الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

التوازن في عالم الألف شيء

التوازن في عالم الألف شيء
2 مايو 2017 20:10
«التاو الذي يمكن التحدث عنه ليس هو التاو اللامتناهي أو الأبدي والاسم الذي يمكن إطلاقه عليه ليس اسم ذاكَ اللامتناهي الأبدي الذي لا يُسمى هو أصل السماء والأرض الذي لا يُسمى هو أم لكل الأشياء». حين ظهرت الترجمات العربية الأولى لكتاب (التاو - TAO) لم تستطع معظمها مساعدة القارئ على فهم المعاني الجوهرية لهذه الفلسفة، خاصة أن بعض تلك الترجمات قد خلت من مقدمات أو شروحات وافية للفلسفة والحكمة التي ينطلق منها هذا الكتاب المهم. من يطّلع على ترجمات الكتاب في اللغات الأخرى سيشعر كم أن المكتبة العربية الموجهة للقارئ العادي وليس المتخصص في الفلسفة، محدودة وربما متجاهلة لهذا الفكر الإنساني المتجاوز لزمنه رغم قدمه. يحيط باسم التاو الكثير من الغموض، إذ ليس له مرجعية لغوية معينة. إلا أن المفسرين اتفقوا على بضعة معانٍ ودلالات في اللغة الصينية القديمة والمعاصرة. مؤلف التاو تعني التاو حرفياً (الطريق) أو (المسلك). كما تعني صيرورة أو تدفق الحياة في الكون. ويمكن أن تعني الطاقة أو القدرة الكونية الموجودة في الكون، والموجودة كذلك بداخلنا. ظهرت الأفكار التاّوية على يد المفكر الصيني لاو تزو Lau Tzu الذي عاش ما بين القرن الخامس والسادس قبل الميلاد، ووضع كتاباً يتضمن تعاليمه وأفكاره وسماه التاو The Tao. واسم المفكر لاو تزو هذا نفسه تدور حوله تفسيرات عدة. فكلمة (لاو) تعني الشيخ المتقدم في السن. و(تزو) تعني الأستاذ أو المعلم. بهذا يمكن القول إن اسمه يعني الشيخ المعلم. يورد مصدر آخر أن اسمه الحقيقي لي إره Li Erh الذي ولد وعاش في ولاية تشو Chu الصينية قبل 551 قبل الميلاد، ما يعني أنه عاش في فترة أقدم قليلاً من الفترة التي عاش فيها كونفوشيوس. يُعتقد أن لاو تزو عاش معظم حياته في بلاط الحكم للعائلة التي حكمت مقاطعة تشو. إلا أنه شعر مع الوقت بأن الناس لم تعد تهتم بأفكاره. ومع اندلاع بعض النزاعات الدموية في المقاطعة التي كان يقطنها، وملاحظته لعدم اهتمام السلطة الحاكمة بإيقافها، فقد قرر الرحيل عن المقاطعة والعيش منعزلاً في البرية. تذهب الحكاية المروية عن حياته إلى أن المسؤول في بلاط الحكم الذي كان معجباً بفكره، لم يوافق على السماح له بالذهاب قبل أن يُدوّن له كل تعاليمه. وهكذا وافق لاو تزو وجلس ليكتب التاو في جلسة واحدة. بعد أن فرغ منه سلمه لمسؤول البلاط وغادر المقاطعة دون أن يُخبر أحداً بوجهته، ولهذا لم يُعرَف عنه أي شيء بعد ذلك. يمكن اعتبار هذا الكتاب الذي حوى 81 فقرة، مصدر أحد أهم الفلسفات في الصين وبلدان الشرق. ومع أنه كتاب حكمة، فقد ولدت منه مع الوقت التاوية، وتطورت كديانة تقدم تفسيراً لعلاقة الإنسان بالوجود ودوره في الحياة، وأيضاً السبل التي عليه أن يسلكها إذا ما أراد تحقيق غاياته وأهدافه. بهذا فالكتاب، الصغير في حجمه، ليس نصاً مقدساً يبشر بمذهب