الجمعة 29 مارس 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

محمود درويش.. هل التقى الفينيق أخيراً بفراشته؟

محمود درويش.. هل التقى الفينيق أخيراً بفراشته؟
6 أغسطس 2009 00:06
هي محاولة في توصيف حياة الكتابة لدى محمود درويش عبر الجغرافيا والتاريخ. لقد جعل شعره المبكّر من الأرض السليبة تلك المحبوبة التي من المستحيل الوصول إليها، لتشكّل بذلك قاموس الشاعر. كانت قسَمات فلسطين هي أزهارها وطيورها وبلداتها ومائها – وقد أصبحت متكاملة في شهادة الشاعر على التراجيدي والسياسي والإنساني. رغم ذلك كان محمود درويش يبحث عن ما هو أبعد من المكان المحض الذي لم يكن قد غادره بعد أبداً. الآن، وفي أغلب شعره الأخير، الذي تُرجِم في «أثر الفراشة»، تقوم كتابته بوضوح على الحدّ بين الأرض والسماء، والواقع والأسطورة، والحب والمنفى، والشعر والنثر. إن الرحلة المديدة والمراوغة قد شرع بها درويش منذ أن هجِّرت عائلته من موطنها الأصلي في الجليل إلى لبنان (كان في السادسة من عمره وكان بوسعه أن يشهد الأوديسا). عاد محمود درويش إلى «إسرائيل» بعد شهور على اختلاقها، حيث نشأ بوصفه الحاضر الغائب الذي لم يعد (منذ التهجير)، ليُعترفَ به كإسرائيلي عربي. عندما غادر إلى موسكو في العام 1970 كان قد أصدر أربعة دواوين مثلما كان قد عرف نظام الاعتقال الإسرائيلي مباشرة. كانت حياة المنفى الطويلة قد بدأت. غادر بعد سنة إلى القاهرة ومن هناك إلى بيروت. جوهريا، كان الغزو الإسرائيلي للبنان العام 1982 هو الذي أطاح بسعي درويش إلى «سيادة» الأغنية. كانت مغادرة بيروت إلى تطواف متوسطي (اليونان وقبرص وتونس) اختبارا لقلب امتلأ بالأسى بالنسبة لدرويش، الذي بدا غير قادر، بعيدا عن الكتابة، على الصمود أمام مرآة أخرى باهرة للمنفى؛ للإقصاء. وصفت «مديح الظل العالي» ملحمته الطويلة ( القصيدة التوثيقية ) عام 1983 عن احتلال بيروت، ثم «قصائد لمدائح البحر» محنة درويش مثلما عنونتا العديد من أصدقائه القريبين الذين قتلوا أو اغتيلوا. في العام 1986 فقط، انتقل درويش إلى فرنسا وقد أصدر ديوانين وكتابه النثري رفيع الجمال والمتألق عن حصار بيروت: ذاكرة للنسيان. والكتاب الآخر للسنة نفسها: «ورد أقل» يؤكد الورد على نُضج قرار درويش بإخفاء الإيقاع والصوت والحوار، والاحتفاظ بالمتحوّل وذلك الفن المفعم بالقلق. اكتشف درويش ضرورة التجدد المستمر لقصيدته: استقرت الأغنية طويلا لتعرف نفسها، إنها سبب البهجة، وذلك قبل أن يرحل نحو قراءة أخرى وكتابة أخرى. هذا الاستحضار للفينيق من رماد المنفى الأكثر قِدَماً وبرودة أراد له الشاعر أنْ يكون دلالة على فكرة العودة وعلى الجمالية الرفيعة للمقاومة التي ودّ درويش لها أن تعود لزيارته ثانية في هذا العمل: الفينيق يبحث عن فراشته. قرابة العام 1988، كان درويش عضوا في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية. وإلى جوار إدوارد سعيد أنيطت به مهمة إعداد مشروع لسلام وشيك، كان ذلك زمناً شائكاً وغريباً بالنسبة لمحمود درويش: «ماذا يفعل الشاعر هناك، هناك في اللجنة التنفيذية؟» ماذا أفعل أنا؟ ماذا يفعل شاعر في اللجنة التنفيذية؟ هل سأكون قادرا على كتابة كتاب في الحب إنْ يسقط لون على الأرض في الخريف؟». كان ينبغي لبعض الوقت أنْ يمرّ قبل أن يجيب درويش عن سؤاله عن كتاب في الحب. كانت الانتفاضة الأولى فينيقا منح الشاعرَ ريشا جعله يحلّق إلى الأعلى فأعلى. في هذا الوقت واجه درويش، كما فعل من قبل، مأزقا جوهريا بالنسبة للشاعر: كيف يمكن حَمْل «الأنا» في «النحن» دون أنْ يتخلى أحدهما عن تفهّم الآخر. وكانت النتيجة ملحمتين عظيمتين عن الذاكرة الجمعية أظهرتا براعة درويش في القصيدة الطويلة. في «أرى ما أريد» العام 1990 قبض درويش على ماهية الأسطوري والرؤيوي بشأن العودة، متأرجحا بين الحلم بـ «حجر يخمش وجه الشمس» من جهة، وبين أن «يشق جلد الأرض» ويطير كي يطير فقط، من الجهة الأخرى. فيما قدّم «أحد عشر كوكبا» الذاكرة الجمعية باستحضار صوتين للناس: القديمين والمعاصرين. وفيه ينثر درويش بذور الصوت الكوني – بدءا بالأندلسي، يبحر عبر الأطلنطي نحو استدعاء أرواح سكان أميركا الأصليين، ماضيا إلى الوراء، إلى الكنعانيين والأغارقة لينتهي بشاعر عراقي. على سرير الغريبة ربما هذا ما كان درويش يحتاج إليه كي يبدّد ذاته في «نحن» «الأنا « قبل أنْ يقفز باتجاه تحرّر جديد. وهذا التحرّر جاء في العام 1996، تاليا على النضوب المرير لاتفاقيات أوسلو (التي كان قد قدّم استقالته من اللجنة التنفيذية بعدها). فأصدر عمله المضيء، الذي شخّص فيه رواية المكان واللا مكان: لماذا تركت الحصان وحيدا؟ الذي هو حيث ما بَقِيَ من تودّد بين ذات وآخرها، وقد تبلورا في وحدة رمزية في شعره. تلك ، كانت السنة التي عاد فيها إلى الوطن. بعد ست وعشرين سنة من المنفى عن موطنه الأصلي في الجليل، عاد إلى رام الله. هناك أكمل «سرير الغريبة» العام 1998؛ كتابه الذي في الحبّ. ربما توقّع الكثيرون منه مديحا رائعا في الدولة التي، أخيرا، قد جاءت. وغالبا ما تخيّل هؤلاء شعره كما أحبّوه هم. لكنه هنا كان يغني للحب بوصفه منفى شخصيا ولم يتغن بالمنفى بوصفه حبّا عاما. في آخر الأمر، تقبّل القرّاء الكتاب. «سرير الغريبة» رحلة في الصوت وعبره، ثمة الخطاب الرقيق الذي يمنح الولادة لذاتها هنا، ثمة «الأنا» التي تفيض عن «الأنت» والثنائية التي تتوحد في ما وراء البناء الضيّق للغة. ثمة حوار بين ما هو ذكوري وما هو أنثوي، وما بين النثر والشعر؛ والنفس وأخرياتها. لم يقل الشاعر ما يكفي عن ما ورائيات الهوية، في كتاب الحب هذا. إن الحوار الرقيق بين نبرة الصوت