الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

العبور الأبدي

العبور الأبدي
2 مايو 2017 20:10
قصيدة النثر شكل جديد لإعادة صياغة الطبيعة الأم، لقد كُتِبت في الزمن البدئي، الزمن الخيالي، أعني زمن الأساطير، حين ظهرت كلمة الحرية لأول مرة في تاريخ البشرية وصارت تعني العودة إلى الأم أو الرحم، وبذا تحرّك الفكر متحرراً من كل قيد وفرض، وأنتج العراقة، فتجذّرت حضارة الرافدين. قصيدة النثر ليست دخيلة، إنها روحنا البعيدة، تمس أعماقنا القصيّة والمستوى الضمني فيها، تتوغل في الكون العميق الذي في داخلنا..تماماً مثل أساطير سومر. هي الزمن، لا تزال محتدمة بالسحر والحفر والتنبؤ وخلق المجهول والرؤى الغائبة. هي العبور، تركت فراغات تمليها الأجيال، فنجحت في عبور الأزمنة في نهر الشعرية منذ آلاف السنين، متدفقة بالرؤى الغائبة والسؤال الحلمي، جريئة، مستقلة، كُتبت في الاستكانة للصمت والتأمل والتيه، تتدفق وتخرق العادي والمألوف، من حقها أن تتمرد وتطالب بالعود إلى الوجود، هي الأسبق ولها جذور البدايات، هي أرض قديمة تحفظ رطوبتها، في قلبها البذور الجاهزة لقيامة تشتعل نخيلاً وأنهاراً وكلاماً مخبوءاً في خزائن الحجر، هي النقش البدائي على جدران الكهوف والمغارات، كلام النبي الذي أرخى جناحيه على دلمون بعد أن اصفرّا من عصف الطوفان، إنها عطش الدوائر الغامضة لسرب النحل على طلع نخيل سومر. هي التعب الأول، تميمة الينابيع الروحية في معابد الآلهة، تسابيح روافد نهري دجلة والفرات. انبعثت حرّة من سومر، تتحدى نداءات الرفض والادعاءات المتعصبة التي ترنو إلى تكسير أحقيتها في الولادة المتجددة، وبعث روح الشعر الأزلي ومحاولات إثبات قوة عودها الأبدي. قصر المتاهة في التاريخ الإنساني للكتابة وُلِدت قصيدة النثر روحية، أي أنها وُلدت كتابة ولم تولد شفوية، احتوتها مساحات الصمت البيضاء، لأنها باطنية، هادئة، لها غواية التأمل الصامت والدهشة، وليست جسدية موسيقية كالشعر على الشفاه، إنها تعتمد على دواخلك أنت، أعماق موسيقى الروح. وهل تسمَع ُ الروح؟ إنها وجود مستقل، قصر المتاهة كما يصفها عبد القادر الجنابي، حيث يمكن للشاعر أن يبدأ من أي مدخل يشاء، يعرف مسبقاً وذهنياً: حجم الكتلة/‏‏ مساحة القصر/‏‏ والخيط الميثيولوجي في الأساطير اليونانية، الذي أعطته أريان إلى ثيسبوس، حتى ظل يتتبعه إلى نهاية الطريق الذي يخرجه من المتاهة. قصيدة النثر هي المتاهة، والبداية، وخيط العودة. وهي القوة الفوضوية كما تصفها سوزان برنار (قوة هدامة تطمح إلى نفي الأشكال الموجودة، في الوقت ذاته، هي قوة منظمة تهدف إلى بناء كل شيء شعري). وهي عند الشاعر الفرنسي ادموند جالو (قطعة كريستال يتلاعب فيها مئة انعكاس مختلف)، وهي (مادة جاهزة وليست عارضة مجوهراتي) عند ماكس جاكوب، الذي يضيف في تتبعه، واصفاً إياها بالذات والاستثناء: (على قصيدة النثر أن