الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الإبلاغ والبلاغة

الإبلاغ والبلاغة
12 مارس 2013 20:46
قدّم معرض «25 عاماً من الإبداع العربي» بانوراما عامة للثقافة الفنية التي تشهدها ساحة التشكيل والنحت والفوتوغراف ووسائل الفن التركيبي العربي ضمن رؤية متعددة وليست أحادية، وهذا ما سنتحدث عنه من خلال مشاهدتنا لهذا المعرض الذي يقدم آفاق التحول الثقافي والفني العربي. لنقل منذ البداية إن هناك اتجاهين في تقديم الفن، وهما أولاً المونوفونية “الأحادية الصوت”، والبوليفونية “تعدد الأصوات ووجهات النظر”، وهذان المصطلحان قد اشتقا من الموسيقى، حيث ينفرد صوت آلة واحدة بالعمل الفني، فيقدمه من وجهة واحدة، وقد تتجاور الأصوات لتقدم لحناً مشتركاً تتعالق فيها مع بعضها، وفي هذا الأخير ليس ثمة سلطة لصوت على الآخر، وهو أشبه بما سمي فيما بعد بتعدد العناصر في البنية، حيث لا عنصر يتسيَّد الآخر، وانتقل هذا التصور الاصطلاحي على يد “باختين” إلى قراءة أصوات الرواية، حين اتخذ من أعمال دستوفيسكي مجالاً في تطبيق المصطلح الثاني “البوليفونية/ الأصوات المتعددة”، وبخاصة في روايته “الأخوة كرامازوف”، حيث كان دمستوفيسكي يشتغل على حالة التواتر في السرد “،أي سرد ما حدث مرة واحدة لأكثر من مرة أي من وجهات نظر متعددة”. هذه المفاهيم المبسطة انتقلت بشكل أو بآخر إلى حقول فنية أخرى، وبخاصة الفن التشكيلي، إذ رأينا أعمالاً تشكيلية مختلفة لفنانين مختلفين يلتقون ليقدموا قراءاتهم الذاتية والموضوعية للعالم، بأساليب فنية متعددة، وبهذا المنطق تشكلت تجمعات فنية ضمن حقول متجاورة، وأقيمت معارض للفن التشكيلي وأخرى للتشكيل مع النحت مع الفوتوغراف، مع الفن المفاهيمي والتركيبي، وبذلك أصبحت مع البعض حزمة أشبه بالحزمة الصوتية في الموسيقى، ليس لأحدها هيمنة أو سلطة على الأخرى، من خلال كل ذلك لم نفاجأ بأن يجتمع 46 فناناً عربياً، منهم 12 فناناً إماراتياً في معرض “25 عاماً من الإبداع العربي” ضمن مرجان أبوظبي الذي تقيمه مجموعة أبوظبي للثقافة والفنون، والذي يقام الآن في قصر الإمارات بأبوظبي. جماليات الهوية من جانب آخر، وقبل أن نبدأ رحلتنا في هذا المعرض البوليفوني المتعدد الأصوات، لا بد من الإشارة إلى أن 10 فنانين إماراتيين اجتمعوا في جناح خاص داخل المعرض أطلق عليه “جماليات الهوية” والذي يسلط الضوء على الفضاء الفني المفتوح على أبعاد إبداعية لا حدود لها لتمثيل البيئة المحلية بغناها وثرائها وجمالياتها الكثيرة في محاولة جادة لتخليد البيئة المحلية في الذاكرة والتاريخ، حيث يعتبر تقديم الأعمال الإماراتية ضمن المعرض بشكل خاص احتضاناً متميزاً من قبل “مجموعة أبوظبي” للتعريف بتجاربهم عالمياً. والفنانون العشرة الذين تجمعوا في “جماليات الهوية” هم: نجاة مكي، ومحمد الأستاد، ومطر بن لاحج، وجلال لقمان، وعزة القبيسي، وميثا دميثان، وسمية السويدي، وحمدان الشامسي، وشمسة العميرة، ودانة المزروعي. وانضمت فنانتان إماراتيتان، وهما ابتسام عبدالعزيز، وكريمة الشوملي، إلى مجموعة