الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم
التعليم والمعرفة

3 إصدارات تجسد مشروع عبد العزيز جاسم الشعري والفكري

3 إصدارات تجسد مشروع عبد العزيز جاسم الشعري والفكري
1 مايو 2017 00:54
إبراهيم الملا (أبوظبي) صدرت عن دار التنوير اللبنانية بمعرض أبوظبي الدولي للكتاب، ثلاثة كتب جديدة للشاعر والكاتب الإماراتي عبدالعزيز جاسم، وشملت هذه الإصدارات: الأعمال الشعرية (الجزء الأول)، و«جحيم نيوتن»، و«أثر التنادي والكلمات» في جزءين منفصلين شكلاً، ولكنهما يعبران ذات النهر المنساب بصخب أليف وبأناقة متوثّبة نحو بحر من التوصيفات المرهفة، والانتباهات العميقة، والتأملات الثقافية في تحولات العالم وتجاذباته الممزقة بين انبعاث لاهوتي مشوّه ومهيمن، وبين نزوع تنويري يسعى لإنقاذ البشرية من مصير مرعب وكارثي. والأعمال الثلاثة تجسد مشروع عبد العزيز جاسم الشعري والفكري في آنٍ واحد. في الجزء الأول من أعماله الشعرية والتي تتصدرها قصيدة «آلام طويلة كظلال القطارات» يبتكر عبدالعزيز جاسم نسقاً شعرياً ملحمياً يتغذّى من التجريب اللغوي والمكوّن السردي والبناء الروائي، وأتت معظم نصوص المجموعة كنفَس حارّ ولاهث ومتدفق بالرؤى والأخيلة، نفَس يغرف من هيبة أساطير وخرافات شعبية، وذاكرة تتوق للحوافّ الخطرة والشائكة والجامحة، متجاوزاً بذلك وفي كثير من سردياته الشعرية، بنية قصيدة النثر المقرونة بالإيجاز والكثافة والومضة الحسيّة الخاطفة. ويقول جاسم في مقطع من القصيدة الأولى في المجموعة: «كنت من يسمّونني المُبهَم، يتعثّرون بأوردتي ويسقطون فيّ يومياً، كنت أنا المجهول، بقفازين بلا أصابع، أفتح لك بوّابة الحصن العتيق، كي تخرج كغوّاصة بيضاء، ونبحر معاً حيث المجرّات واسعة». وهكذا تنطلق معظم نصوص المجموعة من أنطولوجيا كونية تتحطّم فيها الحواجز الفاصلة بين الذات والوجود، ويتحول فيها الملغز والميتافيزيقي إلى كيان شعري ملموس، ومحاط بوجد صوفي مؤنسن، وافتتان عارم بالتفاصيل الحسية، وكأن هذه التفاصيل هي نبض الغياب والماوراء ، وهي أيضاً رجفة الرؤيا، وروح الحقيقة، ونارها المستعرة للأبد. في مقطع آخر من المجموعة يشتغل عبدالعزيز جاسم على نصه، مثل اشتغال الساحر أو الخيميائي على توليف الأضداد، وترويض الأقطاب المتنافرة، وكشف ما هو عصيّ على التبيان والظفر، ويقول: «ذات مساء، والثلج يكسو البحيرات، ودّع لحية القدّيس المجدولة، ودّع خلوة المجوس، ومضغ نبتة الخشخاش طويلاً، حاضناً نفسه على طول الدرب، تاركاً أصوات القرية تنعق في الغابة، وحكمة النار تنزلق في الوديان». إنه المشروع الشعري الخاص والمختلف لعبدالعزيز جاسم، قياساً بنتاجات متعاقبة ومتشابهة في أغلب الأحيان، راكمتها التجربة المديدة لقصيدة النثر في المشهد الشعري العربي، ومن هنا أيضاً يأتي امتياز وتفرّد هذه المجموعة بتمردها على البداهة والتكرار والتطابق، سواء فيما يختص بهيكلية القصيدة الجديدة التي بشر بها روّاد الحداثة الشعرية في الستينيات من القرن الماضي، أو فيما يختص بانشغالات القصيدة ذاتها، وبمواضيعها