم بواجبها بشكل صحيح دون إرشادات ومتابعة، فالبيت لم يعد نظيفاً مرتباً كما كان، والطعام ليست به نكهة، والأمور كلها في حالة فوضى، الأولاد يتضاربون ويتصايحون باستمرار وأصغرهم في حالة مرض مستمر، فلا يكاد الدواء ينتهي حتى تعود حالته للأسوأ، فأبقى معه ساهراً طوال الليل، ثم استأذن من عملي كي أخذه إلى الطبيب مرة أخرى ليغير له الدواء. حتى ثيابي كلها صارت غير مكوية وغير مرتبة، أشيائي مبعثرة لا أجدها إلا بصعوبة، تساءلت بيني وبين نفسي: ترى ما هو السر في كل هذه الفوضى؟ هل في الأمر خطأ؟ هل فيما فعلته ظلم؟ هل كنت أرى الأمور من وجهة نظر خاطئة؟ مضى شهر على هذا الحال، وأنا والأولاد والبيت في أسوأ وضع، حتى عملي لم أعد أكترث له، أذهب متأخراً، أخرج أثناء ساعات الدوام، لا أستطيع التركيز، الكل بدأ يشتكي مني. المشهد البائس عدت يوماً إلى البيت، كان كل شيء هادئاً على غير العادة، خشيت أن يكون قد حدث لهم مكروه، ولكني وجدتهم في الصالة يشاهدون التلفاز، سلمت عليهم، فلم يكترثوا لي، جلست في مكاني المعهود، وصرت أنظر إليهم وكأنني أراهم لأول مرة، الشحوب يبدو واضحاً على وجوههم، وكأنهم قد عافوا الطعام منذ ذهاب أمهم، حاولت أن أتحدث معهم فبكت ابنتي وانتحبت حتى تقطع قلبي عليها، أما ابني الأكبر، هذا الشقي الذي لا يهدأ، فكان صامتاً، حزيناً وكأنه يحمل هموم الدنيا على كتفيه الصغيرين، حتى الصغير الذي لم يبلغ سوى سنتين، فهو ينظر إلي نظرات شاحبة مخيفة، فيها الكثير من المعاني، لماذا يفعلون كل ذلك؟ هل يتآمرون علي كي أعيد أمهم؟ ألست والدهم؟ ألا يحبونني كما يحبونها؟ حاولت أن أبعد عن رأسي تلك الأفكار، الأفضل أن أدخل شيئاً من البهجة على برنامجنا اليومي، تذكرت بأنهم لم يخرجوا من البيت منذ مدة طويلة، أمهم كانت تأخذهم إلى أماكن الألعاب والتسلية في المولات، فيتناولون تلك الأطعمة التي يحبونها. سأعيد السعادة إلى نفوسهم من جديد، قلت لهم: هيا استعدوا للتنزه، سنذهب إلى المطعم ومكان الألعاب. لم تظهر السعادة على وجوههم كما توقعت، وإنما حاولوا استرضائي ومجاملتي، فغيروا ثيابهم وعادوا، لماذا أجدهم غير مرتبين كما كانوا؟ هذا الولد يبدو شعره منكوشاً كأنه عش للغربان، وهذه البنت تبدو وكأنها ابنة الخادمة السيلانية، أين ذهبت أناقتهم؟ حتى الصغير يبدو وكأنه قد جاء من بلاد المجاعة، هزيلاً ونحيفاً لطول مرضه، وملابسه غير متناسقة، لم أشاهده يلبسها من قبل. عموماً.. كي لا أخرب عليهم، لم أقل لهم شيئاً، أخذتهم وخرجنا، لعبوا قليلاً في الألعاب ولكن بلا مرح، وعندما جلسنا لتناول الطعام، أخذ الولد يتلفت هنا وهناك، وهو ينظر إلى الناس من حولنا ولا يأكل، سألته: لم لا تأكل؟ قال: كل الناس عندهم أمهات.. إلا نحن. جلسة مع الذات تلك الليلة جلست مع نفسي بعد أن نام الصغار، فكرت في كل ما حدث، ولأول مرة أسأل نفسي؟ لماذا كانت زوجتي تطلب الطلاق باستمرار؟ هل كانت تعيسة معي؟ هل كانت تعاني من مشكلة معينة؟ لأول مرة بعد كل تلك السنين من العشرة بيننا، تذكرت بأنني لم أسألها يوماً عن السبب الذي يجعلها غاضبة وتعيسة وتطالب بالطلاق، أمرها عجيب فهي مخلصة في كل شيء، تقوم بأعباء كثيرة في توفير أجواء من الراحة والنظافة في البيت، كانت تشتري كل ما نحتاجه، وقد أراحتني من عناء التسوق وتوفير احتياجات الأولاد، وهي أيضاً كانت تهتم بتعليمهم ومتابعة صحتهم، مع إنها تعمل مثلي تماماً، إلا إنها استطاعت أن تجمع بين عملها واهتمامها بأسرتها، ولا استطيع أن أنكر بأن العمل بالتدريس هو من أشق الأعمال الوظيفية والتي تستنزف الجهد والمخ والأعصاب، وقد حصلت على شهادات تقدير عديدة في عملها، كشخصية مثالية محبوبة فرضت حبها واحترامها على كل من عرفها، حتى هذه النقطة لم أجد في شخصيتها عيباً واحداً يجعلها تطلب الطلاق بكل هذا الإصرار، فأنا هادئ الطبع، تركت لها مسؤولية البيت كاملة تتصرف بها كيف تشاء، وتديره حسبما تحب، ولم أقصر معها مادياً أيضاً، فلماذا كانت تطلب الطلاق؟ كنت أعود من عملي فأتناول طعامي وأذهب للنوم، وعندما استيقظ مساءً أذهب إلى المقهى وأبقى فيه حتى ساعة متأخرة من الليل، وعندما أعود أجدها مرهقة، متذمرة، لا تريدني أن أقترب منها، وعندما أطالبها بحقوقي عليها وأذكرها بتقصيرها معي، فهي تصرخ بوجهي قائلة: طلقني، فأحقد عليها، وأصبح عنادياً أحاول إغاضتها بأي شكل، فأعيب على طعامها ولبسها، وعلى كل شيء تفعله، فيزداد غضبها وتطلب الطلاق مع كل خلاف. انقضى وقت طويل من الليل وأنا جالس في حالة التفكير، نظرت إلى الساعة فوجدت بأن الوقت قد تأخر جداً، ولم يبق إلا ساعتان على موعد ذهابي للعمل، ما أن وضعت جسدي على الفراش، حتى جاءني الصغير وهو يبكي، حرارته مرتفعة، تركت فراشي وحملته إلى المستشفى وأنا في حالة إرهاق شديد، تذكرت زوجتي، عندما تكون متعبة ومرهقة آخر النهار، بعد عمل يوم شاق، وهي تحاول الذهاب إلى فراشها، فيحين موعد عودتي، وأنا أطالبها بأن تستقبلني وهي متبرجة ومتجملة وسعيدة بي، تجالسني وتتحدث معي، عرفت بالضبط ما هو شعورها في تلك اللحظة. المواجهة اتصلت صباحاً واعتذرت من الذهاب لعملي، وقد وعدتهم بأنني سأحل مشاكلي وسأعود كما كنت سابقاً. ذهبت إلى منزل أهل زوجتي، قابلتني أمها معاتبة وهي تردد كلمات كثيرة لم أركز عليها، لأن فكري كان مشغولاً بشيء واحد فقط، كنت أريد أن أسأل زوجتي عن السبب الحقيقي لطلبها الطلاق. كانت شاحبة مصفرة وكأنها تعاني من مرض شديد، قالت: لقد تأخرت كثيراً، كان عليك أن تسأل هذا السؤال منذ زمن بعيد، لقد اكتفيت بأن تضع أجوبة تقنع بها نفسك، ولم تتكلف مشقة سؤالي عن السبب الذي يجعلني أطلب الطلاق، السبب يا عزيزي هو أنانيتك!! فأنت لا تريد أن تشعر بمعاناة غيرك، ولا تحترم مشاعر الإنسانة التي تشاركك الحياة، أنت تدير ظهرك لأسرتك، ولا تريد أن تكون جزءاً منها، تعود من عملك فتأكل وتنتقد كل شيء من حولك، ثم تذهب للنوم وتنهض مساءً فتغير ملابسك وتخرج، ولا تعود إلا متأخراً، فما هو دورك في حياة أسرتك؟ وأين حقوق عائلتك؟ أصبح وجودك بيننا رمزياً ليس له تأثير، وقد كنت أخشى أن يتعود الأطفال على عدم وجودك في حياتهم، فيفتقدون القدوة الحسنة وعدم الشعور بالتكامل والأمان، فهم يحتاجون إلى رعايتك وتوجيهاتك، وليتأثروا بشخصيتك وسلوكك وتعليماتك، خصوصاً الأولاد، فهم بحاجة لأب يكون قدوتهم في تصرفاته وأسلوب حديثه. وأنا.. أنا أيضاً بحاجة لصديق حميم أتحدث معه، أشاركه ويشاركني الهموم والأفراح، نراقب معاً زهورنا، فلذات أكبادنا وهي تنمو أمام أعيننا في أسرة متكاملة فيها أب وأم، كم كرهت عودتك متأخراً في الليل، وأنت تطالبني بأن أقوم بدور الزوجة المتلهفة على زوجها، وفي الحقيقة فأنا أكون مرهقة بسبب المسؤولية التي أتحملها لوحدي، وغالباًً ما تكون مشاعري نحوك متبلدة، فكيف تطلب مني أن أملك نحوك مشاعر الحب، وأنا لا أراك طوال اليوم، حتى إني أحياناً أنسى بأنك موجود، وينتابني الشعور بالقهر لاضطراري مجاملتك آخر الليل وأنا في قمة الجهد والتعب، فالمرأة تريد زوجاً يحبها، ويعبر عن ذلك الحب بكلمات التشجيع والثناء على أشيائها البسيطة، لا أن يحبطها وينتقدها لأتفه الأسباب، فكيف تطالبني بأن اقدم لك شيئاً لا أملكه، ففي الحقيقة أنا لا أجد بداخلي نحوك أي شعور بالحب، خصوصاً عند عودتك متأخراً، وكأنك إنسان غريب لا أرتبط معه بأية مشاعر. سمعتها وكأنني أعرفها لأول مرة، شعرت بمدى الفراغ العاطفي الذي سببته لها ببعدي المتعمد عنها وعن بيتي، فهي لم تطلب سوى شيء من الحب يمنحه لها وجودي معها في أسرتنا الصغيرة، إنها محقة، فلا أسرة حقيقية إلا بوجود أب وأم يعملان معاً لبنائها، ولا حب بين رجل وامرأة لا يعيشان سوياً لساعات من اليوم. اعتذرت لها ووعدتها بأن أتغير من أجلها ومن أجل أطفالنا، وطلبت منها أن تتعهد لي بعدم ذكر الطلاق مرة أخرى، فقالت: لقد أدبتني، فقد كنت مخطئة فعلاً بترديد هذه الكلمة التي يبغضها ربنا عز وجل، وقد كانت تجربتي قاسية ومرة وأنا بعيدة عن أولادي، فكرهت تلك الكلمة، وأقسمت أمام ربي إن عدت لأسرتي فلن أنطق تلك الكلمة بلساني مرة أخرى أبداً. الزوجة والصديق والحمار أحمد محمد القاهرة - قبيل أذان الفجر.. انطلقت صرخات «هويدا» متلاحقة متسارعة بصوت عالٍ شق سكون الليل.. مما ينم عن أمر جلل.. في الوقت الذي كان فيه الكل نائماً إلا الذين استيقظوا استعداداً للصلاة.. وكادت قلوب الجميع تتحرك من أماكنها من المفاجأة وهم لا يدرون ماذا حدث ولا يستطيعون التكهن بشيء فهرعوا إلى مصدر الصراخ وفي دقائق معدودة كان معظم أبناء القرية في الشوارع المؤدية إلى منزل «هويدا» وكل منهم يسأل الآخر عن الأمر لكنه لا يجد جواباً.. وتختلط التساؤلات بدقات القلوب المتتالية التي تسابق خطوات الأرجل لمعرفة ما حدث.. وحتى عندما وصلوا لم يستطيعوا في اللحظة الأولى معرفة شيء لأن «هويدا» تواصل صرخاتها وهي تحاول أن تمزق ملابسها وتردد كلمات متداخلة غير مفهومة.. وجاءت الإجابة عندما ألقوا نظرة إلى داخل المنزل الريفي الذي تقيم فيه فوقعت عيونهم على مشهد لم يألفوه ولم يروا مثله.. حاولوا التدقيق مع الضوء الخافت للتأكد من أن عيونهم ترى جثة زوج «هويدا» في بركة من الدماء تبث الرعب في النفوس.. مما يدل أن الجريمة وقعت لتوها.. ويبدو من المشهد أن الحادث لم يكن عارضاً. بل وقع بقصد الانتقام.. فالقتيل مخنوق بقطعة من القماش.. ورأسه مهشم.. ولم يقترب إلا قليلون.. لكن الأكثرية خشيت رؤية مشهد الدم بعدما علم الجميع بمقتل «المغربي» وعرفت القرية كلها الخبر خلال دقائق معدودة وأصبح السؤال الوحيد الذي تردده جميع الألسنة.. من الذي قتله ولماذا؟ وتضيع الإجابة لأن الرجل فقير ولا توجد بينه وبين أحد خصومة.. يقضي نهاره في العمل في جمع الخردة من هنا وهناك.. مستخدماً العربة الكارو التي يجرها الحمار وهما كل رأس ماله في الحياة.. ومصدر رزقه ورزق أبنائه الثلاثة وزوجته.. حتى أن أهل القرية من اللحظة الأولى استبعدوا أن يكون الحادث بقصد السرقة لأن الرجل لا يملك من حطام الدنيا ما يصل إلى حد الطمع في سرقته. ومن الذين جاؤوا من أهل القرية كان «جمال» جاره الذي تربطه به علاقة صداقة توطدت منذ أكثر من ثلاث سنوات وكان أكثر من سفح الدموع عليه وهو يسترجع علاقتهما وارتمى على الأرض يتمرغ في التراب حزناً وألماً على صديقه الذي فقده في لحظة وهو يتساءل: لماذا قتلوك يا «مغربي»؟ وراح يدعو الله أن ينتقم منهم بالقصاص العادل فهم يستحقون الإعدام ألف مرة على جرمهم.. فالرجل لم تقدم يداه ما يستحق القتل.. واختلط صراخ الرجال والنساء على القتيل.. وتعالت أصوات بكاء الصغار خوفاً من هذا المشهد المرعب.. بينما هناك من راح يردد: لا حول ولا قوة إلا بالله. وصل رجال الشرطة بعد إبلاغهم بجريمة القتل وبدأوا جمع المعلومات لمعرفة كافة التفاصيل عن القتيل ثم تأتي الخطوة التالية وهي حل لغز الجريمة والتوصل إلى القاتل.. لكن الجريمة لم تكن لغزاً ولا طلسماً.. وإنما هي واضحة وضوح الشمس في كبد السماء ولم يكن فيها ما يمثل مشقة على رجال المباحث في التوصل إلى الجناة إذ انتحوا بالزوجة المكلومة جانباً وفتحوا محضراً لتسجيل أقوالها لأنها أقرب الناس إليه وتعيش معه في بيته وهي التي شهدت الجريمة.. جلست وهي ترتعد وتغالبها دموعها التي لم تستطع السيطرة عليها وراحت تجيب عن الأسئلة. قالت: قبل خمسة عشر عاماً كنت في ريعان الشباب فتاة ريفية لم تنل حظاً من التعليم لكن ذلك لم يكن شرطاً لأن يدق قلبي بالحب والعشق فأنا فتاة لها مشاعرها وأحاسيسها الفطرية.. والغرام لا يحتاج إلى شهادة من الجامعة ولا حفنة من الأموال.. وكان المحبوب هو «المغربي».. شاب بسيط يكبرني بخمس سنوات تقريبا يعمل في جمع الخردة وبقايا الأجهزة الكهربائية المعطلة والأواني المعدنية القديمة وغيرها ويجوب الشوارع كل يوم وهو ينادي بصوته الذي أصبح معروفاً للجميع وتعلق به قلبي.. وبادلني الحب.. ولم نستطع السيطرة على هذه المشاعر.. فقد كانت عيوننا تفضحنا كلما التقينا فأصبح سرنا علانية وعرف بحبنا جميع أهل القرية. لذلك سارع «المغربي» بالتقدم لخطبتي حتي لا يتحول الأمر إلى قصة سيئة تلوكها الألسنة.. وتم زواجنا وانتقلنا للإقامة في شقة صغيرة في الطابق الأول لا يعلوها بناء آخر. انجبنا فيها أبناءنا الثلاثة.. وعلى الرغم من أننا نعيش على الكفاف لكننا راضون بما قسم الله لنا ويكفي أنه لا يوجد ما ينغص حياتنا. أما الإجابة عن السؤال الأهم.. كيف وقع الحادث؟.. ومن