والإيقاع في قصائد من مثل «سماء منخفضة» و«نحن نمشي على الجسر» تشير إلى الاستبدال الحسّاس طوال الكتاب، حيث من الممكن معالجة الأسطوري بـ «كوب من البابونج الساخن / وحبتين من الإسبرين» ثمّ إن سونيتات الغريبة هي معيار لمحكية أخرى تطوّر محورا مركزيا يمنح الكتاب تأرجحه بين امرأة ورجل وشعر ونثر وتطارح أفكار وعواطف مع الآخر كلّه. بعد سنة على نشر «سرير الغريبة»، كاد درويش يموت من مرض مفاجئ، لم يستدع إقامة طويلة في العناية المركّزة، ولاحقا كتب جداريته العام 2000 لتكون عمله الأخير. مجّد الحياة في هذا الكتاب: «الأخضر أرض قصيدتي خضراء عالية» «وأَنا أُريدُ، أُريد أَن أَحيا» وحيث الموت يهزمه الفن. لقد بدأ بتطوير شمولية العام والجدلي أكثر. آنئذٍ انفجرت الأحداث الفظيعة للانتفاضة الثانية. كان درويش في رام الله، وفجأة وجد نفسه يشهد موتا فلسطينيا آخر ويعيش حصارا آخر. غنائية في التأليف، ومداخل كما لو أنها سجّل يوميات، إنها «حالة حصار». شهادة ليس على المعاناة الإنسانية وحدها بل على الفن أيضا، إنما إنتاج الفن تحت وطأة الإكراه. فن في التحوّل من نوع إلى آخر: خسائرنا، يقول درويش، من شهيدين إلى ثمانية .. / وخمسين شجرة زيتون، / بالإضافة إلى خلل بنيوي سوف يوجع القصيدة والمسرحية واللوحة الناقصة. إنها صعوبة إنما ليست في رسم تماثل لعشرين سنة خلت، عندما أثار حصار بيروت خيال الشاعر للبحث عن ما بعد الحصار. «حاصر حصارك» كانت الصرخة الشهيرة في العام 1983 في قصيدته التوثيقية «مديح الظلّ العالي». إنه الآن يعيد الكلمات نفسها بهدوء إنما بعنوان واضح في سطر واحد: إلى الفن. في النهاية كانت فراشة ضوء تقود الشاعر من نفق الليل هذا إلى خارجه. وعلى نحو شبيه، فإن القصائد السبع والأربعين في «لا تعتذر عمّا فعلت» هي تجسيد/ تعويذ (من التعويذة أو الرقية) من الشاعر بعد المذبحة، فقط مثلما هو «ورد أقلّ» قبل سبع عشرة سنة. هذه الغنائيات «في رغبة الإيقاع» كانت، من ناحية ثانية، قد تغيرت وصارت أكثر تقدما لجهة أنها موزونة الخطى أكثر، النغمة، والموسيقى، انجمعت، بوضوح، في ثنائيات وثلاثيات أو أكثر في الحوار مع الآخر. إنها تبدأ بنسج للزمان والمكان على نحو متواصل وبتطلّع إلى مركز فعّال، كما في خماسية الموت المذهلة التي تبدأ بـ «إنهم لا ينظرون وراءهم». بعد ذلك يواصل الإيقاع انتقاله المفاجئ بالمحكية، بإعادة إنعاش لليومي والعادي وباهتمام لعوب بهما. بالتالي يختتم درويش حُرقته برفرفة رائعة فوق جسد منفاه عبر خماسية أخرى تتسلسل في متوالية شعرية تنزل به إلى اليابسة مرة أخرى في مزاوجة بين المنفى والخبرة، والشعر والعراق. وقصائده الرائعة التي تشكّل الجزء الأخير من «أثر الفراشة» تلخص، في حوارية غنائية وأخيرة، الغنى والتحول المتواصل في الأعمال الكاملة لدرويش. في لغته