أو عقيدة أو دين، بل خلاصة فكر رجل حكيمٍ ذي نظرة ثاقبة، وحصيلة تجربة إنسان خبِر الحياة وأسرارها وقدم نصائحه في أسلوب سلس ومبسط لجميع القراء. وبخلاف النصوص الدينية التقليدية، يحتوي التاو على تفسيرات وإجابات مبسطة وذكية تصلح لحياة الإنسان اليومية في كل زمان ومكان، ويمكن للإنسان العادي، من خلال القراءة المتأنية، استيعاب المبادئ والنصائح وتطبيقها. الذي لا يمكن معرفته بالعودة إلى المعاني المتعددة لكلمة التاو والتفسيرات المحتملة لها، فقد اختلفت وتشعبت. يؤكد لاو تزو نفسه في بداية كتابه على أنه لا يمكن إطلاق اسم محدد أو تعريف واحد يعكس المعاني والتفاسير المختلفة للتاو، ولكن في الوقت ذاته يمكن استخدام كلمة التاو للدلالة عليه. يقول في أول نص في الكتاب، أن التاو الذي يمكن تفسيره ليس هو التاو الأبدي أو الأزلي والاسم الذي يمكن تسميته ليس هو الاسم الأزلي. فالتاو، إذن، هو الاثنان معاً (الذي يمكن تسميته) والذي (لا يمكن تسميته) وقد يبدو هذا تناقضاً، ولكنه في التحليل العميق شيء واحد. إن ما لا يمكن لنا (معرفته) له مستوى إدراكي آخر. وفي الوقت نفسه يمكن لنا (تسميته) و (رؤيته) في (كل) شيء. عندما نرغب في رؤية هذا (الغامض) أو الذي (لا يمكن) معرفته، فالوسيلة الوحيدة المتوافرة لنا هي هذا العالم الفيزيائي الذي يمكن لنا إدراكه. لكن عالمنا المادي الذي يسميه لاو تزو (عالم الألف شيء) هو عالم المظهر الفيزيائي. عندما نترك (رغبتنا) في رؤية أو إدراك (التاو) من خلال حواسنا المحدودة وإدراكنا المحدود سيمكن لنا بالفعل (رؤيته). ولكن كيف لنا أن نقوم بذلك؟ إن هذه (الرغبة) هي تعبير فيزيولوجي لخلق حالة تؤهلنا لنكون (مُتَلقين)، وعلى استعداد لهذا التلقي. وتبعاً لما يقوله لاو تزو، فإن رغبتنا في أن نعرف أو نرى هذا (الغامض) سوف تؤدي بنا لرؤية براهين متعددة له، ولكن ليس رؤيته (هو) بذاته لأنه لا يمكن رؤيته من خلال حواسِّنا البشرية. قد يحاج الذين لا يؤمنون بمثل هذا الفكر أن ما (لا نراه) غير موجود. إلا أن هذه الحجة ضعيفة جداً. فهل يمكن لنا أن نرى ذبذبات الصوت؟ أو التيار الكهربائي؟ أو الأشعة التي تنطلق من جهاز التحكم الآلي (الريموت كونترول)؟ لا يمكن لنا رؤية هذه الأشعة أو الطاقات، ولكننا نعرف عندما نجيب عن رنين الهاتف المتحرك أن الصوت الآتي لنا من سماعة الهاتف صوت (موجود). ونعرف عندما نضغط على زر المصباح الكهربائي ويظهر النور أن الكهرباء (موجودة). كذلك الحال عندما نضغط على جهاز التحكم الآلي بمحطات التلفزيون. إننا لا نرى الصوت ولا الكهرباء ولا أشعة جهاز التحكم ولكننا نرى (مظاهر) هذه الأشياء في المستوى المادي أو الفيزيائي. بهذا المعنى، فإن الرغبة في (رؤية) التاو ستؤدي بنا لرؤية تمثلات أو مظاهر (التاو) في الوجود. على الجانب الآخر، فإن عدم الرغبة بالإدراك المادي ستؤدي بنا إلى إدراك (جوهر) التاو أو (اللا محسوس) أو (الذي لا يمكن تسميته). يتم هذا فقط من خلال الحدس أو الفطرة، وهذا بحد ذاته أعمق