السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

ايديولوجيا خفية ومتغطرسة تحكم العالم

ايديولوجيا خفية ومتغطرسة تحكم العالم
16 مارس 2011 19:20
صدر مؤخرا، ضمن منشورات “دار أبي رقراق” في الرباط، أحدث كتاب للمفكر والمؤرخ المغربي الدكتور حسن أوريد، وهو باحث وأكاديمي شغل منصب مؤرخ المملكة المغربية، ومناصب حكومية رفيعة المستوى. في هذا الكتاب، الذي جاء في 190 صفحة من الحجم المتوسط، والذي جمع بين دفتيه مقدمة وثماني مقالات عميقة هي: “مرآة الغرب المنكسرة”، نقرأ ما جاء تحت العناوين: “اقتصاد بلا ضابط”، “باسم التاريخ”، “عقل من غير عقال”، “جسد بلا كابح”، “صورة تعمي وتضل”، “الديمقراطية في مهب المال والأعمال”، “التقنقراطي عماد منظومة الحداثة”، “العدو هم الآخرون”. يطرح المؤلف السؤال بالغ الأهمية: هل لا يزال الغرب يأتمر بفلسفة الأنوار؟ ومن خلال عناوين مقالات الكتاب نلاحظ أن أوريد يتوقف عند التحولات الكبرى التي شهدها العالم في العقود الأخيرة، وعلى رأس تلك التحولات التي رصدها المؤلف “العولمة” وتداعياتها وما سببته من أزمات على الصعيد العالمي. كما يتنبأ بسقوط هذا الغرب، بسلاح تلك العولمة التي ابتكرها، ويرى أنه لا يمكن “أن تعتبر الأزمة المالية والاقتصادية التي جثمت على العالم الغربي منذ 2008 حدثا عارضا. ليست إلا تجليا لأزمة أعمق تعتور العالم الغربي، ومن ثمة يطرح السؤال عن بنياته المفاهيمية. هل لا يزال الغرب يأتمر بفلسفة الأنوار التي جعلت غايتها تحرير الإنسان من كل أشكال القهر والاستغلال”. ويتساءل “ألم يخن الغرب نفسه؟”. هي أسئلة ليست قصرا على عالم الضاحية، بل هي في عمق تسائل الغرب عن ذاته وقيمته. أسئلة يطرحها الغرب. ليس فقط من خلال سجالات فكرية، وكتابات قد يراها البعض موضة الأفول، كلا، فالنقاش يعتور المجتمعات في أعماق أعماقها. ذلك أن شعورا من القلق يساور المجتمعات الغربية، وهذا القلق ينتقل بالضرورة إلى باحة الساحة العامة. ومع ذلك فالغرب ليس مفهوما جغرافيا بل حضاريا. شرائح واسعة من دول العالم الثالث تعيش حياتها وفق إيقاع الغرب ونظام عيشه، لا تعدو بلدانه أن تكون لديها فضاء جغرافيا.. فضاء معزول عما يحيط به. شرائح درست في مدارس الغرب، وتتأثر طرقه، وتجري حياتها على نظمه، وتفرض تصوراتها على مجتمعاتها وهي صاحبة القرار.. لقد أعطت العولمة زخما لهذه الشريحة، والتي أصبحت شريحة فوق وطنية. حملتها موجة مواتية، قبل أن تنكسر هاته الموجة وتتبدى مظاهر وهنها. ليست المسألة صورية، ولا حذلقة ذهنية لحشر الأنف في قضايا الآخرين.. فالآخر هو أقرب إلينا من حبل الوريد. هو جزء من “نحن”. وحسب المؤلف فإن “عشرين سنة على سقوط حائط برلين مرحلة كافية لإجراء قراءة متأنية للخيارات التي لوح بها أصحاب نظام السوق الجديدة، أو الليبرالية الجديدة، أو العولمة، بمسميات مختلفة في خطاب مهدوي أضحى متنا إيديولوجيا.. لقد انهار عالم المنظومة الشيوعية لأنه اختزل الإنسان في بعد ميكانيكي؟ ولكن أليس يقول نظام السوق بذات الشيء.. بطريقة اقل فظاظة مما كانت تفعله الأنظمة الشمولية. أليس الاختلاف في الدرجة لا في النوع؟ أليس يرهن مستقبل الأجيال المقبلة في سعيه المحموم للاستهلاك؟ ألم تقم الرأسمالية على علاقة ثنائية بين منتج ومستهلك صوريين يلتقيان من خلال السوق.. لا مكان لوازع التضامن، ولا مكان للطبيعة التي تُستنزف بلا إرعاء. إن الغرب واع بجموحه المادي وبمخاطر خياراته، مثلما تعبر عن ذلك قواه الحية وضميره الحي. يتوجب علينا والحالة هذه، معرفة متأنية متبصرة للآخر، وهو ما سعيت إليه في هذا الكتاب ببذلي لمادة قلما تتاح لقارئ اللغة العربية، ثم تتبع لسراديب العقل الغربي فيما يشكل جموحا بائنا وزيغا سافرا: في لهاثه وراء المادة، في تقديسه للنزوع العلمي أو العلموية، في جريه وراء اللذة، في عبادته للصورة، في داء النسيان أو الأمينزيا التي أصابته وأنسته قيمه”. سقوط جدار برلين يقر المؤلف أوريد أن تاريخ 9 نوفمبر 1989، أي سقوط جدار برلين، حينها لم يكن نهاية إيديولوجية فقط، إيديولوجية “طبعت الفكر والسياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية وأتت بتصور جديد للإنسان، وشكلت اكبر تحدي للنظام الرأسمالي واقترنت في وجدان الطبقات المحرومة والشعوب المهضومة بالعدالة الاجتماعية وبمفهوم جديد للتاريخ وللإنسان”. ويرى أوريد أن ذلك التاريخ كان أيضا “بداية لإيديولوجية جديدة خفية ومتغطرسة في ذات الوقت، لم تفصح قط عن بناء جديد، إذ تمسكت في دعواها بأسس النظام الليبرالي، وعمدت في ذات الوقت على نشر منظومتها في العالم باعتبارها الحل السحري لكل القضايا الاقتصادية والاجتماعية، بل والسياسية، وربطت بين تحرير الاقتصاد وبناء الديمقراطية، وعمدت إلى كل أساليب الإغراء، ووظفت في ذلك بريق الصورة وفتاوى المؤسسات الدولية المالية والبنكية.. بمسميات عدة”. كانت أوروبا الشرقية أولى ساحات تطبيق هذه الإيديولوجية من خلال وصفات اقتصادية ومالية، ثم بعدئذ طبقت في أمريكا اللاتينية، وأصبحت فيما بعد الوصفة لدول العالم، ومنها دول إفريقيا والعالم العربي.. وقد أفضت بادئ الأمر إلى اختلالات كبرى بتسريح العمال وإغلاق المعامل والاستغناء عن قطاعات صناعية بكاملها لم تقو على المنافسة، بله إلى بروز ظواهر جديدة طفيلية تسعى إلى الربح السريع، بكل الأشكال، وتهزأ بالقوانين والأخلاق.. كان عرابو هذه الإيديولوجية يعتبرون تلك الاهتزازات حدثا عابرا وجزءا مما كان يسمى وفق مصطلح مستقى من العلوم النفسية بالعلاج بالصدمة. ولم يكن بريق هذه الإيديولوجية ينبني على الوهم وحده، لقد كان لنتائجها في تحرير المبادلات، وفي توفير السلع، وبالأخص لدى بلدان عانت من الندرة ومن سلسلات انتظار التموين، ولمزاياها في تخفيض الأسعار مبررها وجزءا كبيرا من بريقها، مما حجب جوانبها السلبية، وعفا عن الدعاوي المنتقدة.. ذلك أن زحفها الكاسح لم يكن ليسمح للنداءات المنتقدة، أو على الأقل المميزة أن تُسمع، فضلا عن أن تتبع. تمييز بين الرأسماليات ومن الضروري ـ حسب المؤلف ـ أن “نميز بين الرأسمالية الصناعية والتي عرفت أوج أزمتها مع انهيار أسعار البورصة لسنة 1929، والسمة المميزة للرأسمالية الصناعية هي ثنائية التوسع والركود، والتي كان يعتقد أن نظام العرض والطلب من شأنه أن يضبطها. لقد أبنات أزمة 1929 على ضرورة تدخل الدولة لضبط إيقاع الإنتاج والاستهلاك. نميز بين هذه الرأسمالية والرأسمالية المالية التي تقوم بالأساس على المضاربات المالية، على اعتبار أن الرأسمالية الصناعية كانت تنتج السلع، وأن الرأسمالية المالية تنتج الأفكار ومعالجة المعلومات.. بيد أن هذه الأفكار إن هي في الغالب إلا بيع الوهم واستغلال معرفة دواليب المؤسسات المالية ورصد تحركات رؤوس الأموال”. لقد أضحت الليبرالية ـ حسب أوريد