الذي قتل «المغربي»؟.. فجعلتها تعود إلى صراخها وكلماتها غير المفهومة وهدأوا من روعها وأجابت: قبل يومين باع زوجي الحمار الذي يستخدمه في جر عربته الكارو لثلاثة أشخاص من التجار في القرية وتبقى له 250 جنيهاً.. وعندما توجه اليهم يطالبهم بالمبلغ ماطلوه فنشبت بينه وبينهم مشاجرة كبيرة وتوعدوه بأنهم سيعاقبونه ويؤدبونه على ذلك على الرغم من أنه أخبرهم بأنه يريد المبلغ ليشتري حماراً آخر .. وفي ليلة الحادث تناولت أنا وزوجي وأبناؤنا طعام العشاء ورحنا في نوم عميق.. وقبل أذان الفجر فوجئت بالتجار يكسرون الباب ويقتحمون الدار وينهالون على رأس زوجي بقطعة من الحديد حتى أردوه قتيلاً وخنقوه ليتأكدوا من موته وفروا هاربين. وكان من الطبيعي أن يقوم رجال المباحث بالقبض على التجار الثلاثة الذين اتهمتهم «هويدا» بقتل زوجها بسبب الحمار.. لكن كانت المفاجأة أنهم لا علاقة لهم من قريب أو بعيد بهذه الجريمة ولم يكن بينهم وبين «المغربي» أي خلاف وأنه حصل منهم على حقه في ثمن الحمار منذ أول لحظة اشتروه منه فيها.. بل تربطه بهم علاقة صداقة ولم تحدث أي مشاجرة معه كما ادعت زوجته.. وفي اللحظة نفسها كشفت معاينة باب الشقة انه لا يوجد فيه أي كسر كما ادعت.. ما يدل على أنها أدلت بمعلومات كاذبة لتضليل الشرطة.. وبدأ جمع المعلومات عنها وعن علاقتها بزوجها.. وجاءت صادمة مفاجئة بأنه على الرغم من قصة الحب التي جمعتهما وثلاثة أبناء بينهما وخمسة عشر عاماً من العشرة وصلت الخلافات بينهما إلى حد الطلاق لأن الزوجة الريفية الحسناء تمردت على هذه الحياة البسيطة وتختلق معه المشاكل لأنها ساخطة على الفقر الذي تعيش فيه مع زوجها الذي أحبته.. بل الأهم من ذلك انه بدأ يشك في سلوكها خاصة عندما شاهد صديقه وجاره «جمال» في بيته أثناء غيبته أكثر من مرة.. وزادت الخلافات عندما وبخ زوجته على ذلك وأصبح يغلق عليها بالقفل حتى لا تخرج ولا تسمح لأحد بالدخول. وتمت مواجهة الزوجة بهذه المعلومات كلها.. فلم تصدق أنهم توصلوا إليها وكشفوا كذبها.. فانهارت واعترفت بأنها خططت لقتله مع صديقه «جمال» الذي حل محله في قلبها وأصبح هو المحبوب.. يلتقيان في لحظات شيطانية ويمارسان الحرام.. وسقط «جمال» معها في بحر الرذيلة على الرغم من أنه متزوج من امرأتين وله سبعة أولاد.. لكن الشيطانة كانت تعرف كيف تتمكن من إغرائه.. واتفقت معه على التخلص من الزوج الذي يمثل عقبة لهما ولابد من إزاحته من طريقهما ليخلو لهما الجو مع مزيد من المتعة المحرمة. ووضعت بنفسها مخطط الجريمة.. إذ افتعلت مع زوجها مشكلة حتى لا ينام في الغرفة المطلة على الشارع ويرتمي في صالة الشقة.. ليتمكن العاشق من الدخول من نافذة الغرفة بالطابق الأرضي فهي لا ترتفع كثيراً وقبل الفجر.. كانا على موعد مع لحظات أخرى محرمة بينما الزوج يغط في نوم عميق بجوار أبنائه الثلاثة.. وتسلل العاشق إليه وهشم رأسه وقامت هي بخنقه بقطعة القماش ودبرت تمثيليتها الهابطة التي تكشفت تفاصيلها والحقيقة.. وظهرت براءة الحمار من دم زوجها!
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©