وفضاءاتها التعبيرية الطامحة لاختراق النسق الشعري السائد، ولكن ما لم ينتبه له معظم شعراء قصيدة النثر أن هذا النسق بالذات بات يشغل حيّزاً ثقيلاً ومعيقاً أيضاً لتطوّر قصيدة النثر من الداخل، نسق يبدو رابضاً كذلك أمام أفق التجريب، وخانقاً لمغامرة الكشف والحفر المتواصل في أركيولوجيا اللغة ودهاليزها السرّية، وفي المخيلة المتعطشة دوماً لماء الدهشة ورحيقها، وهذا ما تخطّاه عبدالعزيز جاسم في نصوصه المفتوحة على الأقاصي الغامضة، وما انتهجه في مساره الشعري من إيغال افتراضي أو ترحال ذهني لا يعوّل على الخواتيم المقفلة، بل يجوس ببصيرة مفتوحة على مزيج أحلام وكوابيس، ويهيم في أكوان مشرعة على أسئلة لانهائية. في كتابيه الآخرين «جحيم نيوتن» و«أثر الكلمات والتنادي» ترتحل كتابات عبدالعزيز جاسم وسط حقول ثقافية متعددة، يتداخل فيها الشخصي بالعام، وتتعلّي فيها سيرة الحياة والمكان فوق بؤس الواقع وانهياراته، ثمة نداءات ورؤى مستقبلية تموج في أعطافها أرواح الشعراء والفلاسفة والمصلحون الكبار الذين يرافقهم الكاتب في تطواف أثير، وسفر يخترق الأزمنة، من أجل استعادة بارقة أمل، اختطفها الطغاة وكهنة الظلمات، ومن أجل انبعاث محبة فتك بها أعداء الحياة، وحكمة دفنها تجّار الموت، وجمال مقطّع الأوصال في منافي الوهم. وفيما يشبه الصيغة التنبؤية لمآلات واقعنا الراهن اليوم، نقرأ لـ«جاسم» في مقال كتبه قبل سنوات بعيدة، ووثقه في كتاب «جحيم نيوتن»، هذا المقطع: «بين ماض يراد له أن يكون مقدساً بالقوة، وحاضر متفجّر، تمزّق أطنابه البلبلة والقلق والمخاوف، ومستقبل مجهول، يطوّع لكي يكون «غنيمة» تملّك واستهلاك، ولا تعطى الأولوية فيه للمصلحة العليا للبشرية، يمضي عالم اليوم في تكرار دورات صراعه اللانهائي في هذه الحياة المتقلّبة كالجمر، تماماً كما لو تحوّل هذا العالم إلى كرة حديدية، يتم تقاذفها بالمطارق بين هذه العوالم التي أصبحت محتلّة ومتنافرة، حدّ العداوة والعبث والفوضى، والمأساة». وفي سياق بدا أكثر حميمية وتماساً مع سيرة حياة وأمكنة وذاكرات، يستعيد جاسم في كتابه «أثر الكلمات والتنادي» ما يمكن وصفه بمملكة الحواسّ الغائرة، وكأنه يعزف على أوتار شجن بعيد وطليق في غابة من أصداء ومرايا وفيوض، إنها النوستالجيا الناصعة في أبهى صورها وتشكّلاتها، عندما يكسوها الشعر بكلمات من ضوء وظل وأقواس قزح. يتناول الكتاب أيضاً بلداناً ومدناً زارها الكاتب وارتبط بها روحياً واستطرد في تفاصيلها الشهية، وعندما نظر إليها بعين الشاعر انفتحت مغاليقها على حكايات آسرة وانتباهات فائضة، حتى لو كانت هذه الأمكنة موصولة برعشة انجذابات، ونداءات طفولة، تمتزج فيها موسيقا الطبيعة والأنهار في كمبوديا، مع شغف قديم في وادي «البيح» وتحت سفح جبل «جيس» في رأس الخيمة، تمازج سوف يؤول في آخر الأمر إلى تذكارات لامعة في رصيد الشعر والحياة والكتابة، والتي يصوغها عبدالعزيز جاسم هنا بمحبة طافحة تلامس تخوم مجرات، وأقمار، وخيالات منذورة لرفقة الأبد.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©