ـ “إنجيل الدبلوماسية الأمريكية وصندوق النقد الدولي المرتبط بها. أضحت نوعا من المهدوية ينشرها الحواريون في الآفاق، باسم توافق واشنطن. وكانت العقيدة الجديدة تقوم على مبادئ ثلاثة: التقشف في النفقات العمومية، وخوصصة القطاع العام، وتحرير المبادلات التجارية. وكان لهذه المبادئ ما يبررها، لأن الإنفاق بدون، عقلانية أسهم في عجز دائم لكثير من اقتصاديات دول أمريكا اللاتينية وإفريقيا، وكان لزاما والحالة هذه نوع من الانضباط، كما أن خوصصة كثير من القطاعات حرر الدولة من أعباء انقاد مؤسسات عاجزة، وصرفها إلى ما هي فيه أنجع وأقوم، وساهم تحرير المبادلات التجارية بتخفيض الرسوم الجمركية في خلق دينامية اقتصادية، أسهمت بدورها في إحداث مناصب شغل. لا مشاحة أن هذه المبادئ أتت أكلها، وبالأخص في سياق خاص اتسم بالاحتقان بسبب تدخل الدولة الكثيف في الاقتصاد، لكنها عوض أن تكون وسيلة، ومرتبطة بسياق خاص وظرفية معينة، أصبحت هذه الأسس هدفا في حد ذاتها، وأفضت في حالات عدة إلى نتائج عكسية”. ويرى المؤلف أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تعاملا مع الخوصصة “من منظور إيديولوجي، إذ كان على الدول المرتبطة به باتفاقات أن تخوصص وبسرعة، غير آبهة بضرورة تدرج المسلسل، لاعتبارات النجاعة، وغير آخذة بعين الاعتبار الانعكاسات الاجتماعية. ذلك أن أثرها السلبي على المستهلك والمستخدم كان بيّنا. فغالبا ما صاحبت موجة الخوصصة سلسلة من التسريحات، وكان لهذه التسريحات أثرها السيء في الدول التي ليس لها نظام على البطالة، وأفرزت هذه التسريحات، حتى بالنسبة للذين أبقى عليهم شعور القلق الناتج عن عدم ضمان الشغل، مع ما ينتج عن هذه التسريحات من مضاعفات اجتماعية خطرة. وما كان للشركات الأجنبية التي حلت محل القطاع العام، في كثير من الدول، أن تراعي العبء الاجتماعي للخوصصة. كان همها الربح، وبسرعة. لم تندرج الخوصصة في سياق ماكرو اقتصادي، يعمد إلى إحداث مناصب شغل عوض تلك التي تزيحها الخوصصة، وبتعبير أدق، لم تخضع الخوصصة في كثير من البلدان إلى أجرأة. كما لو أن هم هذه الدول هو التخلص من مؤسسات عاجزة، في أقرب وقت، وبأي ثمن. كان هذا هو العيب الآخر الذي اقترن بالخوصصة. لقد كان من الأدبيات التي رفعها صندوق النقد الدولي لانتقاد عجز المؤسسات العمومية هو اعتمادها على اقتصاد الريع الذي يستفيد منه فئة من البيروقراطيين والنافذين، وقد أضحت محاربة اقتصاديات الريع، شعارا قويا رفعه الخطاب الرسمي لكثير من الدول المرتبطة بالليبرالية الجديدة كرد صدى لأدبيات صندوق النقد الدولي. بيد أنه من الناحية العملية، أفضت سلسلة خوصصة مؤسسات الدولة إلى تمريرها بأدنى بكثير من قيمتها الحقيقية، ولم تسلم هذه العمليات في كثير من الحالات وفي كثير من الدول، من عمولات ورشاوى لفائدة النافذين وأصحاب القرار الاقتصادي. انكشافات شرق آسيا وتحت عنوان “الفاكهة ينخرها الدود”، كتب حسن أوريد منتقدا العولمة بقوله “تبدت النجاحات الأولى للعولمة عن محدوديتها حينما عصفت أزمات مالية في نهاية تسعينيات القرن الماضي في دول شرق آسيا بكوريا وإندونيسيا وتايلاند، وتميزت بالنسبة لإندونيسيا بموجة احتجاجات شعبية عارمة، ذات انعكاسات سياسية حينما أطاحت بنظام الديكتاتور سوهارتو. وانتقلت الأزمة إلى روسيا، ثم إلى البرازيل. ولم تكن الأزمة في روسيا شأنا اقتصاديا فحسب، على اعتبار