الخميس 28 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

نعي سردي لأحلام الطفولة

نعي سردي لأحلام الطفولة
12 يونيو 2008 02:07
ثمة في قصيدة ''العباءة'' لصالحة غابش توجّه سردي غير مألوف في النصوص الشعرية، وهو الاعتماد على حكاية حاملة لحكاية أخرى موازية لها، إنها سردية شعرية تقوم ببساطة على سيرة حياة ثوب، منذ كان صغيراً نزقاً، حتى كبر وطال، وبين الزمنين يفرّ عمر من بين الأصابع، وتنكسر أحلام لا حصر لها·· يبدو الثوب في صورته الأولى معادلاً نفسياً لزمن الطفولة بفرحه وشغبه وفاعليته، إذ إنه يقود حركة الحكاية وحركة الحياة، فهو ''ثوب صغير نزقٌ/ يعشق الأرجحة الوسنى/ يرسم الأحلام/ يحضن العطر/ يبكي غضباً·· إن الثوب في آونة الطفولة فاعل ليس بالمعنى اللغوي فقط، بل بالمعنى الدلالي أيضاً، فهو رديف للأنثى نفسها/ الأنثى التي كانت سعيدة بعدم اكتمال أنوثتها، أو بالأحرى بتلك الحرية التي تؤمّنها لها الطفولة، لأنها كانت من خلال رمز الثوب تعيش بعيدة عن سلطة المجتمع، الذي كان يستعدّ لكبرها بالعباءة·· فقد كان الثوب إذاً من خلال رموزه وموازياته يَصنع ما حوله ويؤثّر فيه، فهو يتمتّع بالأرجحة التي تبعث الفرح، ويواجه الهواء بأحلامه، ويحضن العطر، ويجابه المطر ببكائه الغاضب·· إنه باختصار يعيش حياته الطفولية عيشاً كاملاً: كان لي ثوبٌ صغيرٌ نزقٌ يعشق الأرجحة الوَسنى على حبل المساءْ يرسم الأحلام في وجه الهواء كان ثوبي يحضن العطر إذا غازله كان يبكي غضباً لو مطر باغتهُ إنه إذاً قادرٌ في برهة الصغر على فرض علاقته مع الجسد، ومع الآخرين الذين يريدون أن يسرقوا من الطفولة زمنها، والعمرُ يبدو لصّاً جاهزاً لسرقة فرح الطفولة من الذات الشاعرة، فلا يكون أمام الطفولة إلا الاحتماء بالثوب، لأنه الملاذ حتى من خلال مرموزاته الأخرى الوارفة، فهو ليس مجرد دلالة على زمن جميل، بل هو أيضاً أشجار ذات ظلال يحتمي في ظلّها الهاربون من قيد زمان الذي يهدد بالكبر: ''أحتمي من رقة اللص بأشجار الطفولة التي تنبت في كفّي·· عيني وصوتي'' غير أنّ الزمن الفيزيائي يمرّ على الأنثى، وتختار صالحة غابش أن يمرّ الزمن على الثوب، فينتقل ذلك الانتقال الأليم نحو اكتمال الأنوثة، وهنا تختلف وظيفة الثوب الذي كان نزقاً/ يعشق الأرجحة الوسنى/ يرسم الأحلام/ يحضن العطر/ يبكي غضباً، وتصبح له مهمة وحيدة هي حفظ أسرار الجسد، منتقلاً بذلك من الفاعلية إلى نقيضها، ويصبح تابعاً للجسد، وخادماً له، وحارساً عليه، لأن الثوب/ الجسد ''رحلت عنه تفاصيل البراءة'' أما اللص الذي كان يحاول أن يسرق عطر الطفولة، فلم يعد لديه أي مطمع، وهو الأمر الذي يستنفر آليات الدفاع الطفولي ضدّ الكبر في نفس صاحبة الثوب، ولكن اللص يبتعد ويتلاشى: وأصيح··· أيها اللص المشاغب وهو يختال بعيداً ضاحكاً يتلاشى في الفضاءْ لقد كانت حركة الانتقال من الثوب النزق إلى العباءة مؤلمة وحاسمة وسريعة، دون أن تحاول الشاعرة رصد مخاض هذا الانتقال الذي كان من الممكن أن يضيء فترة زمنية تمّ القفز عنها، باستثناء تلك الإشارة الذكية إلى ''موج شبيه بالهزيمة'' التي توحي بنذير التغيّر الذي تخافه الذات الشاعرة، فالموج يحمل نهايته المحتمة في لحظة ولادته، بمجرد مرور الزمن، والطفولة التي لا تنعي نفسها تنعيها الشاعرة عبر هذا الانتقال·· وعوداً على تحميل المعادل النصي بعده الدلالي فقد أثّر هذا الانتقال في وظيفة الثوب ذاته، كما لاحظنا، ومع تكرار عبارة ''كبر الثوب وطال''، سيؤثّر في كلّ الأشياء ذات الصلة الحميمية بالأنثى بدءاً من تغيّر الأحلام، ومروراً باتساع مساحة السجن الاجتماعي، وليس انتهاءً بحزن الأيام على ما مضى وانقضى: كبُر الثوبُ وطالْ صار للأحلام لونٌ آخر أثقلت كلّ الصناديق التي أودعها الليل الرؤوس صارت الأنسام تخجل إذ تراني - أنا والبحر - رفيقين يسيران على غيمة شعر صار للأيام مشي الكبرياء ولها حيناً غياب في مرايا كسر الحزن زوايا الشمس فيها·· وهنا نتساءل ما الذي يبقى للأنثى بعد حركتين سرديتين، انقضت الأولى منهما، وبقيت الثانية حاضرة أمامها: ـ هل تملك خياراً في أن تعود إلى ما مضى؟ ـ وهل تملك القدرة على التوافق مع ما سيأتي؟ إنها محاصرة بحقيقة مرور الزمن، فالوقت يضحك، واللص المشاغب يراقبها من بعيد، لذلك لا يكون أمامها سوى أن تطلق صرخة هي مزيج من الشوق والاستسلام لنعي الطفولة الهاربة التي يتجلى رحيلها في رحيل الثوب، وفي انتقال الحبل ذلك الانتقال المعبّر من الأرجحة الوسنى بفرح الثوب النزق إلى الأرجحة الثكلى بفقدانه: وأنادي: يا هواء تتذكّر؟·· ذلك الثوب الذي كان صغيراً نزقاً كنتَ أنتَ المشكلة تخرج اليوم وحيداً من ديار مقفلة بقيت فيها حبال فزعت إلا من الأرجحة الثكلى على وجه السراب· إنها رؤية صالحة غابش التي تنعي الطفولة من خلال النص الشعري الحكائي الذي يقول بوضوح: إن الإنسان لا يستطيع أن يوقف حركة الزمن التي تتجاوز كلّ ما هو جميل·· وربما كان على الإنسان أن يبحث في تحقيق سعادته في جيل آخر ما زال يرتدي أثوابه الصغيرة النزقة·
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©