تبتعد عن أية مقابلة مع الواقع، فلا مجال للمقارنة بينها وبين شيء آخر لإقامة التشابه، قصيدة النثر لا تسعى لخلق شيء سوى ذاتها هي). وما أجمل الوصف الغرائبي العميق للشاعر العراقي عبد العظيم فنجان، حين وضع لقصيدة النثر سماءً حرة، غير أنها شاقة، ترزقك العذاب والكآبة اللذيذة، ولا تنسجم مع نوايا الاستسهال في كتابتها: (كن أعمى يمشي على ضوء يديه المقطوعتين. وستصل). الرحيل والعودة من الظلم التاريخي أن نعتبر قصيدة النثر غربية، وأن بداياتها كما هو مصاغ في مناهج النقد خرجت من فرنسا على يد الشاعر (بودلير) وانتشرت عالمياً من هناك. لا بد من عودة إلى النبع الأول للقصائد، فنحن موصولون بتجارب الإنسان الأول (ما من فن سردي أو شعري في ذواكرنا إلا وله جذور أسطورية) حيث وادي الرافدين الخصب المنطلق بالإبداع في زمن الحضارة السومرية، إذ إن الشعر والنثر رفيقان قديمان تمتد صلتهما منذ عصر الملاحم المؤلفة من قصص بطولية وضعت في صيغ شعرية، كملحمة جلجامش والطوفان القديم. قصيدة النثر تبرز في نصوص العبادة العامة والتراتيل الدينية والروحانيات في سومر، ومنذ المراثي والبكائيات على المدن الزائلة كمرثية سومر وأكد، ومرثية تحطيم مدينة أور ونفر، ومرثية تحطيم مدينة لكش من الملك لوكال زاكيري (2340-2316ق.م)، إذ نجد سلسلة مميزة من القصائد والأغاني الدينية من بين نصوص العبادة والملاحم الكبرى، حينها من الطبيعي أن يلاحظ القارئ للنصوص السومرية عدم ارتكازها على مقياس شكلي صارم، وخلوها من أي إشارات دالة على النظم الشعري والموسيقى العروضية كالمقاطع المشددة، والتفعيلة، أو وقفات وفواصل (البياض). (لم يكن الشاعر السومري الذي كتب القصائد الشعرية يعرف الوزن والقافية، كما في العصر الأكدي ثم البابلي الآشوري، لذلك جاءت قصائده الأسطورية أشبه ما نسميه اليوم بقصيدة النثر، ولكنها مشروطة بتقنيات داخلية تعوض عن الوزن والقافية)، إذ كان من بين الأساليب الموظفة في توكيد الإيقاع الداخلي: التكرار والمقابلة والسرد الإيقاعي لألقاب الآلهة، وتكثيف الكلمة، وغزارة الصورة الواحدة واختزالها لمعان متعددة، الرمزية، صوت الحرف الشعري المركز. وحين جاء الشعر البابلي (فإنه كان موزوناً، تنظمه تفعيلات مفتوحة أو حرة، ولكنه لا يلتزم القافية في نظام ثابت، فالقافية مرة فيه معدومة تماماً، ومرة كما في الشعر الحر، ومرة عمودية، فهو مثل قصيدة الشعر الحر). وبعد ذلك ظهر في العراق الشعر العمودي من احتمال انتظام الشعر البابلي في صدر وعجز، أو قافية بيت كامل تتكرر بانتظام، وتدريجياً مع تعاقب الأزمنة والحضارات والشعوب على العراق أصبح العراق موطن الشعر العربي العمودي في العصر العباسي، ومن ثم يتشكل العود الأبدي في القصيدة، حين يبدأ الشعراء بتحطيم بنية الشعر العمودي ونشر تفعيلاته، تعقبه مرحلة ترك جزء من الحرية لترتيب القوافي، وبعدها تأخذ الثورة الشعرية