أن روسيا كانت معقل النموذج الشيوعي، وكل فشل في تطبيق النظام الرأسمالي يعيد للشيوعية وهجها، هذا فضلا عن أن روسيا قوة نووية.. لم تتوار موجة الاحتجاجات، في سياتل وبراغ والبندقية، ثم فيما بعد حينما استفحلت الأزمة في لندن وفي اليونان... لم تكن هذه الاحتجاجات عابرة رغم أن الإعلام حاول التقليل منها، بل كانت تندد بمنحى بنيوي، وهي التي أجملها ستكليز في عبارة “الفاكهة ينخرها الدود”، ومما يعطي لتشخيص ستيكليز أهميته أنه ظهر قبل أن تلقي الأزمة بثقلها، وانه رصد إرهاصاتها في الوقت الذي كانت العولمة عبارة عن عقيدة، او حقيقة من حقائق السوق، كما يقول الفيلسوف الإنجليزي فرنسيس بيكون، أي حقيقة مسلم بها، ولا يعتورها الشك، ولا تتعرض للمساءلة. أهم ما يميز الرأسمالية الجديدة هو المد ذاته القائم على فقاقيع مضللة، إذ لا علاقة للأصول ولا للأسهم مع القيمة الحقيقية، وهي سمة تطبع النظام الرأسمالي. بيد أن ما يميزها في صيغتها الحالية هو بعدها الكوني وآثارها الشاملة والمتداخلة، هذا فضلا عن غياب أي جهاز للحد من جموح الفقاقيع، أو ما كان مفترضا أن تقوم به الخزينة الفيدرالية. واستشرى في غياب أي ضابط، وأي مؤسسة للحد من غلواء الفقاقيع ما يسميه الاقتصادي ستكليز بفورة لا عقلانية، إذ يراهن المستثمر والمستهلك عموما على ازدياد الأرباح في مد تصاعدي، كما لو أن هذا المد ميكانيكي بطبيعته ولا ينبني على قيمة حقيقة للسلعة”. تضليل التكنولوجيا في مقاله العميق “صورة تعمي وتضل”، يقول أوريد مفتتحا مقاله “كان يبدو أن عالم 1984 الذي صوره جورج أورويل في روايته التي تحمل ذات العنوان غلو في التصوير ومبالغة في التحليل، حيث صورة الأخ الأكبر تتعقبك في كل آن ومكان. لا مكان للحميمية ولا للذاتية في عالم شمولية 1984، الذي هو صورة للشموليات الشيوعية. ولكن الأخ الأكبر الذي يسكن الشاشة ويصعد النظر ويصوبه حقيقة المجتمعات الليبرالية “الحرة” كذلك. هو حقيقة اليوم أكثر من ذي قبل. هو أقوى بفضل التكنولوجيا، وهو اشد مراسا بفضل انصياع الجموع التي تقبل هيمنته راضية مرضية. شمولية الرأسمالية، وهو في صيغة العولمة انخراط لا يحتاج إلى قسر أو زجر، بفضل الإعلام والصورة والشاشة والشبكة. لا تحتاج شمولية الرأسمال إلى اجتماعات يوم الأحد على الساحة الكبرى، ولا لصورة الدوتشي من الشرفة يجأر بخطبه العصماء، ولا تحتاج إلى بروباغاندا غوبلز، أو تحية الفوهرر التي تلهب الجماهير، ولا المركزية الديمقراطية للمكاتب المركزية أو تنظيمات الكومسمول التي تؤطر الشبيبة الشيوعية.. الاكتتاب في الجرائد بالمجتمعات الرأسمالية عملية أوتوماتيكية يقوم بها المواطن المستهلك، الذي يرقب تقلبات الأسعار وعمليات التخفيضات ومساحات الإشهار وصفحات الترفيه وجديد المطبخ. وفي ثنايا هذه السلع وتلك العروض المغرية خبر ما عن فيضانات في بنغلادش وفي مكان آخر زلزال في غواتيمالا وأسفل الصفحة حصار في الضفة الغربية بين إشهارين، وجديد نجم من نجوم الرياضة أو السينما. والتلفزيون عالم تزجية الوقت، بل السَّمير في مجتمعات فردية مجزاة، يصحبك حتى في المنام، ينموك ويدك ماسكة آلة التحكم عن بعد. وقبل أن ينومك يحشوك بما يريد من إغراءات السوق والإعلانات، وحقيقة العالم كما يريدك أن تراه. ليس لك أن ترى ما يختبئ وراء الكواليس ولا القوى الرابضة وراءها.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©