الفنانين العرب الآخرين ومنهم أروى أبو عون، وأرمن أجوب، ويوسف أحمد، وبسمة الشريف، وأيمن بعلبكي، وماحي بنبين، ودوريس بيطار، وغيرهم، حيث وصل عددهم إلى 34 فناناً عربياً من بلدان عربية متعددة «سوريا، والعراق، ومصر، والمغرب، والجزائر، والبحرين، والكويت، ولبنان، وعمان. وبالفعل يمكن وصف هذا التجمع بالمشهد العربي المعاصر الذي لا حدود جغرافية له، ولا رؤية أحادية تهيمن عليه، وهذا بالتحديد أحد أهداف الفن بمعناه الجمالي، هذا بالإضافة إلى اختلاف المواد التي اشتغل عليها الفنانون، ما بين الزيت، والحديد والبرونز، والفوتوغراف، والفولاذ والوسائط المتعددة من ورق ولحاء النخيل والفن التركيب، من الأقمشة المطرزة والخشب، والكاوتشوك والزجاج والكولاج من القماش والفيديو التفاعلي. أسئلة ومفاهيم ونتساءل: هل تخلى الرسام عن كونه رساماً؟ وهل تخلى المصور عن كونه مصوراً؟ وهل تخلى النحات عن كونه نحاتاً؟ وأجيب، أعتقد أنهم جميعاً قد تخلوا عن المفاهيم الأولى للرسم والتصوير والنحت، وأصبح الرسام متخيلاً والمصور تركيبياً، والنحات رؤيوياً، أي لا واقعية محضة يمكن أن تدهش المتلقي حتى في الفوتوغراف لأن أهم ما يطمح إليه ذاك المتلقي هو البحث عن موقف في المطمور التعبيري في اللامعنى، في المخفي، في الاستعارة التي تعبر عن ما يريد التصريح به هو في الواقع، فلم يستطع. بداية التجديد يثير عنوان المعرض “25 عاماً من الإبداع العربي” التساؤلات وأهمها لماذا 25 عاماً؟ ويجيب فيرونيك ريفيل في مقالته المتصدرة لكتيب المعرض والمعنونة “2012 ـ 1987: نحو نهضة فنية عربية”، ويقول: “إن عام 1987 شهد إنشاء مؤسسة غير مألوفة لا سابق لها، وهي معهد العالم العربي في باريس الذي استطاع أن يفرض نفسه على الواقع وصار فضاء لا غنى عنه لاكتشاف وفهم ثقافات وبلدان عربية”. وبمناسبة عامها الخامس والعشرين أقامت هذا المعرض الذي انتقل إلى أبوظبي عبر مهرجان أبوظبي عام 2013. ويبدو لي أن هذه المساحة الزمنية غير كافية أن تعبر عن فنون العالم العربي كله إذ ينطوي هذا التحديد على قسرية في لوي عنق الموضوعة التي ارتبطت بإنشاء المعهد لا بانطلاقة الفن وتحولاته، ولو افترضنا جدلاً ـ كما جاء في مقدمة ريفيل ـ أن الفترة الزمنية الحقة تبدأ منذ عام 1993 التي ابتدأت بحرب الخليج الثانية التي زعزعت وأربكت العلاقة بين الغرب والشرق، إذ لم يكن عام 1987 هو العام المميز في تاريخ العالم العربي، ولم تتخلق في هذا العام أي تحولات لا على مستوى الفكر ولا على مستوى الواقع، ولو حسبنا الفترة منذ عام 1993 حتى عام 2013 لوجدناها 20 عاماً ولم تكن ربع قرن كما جاء في مقدمة ريفيل وهذا تجاوز على تاريخ الحدث وتأثيره في الفن. أعتقد أننا يمكن أن نقرأ هذا التكوين 1987 على أنه استشراف فني لما سيحصل ـ وهذه طبيعة الفن المستقبلي الذي يمثل الحداثة بكل تشكلاتها ـ ودليلنا على ذلك ما كتبه جاك لندن في روايته العقب الحديدية، حيث استشرف المستقبل بانطلاقة ثورة 1917 البلشفية، وهذا يذكرنا أيضاً بما كتبه الروائي العراقي مهدي عيسى