بكثير وأكثر اتساعاً من (المعرفة العقلية-الحسية-البشرية). ونحن أيضاً لسنا الأشياء الظاهرة منا مثل الجلد الذي يغطينا أو الدم الذي يجري في أوردتنا أو العظام التي تستقيم بفضلها أجسادنا وغيرها من علامات وجودنا الفيزيائي، بل نحن كذلك روح ذلك (الأبدي)، فهو وبشكل غير مرئي يُحرك ألسنتنا فيجعلنا نتكلم، وهو الذي يجعل آذاننا تسمع، وأعيننا ترى، وبهذا نختبر أو نحس أو نشعر بـ (مظاهر) اللا مرئي. إن (ترك) الرغبة في معرفة اللا مرئي بالشكل المادي الفيزيولوجي تعني (التسليم). يقول التاو علينا معرفة (الطريق)، وهو باب يؤدي بنا إلى فهم وعيش كل شيء في الوجود. بهذا الاعتبار علينا أن (نتوقف) عن المحاولات المستميتة لنعرف التاو أو جوهر الوجود، وهي قوة السماء حسب لاو تزو، أو الروح الكونية أو النظام الأعظم حسب الهندوسية والبوذية. الطريق إلى السلام من الواضح أن التاو قد كُتب لرجال الحكم في تلك المقاطعة الصينية. من خلال نصوص التاو، يظهر كيف أن التاو وثيقة فلسفية حول طريقة الحكم الصائبة، وكذلك حول السلوك الأخلاقي الصائب. وكما حدث لتعاليم كونفوشيوس السياسية التي تحولت إلى ديانة، فإن تعاليم التاو كذلك امتزجت مع تعاليم سابقة، وشكلت ديناً آخر تأسس لاحقاً على يد جانغ تاو لينغ. وما حدث بالضبط هو أن المعتقدات الدينية الصينية القديمة، خاصة الكونفوشيوسية بدأت تفقد بريقها وفتحت الباب لدخول الأفكار الجديدة، وهكذا ولدت التاوية ثم البوذية التي جاءت من الهند. حين ننظر إلى الأديان، خاصة السماوية منها، نرى كيف أنها أكدت ثنائية الخير والشر، وحثت أتباعها على البحث والعمل على الخير ورفض الشر. إلا أن التاوية رأت أن هذه الثنائية هي وجهان لعملة واحدة. لا يوجد الخير لوحده ولا يوجد الشر لوحده. كلاهما لابد أن يتعايشا معاً، ولابد للإنسان من أن يعيش في توازن بينهما دون صراع أو تعارض. يُعبَّر عن هذين النقيضين بـ (الين Yin و اليانغ Yang). هاذان العنصران متلازمان في الطبيعة. الين Yin في الأصل تعني (دون شمس)، كما تعني (شمالي)، وقد ربط هذا العنصر مع الظلام والأنوثة والعدم والبرودة واللا فعل. أما العنصر المقابل فهو اليانغ Yang ويعني في الأصل (مشمس) كما يعني (جنوبي). وقد ربط مع النور والامتلاء والذكورة والحرارة والفعل. هذا التعارض الظاهر هو على السطح فقط. في الجوهر فإن هذين العنصرين يعتمدان على بعضهما البعض ولا يوجد أحدهما دون وجود الثاني. فكما يعرف النحّات أن الفراغ أو الفضاء أساسي في العمل الفني ومن خلاله تُعرف الكتلة، فإن الممارس التاوي يدرك أن العذاب والشقاء والألم أمور ضرورية لوجود الصحة والمتعة والسعادة. بالنسبة للتعاليم التاوية، فإن المرض والصحة وجهان لظاهرة واحدة. فالجسد يعاني المرض ويتمتع في أوقات أخرى بالصحة. الذكورة والأنوثة شيء واحد لهما مظهر متعارض من الخارج. الحب والكره كذلك ظاهرة واحدة لها وجهان. حين يدرك التاوي وهم التعارض بين هذين المظهرين، وأن يتقبل هذا التعارض يستطيع أن يعيش في توازن