بالانتشار ليشتعل التفكير بالحرية المطلقة في التخلي عن الوزن والقافية. إن هذا التحطيم التدريجي للقواعد يصفه خزعل الماجدي بعودة الحرية، (فبعد أن تعسفت الموسيقى كجنس فني خارج الشعر في تكبيل الشعر، وحولته إلى شعر تفعيلة، وبعد أن تعسفت الهندسة عن طريق التناظر، فخلقت من شعر التفعيلة شعراً عمودياً، جاءت ثورة الشعر الحديث، لتنزل من تعسف الهندسة أولاً، ثم تعسف الموسيقى). قصيدة النثر.. أكدية تقول تسبيحة أنخيدو أنّا الثامنة عشرة، لمعبد نانا: يا أور تتناسل ثيران واقفة في أجمة الماء والقصباء الصخرة البيضاء أكشنوكال عجل بقرة عظيمة بكل الحبّ في السماء المقدسة بقوة وحشية أحبولة نُصبت على عُشّ أميرة أكدية، قوية ومبدعة ومتعلمة، أنجزت أدواراً متنوعة في مجتمع معقّد، تكتب الشعر وتحترف الكتابة قبل الميلاد بـ 2300 عام، (أنخيدو أنّا)، الرائدة الأولى لقصيدة النثر في التاريخ الإنساني، والكاهنة الكبرى في معبد أور لإله القمر نانا، ابنة سرجون الأكدي، مؤلفاتها موقعة باسمها، شاعرة أعلنت اسمها وهويتها دون لبس، في ذلك الوقت الذي ضاعت فيه هوية معظم مبدعي وشعراء الأدب السومري. تركت أنخيدو أنّا مجموعة من الأعمال الأدبية تتضمن أشعاراً مكرسة للإلهة إنانا، ومجموعة من التراتيل المعروفة بـ (تراتيل المعبد السومري) وهي تعتبر أولى المحاولات الكتابية في الإلهيات المنتظمة. كما توجد لـ (أنخيدو أنا) نسخ عمل بحثية، أجرتها وأبقتها في نيبور، أو أور أو لجش، (أوراق أنخيدو أنّا البحثية)، تم حفظها مع مخطوطات ملكية، مما دل على أن كتاباتها ذات أهمية عالية، فهي مواضيع سرمدية تناقش بصورة مستمرة حتى في أحدث المجتمعات الأدبية، مثل أهوال الحرب، كما وصفتها في قصيدتها (ندب روح الحرب). وقد رفعت تآليف أنخيدو أنّا من شأن الثقافة النسائية في بلاد ما بين النهرين، وبالإضافة إلى أنخيدو أنّا عُرِف عن نساء الملوك تمكنهم الشعري مع احتمال تأليفهم له من خلال الوصف التصويري لآلهات ما بين النهرين، وقد مثلت الإلهة نِندابا بكاتبة أيضاً، مما يكشف الوعي الثقافي للنساء ودورهنّ في المجتمع القديم إلى حد ما. وفي هذا الصدد يعتبر الباحث والشاعر العراقي عبدالله حسين الجلاب أن قصيدة النثر هي قصيدة أكدية بامتياز، تفردت بابتكارها الشاعرة أنخيدو أنا 2300ق.م. وهي قصيدة أقدم من ملحمة جلجامش بثمانية قرون، وأقدم من إلياذة هوميروس بأحد عشر قرناً، وأقدم من الشاعرة الإغريقية الغنائية (سافو) بسبعة عشر قرناً. وإلى هذا المنجز الأركيولوجي في التنقيب، هل يمكننا اعتبار قصيدة النثر أنثوية بامتياز؟ على أنها امرأة في المنشأ والنهوض، نبتت من أنامل أنثوية قديمة وفق الكشف الأثري الذي أكد على أن نص أنخيدو أنّا هو أول نص تاريخي بتوقيعها وأقدم نص شعري في العالم. لنفترض وجود نصوص أقدم لشاعرات أخريات، مؤكد أنه كان زمن الشاعرات، مثل ما أنه زمن قصيدة النثر، لكنه حظ التنقيب ونحاسة الدمار الذي طال العراق في سنواته الماضية والآنية، ولا بأس من افتراض وجود نصوص أخرى، تحت الطمي الزمني، في عمق البعد التاريخي، لكن لم تصلها يد الأثري بعد. لازالت مفاجآت التنقيب مستمرة. عموماً.. كم نحن مدينون للالتفاتة الفريدة من عالم السومريات (صموئيل نوح كريمر) والشاعرة (ديان وولكستين)، فقد فكر الاثنان جدياً ومهنياً بترجمة أعمال إنخيدو أنّا، وجمعها في سرد موحد نُشر تحت عنوان (إنانا، ملكة السماء والأرض: قصصها وتراتيلها من سومر). وقد قامت دار هاربر بيرنيال بنشرها عام 1983. في هذه التراتيل تصف إنخيدو أنّا عظمة (إنانا) ملكة السماء والأرض، وأنها المحور الذي يدور الكون حوله، ذراعاها تمتدان للإحاطة بالحياة كلها، وأنها ترتدي خطة السماء والأرض المنقوشة. (إنانا حسب وصف أنخيدو أنّا، تمتلك تصميم الحياة ذاته الحياة ذاته، وتسيطر على حركات العالم الطبيعي. هي الكيان المتسامي الحساس ذو العاطفة الرقيقة، الذي يتدفق في المادة. وعلى هذا فإنها تنفّذ خطتها في دوران الطبيعة المكرور). بداية شعر الحب من بُلبالة السومرية: أيها العريس الحبيب إلى قلبي جمالك باهر حلوٌ كالشهد أيها الأسد الحبيب إلى قلبي جمالك باهٍ حلوٌ كالشهد لقد أسرت قلبي فدعني أقف في حضرتك وأنا خائفة مرتعشة. التوقيع بُلبالة السومرية لعلها أقدم قصائد الحب في الحضارة السومرية، هذا النص الذي تم العثور عليه منقوشاً على لوحة مزخرفة في متحف اسطنبول عام 1951م، وقد قام بترجمته من السومرية إلى الإنجليزية المؤرخ والآثاري (صموئيل نوح كريمر) ثم قام بترجمته إلى العربية الآثاري (طه باقر)، كان هذا النص لشاعرة تسمى (بُلبالة السومرية) التي كانت تغني في البلاط السومري أواخر القرن الثالث قبل الميلاد أي نحو 2100ق.م. ومن المحتمل أن يكون العبرانيون قد اقتبسوا من هذا النص أثناء سبيهم في بابل، وأدخلوه في توراتهم أثناء التحريف تحت اسم (نشيد الإنشاد)، كما أنها قصيدة أسبق من قصيدة (بيتوحا الفرعونية). هوامش (1) خزعل الماجدي/ العقل الشعري/ قصيدة النثر العراقية وجذورها القديمة/ دار الشؤون الثقافية/ 2004م (2) صبري مسلم حمادي/ مقالة: استلهام ملحمة جلجامش في الفن السردي المعاصر. (3) متون سومر/ خزعل الماجدي/ دار الأهلية. (4) عبد الله حسين جلاب/ قصيدة النثر، تواقيع/ دار الأمل الجديدة/ دمشق (5) ديوان إلى الأبد: قصيدة النثر - أنطولوجيا عالمية/ عبدالقادر الجنابي/ التنوير (6) إحسان هندي/ تراجم شعرية/ شاعرات الحب في بلاد الشرق والغرب/ اتحاد كتاب العرب. (7) (بتي دي شونك كيدر: صوات أنخيدو أنِا)/ ترجمة كامل جابر/ منشورات الجمل/ 2009. (8) السلسلة التلفزيونية العلمية (الكون: ملحمة في الفضاء والزمن) موضوع الحلقة: الخالدون، قامت كريستيان آمانبور بأداء دور صوت أنخيدو أنّا.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©