يتحرر درويش من «صفة المكان» وتريد هذه اللغة «من الشيء، فقط، شفافية الشيء». وبالتعزيز من ذلك التباين مع قصائد العام 1948، تأخذ اللغة كذلك «ثأراً من الغياب». أيضا، التحولات في شعر درويش، وروزنامة الحياة العاصفة للكتابة لديه، ربما، امتلكت على الدوام انتظار المرور عبر مفرداته الخاصة. وعلى الأرجح، كانت هذه اللغة تأخذ صفحات لفهرسة الكلمات التي تتكرر – وكيف تتكرر – في قصائده: شقائق النعمان، واللازورد، والغزال، والغيمات، وزهر اللوز، والأنهار، والمرايا، والنوافذ، واللجّ (ما قبل الخليقة)، وأشجار الزيتون، إنها مشاغل لا نهائية ومطلقة. لا شيء سوى القلق ولا خيار سوى الأمل قريباً من الشاعر .. قريباً من الشخص جهاد هديب لا، لم تكن عادية، صبيحة الحادي عشر من أغسطس العام الماضي تلك ولا رائقة أبدا، كانت قائظة وكل ما فيها يستدعي انقباضا في القلب وسرعة في الانفعال والإحساس بالمرارة. كلٌّ بمفرده، توجّه أصدقاء محمود درويش إلى مطار ماركا العسكري، جنوب شرق العاصمة الأردنية لإلقاء النظرة الأخيرة على جثمان محمود درويش الذي كان قد وصل للتوّ من إحدى مستشفيات هيوستن الأميركية على متن طائرة إماراتية. التقينا، نحن أصدقاؤه والقريبون منه، في تلك القاعة بقلوب راجفة وعيون دامعة وقد اختلف الرنين في صوت كل منّا. إنه مسجى أمامنا، لا، ليس أمامنا بل في التابوت. لكن تلك لم تكن هي الحقيقة الوحيدة التي صدمت أصدقاء درويش في القاعة، بل هو هذا الإفراط في جعل جنازته رسمية إلى هذا الحدّ وبحضور رسمي مبالغ فيه وانعدام أي أثر لأي من المثقفين الفلسطينيين أو العرب القريبين إلى الرجل، باستثناء مارسيل خليفة الذي أبّن صاحبه بصوته وغنائه، وكان الأكثر بلاغة وصفاء صوت، ونقاء سيرة من الآخرين. وما تبقى كان مرتجلا إلى حدّ الافتعال، إلى الدرجة التي قال لي فيها مرة محمود درويش نفسه، إن النمر لا يعنيه شيئا إن عُلِّق جلده في جدار بعد موته في الإشارة إلى وضع شبيه بهذا كان يتوقعه لنفسه. لقد تحدث محمود عن سيناريو موته باقتضاب لأكثر من صديق لكنّ أحدا لم ينتبه إلى ذلك. بعد رحيله فقط أدركنا إشارات الرحيل. مساء اليوم ذاته، وفي مقرّ رابطة الكتّاب الأردنيين أدركنا أن الجنازة لم تُسرق في رام الله وحدها بل سُرقت من عمّان، من المثقفين ومن الأصدقاء ومن جمهوره، هي التي كانت ستكون استفتاء شعبيا، من نوع ما، وعالي الثقافة، على رفض الوضع الفلسطيني الراهن الرافض لشكل الصراع الداخلي بكل استقطاباته وأقطابه سواء في الشمال أو في اليمين. كنا قد تسمرنا أمام قناة فلسطين الفضائية الرسمية ورأينا بأم أعيننا أن الناس قد مُنِعت من وداع الرئيس الرمزي لفلسطين الذي يُدعى الشاعر محمود درويش كما سمّاه قبل رحيله الشهيد ياسر عرفات بأعوام. *** في آخر أيامه، كان قد ضَجِر من كل شيء، حتى