وسلام. إن من مظاهر دورة الطبيعة أن البندول، على سبيل المثال، يهتز ويتحرك بين أقصى نقطتين في قطبين متعارضين لليمين أو اليسار. إذا رفضنا حركته إلى أقصى اليمين، فإننا لن نحصل على الحركة التي تؤدي بنا إلى أقصى اليسار، والعكس صحيح. إذا رفض الإنسان أحد الجوانب، فإنه يفقد التوازن والانسجام في حياته. الشيء المهم بالنسبة للتاوي، هو أن يعيش كما تعيش الطبيعة التي تتواءم وتتجاور فيها جميع النقائض مثل الظلام والنور والليل والنهار والذكورة والأنوثة، كل هذه المظاهر التي تبدو متفاوتة أو متعارضة، توجد وتحيا في انسجام وتوازن. هذه باختصار أهم ركيزة للفكر التاوي، وهناك العديد من الأفكار الفلسفية الأخرى التي تتعلق بالحياة والعمل والعلاقات مع الآخرين، لهذا فإن قراءة وتحليل كتاب التاو أمر مهم لكل طالب علم أو معرفة أو حكمة. انسجام النقائض إن من مظاهر دورة الطبيعة أن البندول، على سبيل المثال، يهتز ويتحرك بين أقصى نقطتين في قطبين متعارضين لليمين أو اليسار. إذا رفضنا حركته إلى أقصى اليمين، فإننا لن نحصل على الحركة التي تؤدي بنا إلى أقصى اليسار، والعكس صحيح. إذا رفض الإنسان أحد الجوانب، فإنه يفقد التوازن والانسجام في حياته. الشيء المهم بالنسبة للتاوي، هو أن يعيش كما تعيش الطبيعة التي تتواءم وتتجاور فيها جميع النقائض مثل الظلام والنور والليل والنهار والذكورة والأنوثة، كل هذه المظاهر التي تبدو متفاوتة أو متعارضة، توجد وتحيا في انسجام وتوازن. هكذا نراه! عندما نرغب في رؤية هذا «الغامض» أو الذي «لا يمكن» معرفته، فالوسيلة الوحيدة المتوافرة لنا هي هذا العالم الفيزيائي الذي يمكن لنا إدراكه. لكن عالمنا المادي الذي يسميه لاو تزو «عالم الألف شيء» هو عالم المظهر الفيزيائي. عندما نترك «رغبتنا» في رؤية أو إدراك «التاو» من خلال حواسنا المحدودة وإدراكنا المحدود، سيمكن لنا بالفعل «رؤيته». حُجَّة واهية إن رغبتنا في أن نعرف أو نرى هذا «الغامض» سوف تؤدي بنا لرؤية براهين متعددة له، ولكن ليس رؤيته «هو» بذاته لأنه لا يمكن رؤيته من خلال حواسِّنا البشرية. قد يحاج الذين لا يؤمنون بمثل هذا الفكر أن ما «لا نراه» غير موجود. إلا أن هذه الحجة ضعيفة جداً. فهل يمكن لنا أن نرى ذبذبات الصوت؟ أو التيار الكهربائي؟ أو الأشعة التي تنطلق من جهاز التحكم الآلي «الريموت كونترول»؟ لا يمكن لنا رؤية هذه الأشعة أو الطاقات، ولكننا نعرف عندما نجيب على رنين الهاتف المتحرك أن الصوت الآتي لنا من سماعة الهاتف صوت «موجود». ونعرف عندما نضغط على زر المصباح الكهربائي ويظهر النور أن الكهرباء «موجودة». كذلك الحال عندما نضغط على جهاز التحكم الآلي بمحطات التلفزيون. إننا لا نرى الصوت ولا الكهرباء ولا أشعة جهاز التحكم ولكننا نرى «مظاهر» هذه الأشياء في المستوى المادي أو الفيزيائي. بهذا المعنى، فإن الرغبة في «رؤية» التاو ستؤدي بنا لرؤية تمثلات أو مظاهر «التاو» في الوجود.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©