من الموسيقى والغناء بل الألوان البيضاء في الجدران، ومن ذلك الخليط من درجات البني في الأثاث والمكتبة، ومن غرفة نومه، ومن الستائر، ومن الضوء الذي يتسرّب عبرها شفيفا مخاتلا قبل المغيب في الخامسة مساء كما اعتدت لقاءه، وأنه يريد أن يغيّر كل شيء؛ كل شيء بلا استثناء، حتى زمنه. وبعد زيارة قريبة كان قد استبدل كل شيء بالفعل، لكنّ ما أذهلني هو غياب المكتبة. سألته عن ذلك فقال: «المرء في آخر العمر» لا يحتاج إلى أكثر من مائة كتاب ،مثلاً، من كتبه الأساسية، ولم أنتبه إلى الرنين الآخر في الصوت ولا إلى بحة الحزن التي بدأت تطبع بطابعها صوته في سنته الأخيرة، حتى ولو ضحك، ربما لأن غيابه لم يكن متخيّلا أبدا. بين زيارته حيفا وأمسيته فيها وتوديع رام الله بتلك الورود التي يلقيها على الجمهور، و»لاعب النرد» ووصاياه فيها واعتنائه بنشرها في أكثر عدد ممكن من الوسائط الإعلامية زرته لمرّات عديدة. سألته عمّا بعد «أثر الفراشة»: هل هناك مشروع قادم؟. قال: لا، إنها بضع قصائد. ولم ألتقط الإشارة، بل سألني مراراً عن الشاعرين تحسين الخطيب ووليد السويركي، فزرته مع كلٍّ منهما بانفراد. وكان مبتهجا بهما ويلّح عليهما بأسئلة عن الشعر والشعرية والترجمة تحمل احتراما كبيرا لقدرهما، بل لم يتوان عن الاعتذار لتحسين الخطيب لسوء فهم متبادل، هكذا ببساطة شديدة، وتحدث عن ديوان صادر حديثا للشاعر الأردني حسين جلعاد بمحبة عالية. ولم أكن قد أدركت أنه، على نحو عميق، أراد من أسئلته ودعاباته أن يدرك إلى أي حدّ قد ترك أثرا في سواه من الشعراء وتحديدا الشبان من أمثالنا. إنّ محمود درويش مثقف من طراز خاص ورفيع عربياً إلى حدّ أن صوته مسموع في العالم كله، فهذا ليس بكلام جديد، لكنْ، طيلة عشر سنوات كنت ألتقيه فيها لماما، لم أغادر شقته إلا وفي ذهني الكثير من الأسئلة من ذلك النوع الذي يجلب الشقاء «المعرفي» لصاحبه. *** كان قد أعدّ لي آخر فنجان قهوة. سألته عن زيارته الأخيرة لطبيبه في باريس، فقال شيئاً مقتضباً عن أن الطبيب يرى أنْ لا إمكانية لإجراء أي عملية جراحية أخرى. قال أيضا: جسدي يؤلف مثلي. وضحك بسخرية. وماذا يؤلف؟ جسدي يؤلف الكوليسترول. وكان هذا سبب موته وانهيار العملية التي أجراها جرّاح عراقي من هيوستن بنجاح باهر وجعلنا نرفع أنخابا بصحته بعد ورود النبأ إلى عمّان بهمة عالية من بسمة النسور وغانم زريقات اللذين أبلغا أصدقاءه. لكنّ لون الفرح تبدّل بعد ساعات فحسب، وتبادل الجميع التعازي برسائل الموبايل. *** يصعب أنْ تكتب عن محمود درويش وأنت على بعد قُبلة منه، صعب جدا. حقيقة الأمر أن الرجل يأسر، لطبع في شخصيته، فضلا عن ثقافته الرفيعة والجادة ممزوجة بخفة ظل وروح سخرية تمتاز بالعمق المعرفي يقابلها احتفاؤه بزائره والميل إلى الدعابة معه، على الرغم من يأسه، أو لأقل، إحساسه بعدمية من نوع ما. اعتاد الرجل أن يصرعها بالنوم، كلّ ليلة بالنوم. *** مرة، قلت وقد بدا أن الصمت بيننا سوف يصير حاجزا. غير أنّ لدي سؤالا أدخّره من زمان وأتذكره الآن، وأريد إجابة عليه. وفيما ينظر باستغراب قال: لماذا؟ هل ستطيل المكوث أكثر؟ أجبت: مسافة فنجان قهوة آخر. وفيمَ سؤالك؟ قُلتَ في «فرس للغريب» مثلاً لا حصراً. ثمة خيط من عبثية ما ينطوي عليها شعرك. ما من يقين في هذا القول سواء جرى على لسانك أم على لسان الشخص السارد في القصيدة. أمال قليلا جسده النحيل ثم حدّق إلى مكتبته الشخصية في شقته الهادئة في عبدون التي أقام بينها وبين شقته في رام الله محطة للعزلة وأخرى للسفر: ربما لأن العبثية فلسفة حياة. أنا محروم من تبنيها بسبب شرطي التاريخي الذي يثقل حياتي ولغتي.. بضغط الحاضر الذي يمنعني أنْ أبلغ منطقة أخرى أبعدَ من عبث التاريخ هذا الذي هو فسحتي الوحيدة في ممارسة عبثيتي الممنوعة من التدفق التعبيري عنها كما ينبغي لعبثيٍ أنْ يفعل. كانت العبثية لديه هي السخرية من تفاؤل بسيط والتمرد على التشاؤم معا.. وإنها طريقة في السخرية من السطوة والهيمنة واليقين. كان محمود درويش شاعراً شكّاكاً ليس بالمقولات فحسب وإنما بنفسه أيضا وبشعره. وهذا الشك هو الذي كان يدفعه دائما إلى تطوير المساءلة التي هي مساءلة الوجود واللغة. مع ذلك فالشعر بالنسبة له لم يكن تاريخ لغة وتاريخ إيقاع فحسب، إنما تاريخا شخصيا أيضا. لذلك انزعج بشدة مرة عندما قلت له: إن بعض المقاطع في «حضرة الغياب» هي قصيدة نثر بالمعنى الحقيقي للكلمة، هو الذي لم ينثر طيلة شعره كله سوى سطر شعري واحد في إحدى قصائده التي كتبها أواخر السبعينات من القرن الماضي، هو الذي قال لي إنه يتمنى أن يحذف من شعره كل ما هو قبل منتصف الثمانينات فأعلنت احتجاجا على ذلك، وقلت: أنت بهذا القرار/ الرغبة تحرم قارئا هو أنا من هذا المقطع الشعري في كتاب «هي أغنية هي أغنية»: وتركتُ سكانَ القصيدة / في مخيمهم/ يعدّون الهواء على الأصابع». ثم ران الصمت. غير أنّه من بين كلّ شعره كانت قصيدته/ الكتاب: الجدارية هي الأحبّ إليه، وأظنّ أنه كان يعتقد بأنها قمة ما استطاع أن يبدعه شعريا وأنه بسببها سوف يستمر شعره وجوده الخاص في العالم. أيضا كان يغضب عندما أسأله عن سيرته الذاتية، ألا ترى أنها متناثرة في شعري، قال. مع ذلك كتب «في حضرة الغياب». *** لأول مرة يُتاح لي أن أقول إنني تعلمت درسين عبر هذه العلاقة الطفيفة والعميقة بل والقاسية بمحمود درويش: كن أنت كما أنت حيثما أنت. أما الدرس الآخر فهو: «سأَصير يوماً ما أُريد؛ُ سنكون يوماً ما نريد»- الجدارية، إنه الأمل الذي ينبت دائما في تربة اليأس. وهذا ما زرعه في نفوس الكثيرين ممن عرفوه، بصدق ومحبة.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©