الصقر، عندما استشرف المستقبل فكتب روايته “الشاهدة والزنجي” عام 1980 وتوقع فيها احتلال العراق من قبل الأميركان. تلك هي قراءة التكوين 1987 الاستشرافية لا الواقعية التي تقود إلى السبب في إنشاء معهد العالم العربي في باريس. تأملات في الشكل قدّم الفنانون الإماراتيون قراءة لجماليات الهوية، وقد تساءلوا معاً حول تشكلاتها وبأي طريقة يمكن أن نعبر عنها وبذلك نقرأ عناصر البحر، وزمنية مطر بن لاحج وتمرد وصراخ شخوص جلال لقمان، والبعد الرمزي للون عند نجاة مكي في اللوحة واشتغالات عزة القبيسي على سعف النخيل ضمن جماليات الفن الذي يغمر المتلقي، وأنثوية سمية السويدي بكامل رقتها 2012 ضمن أحاسيس تحول الفوتوغراف إلى صيغة عليا للمشاعر الحرة، ومزاج حمدان بطي الشامسي بخامات متعددة رقمية يعتمد عنصرين تأويليين، الأول يشير إلى “السمو” والثاني يشير إلى “الضجيج”، إذ يميل الأول “السمو” إلى التجلي الذاتي للفرد بطموحه الذي يصل إلى الغيوم، بينما يحيل الثاني “الضجيج ـ المزاج” إلى الدوار الذي يعصف بالفرد في عالم ضاج. صنعت عزة القبيسي في “كرسي” 2012 ومن سعف النخيل وجزء من مجموعة الكرب كرسياً، وبذلك أعادت هيكلة الأشياء، وقدمت رؤيتها الفنية بالمهمل والعادي والمألوف ليصبح لا مألوفاً من خلال شعرية الشكل والوسيط. في التأكيد على “البحث عن الهوية”. حاولت شمسة العميرة أن تقدم في “انتشار الضوء” المكون من الغرانيت والزيت على الخشب صياغة مختلفة لماهية الضوء وعلاقته بالمهرجين المتطفلين. وتجاورها في رؤيتها الفلسفية الفنانة دانة المزروعي التي تجد في لوحتها “انعكاس”، وهي رسم بالزيت بتقنية ثلاثية الأبعاد رؤية الأشياء عبر جماليات الانعكاس وإمكانية النظر واكتشاف جماليات العمارة في أبوظبي لا بالمعنى الواقعي الصرف، ولكن بالطريقة التأملية للشكل. من جانبها قدمت نجاة مكي في “بلا عنوان” 2011 وبالخامات المتعددة والزيت على القماش امتزاجاً متعدد الجوانب، تعبيراً على رموز كثيرة اكتنفت لوحتها مستغلة كل إمكانات الميديا والورق واللون، ومن رموزها الحمامة والصرح المعماري والصحيفة، التي تنقل بتعبيرية ورمزية واضحة زمان ومكان حدث اللوحة. ونقرأ في “أثر الابتسامة” لجلال لقمان إيحاء العمل الدافنشي على روح الفنان المعاصر الذي يقدم نسخة عربية لذات المرأة الكلاسيكية “الموناليزا” مستخدماً الباب الشرقي رمزاً. ونقف عند العمل الاستانليس ستيل لمطر بن لاحج والمسمى “الأعمق والأسرع” ولنشاهد الحركة والريح من خلال جسد يخترق الآن إلى المستقبل. ويقدم محمد الاستاد صناعة البحر والشاطئ الذي يرسم لنا لوحته في “منتصف الليل” المكونة من صدأ الحديد على الزيت فوق القماش ونتساءل هنا من هو الصانع؟ في الفن العربي يقدم السعودي سامي التركي في عمله “ركض” بالفيديو فلسفته في الحياة منذ وجودنا فيها تمثلاً لمقولة يونج “ستجد مصيرك على الدرب الذي اخترته للهرب منه”. ويشتغل المصري عادل السيوي في عمله بالوسائط المتعددة على القماش “حراس الماء” على علاقة الماء بالحياة حتى جذع الشجرة الذي خرج منه وجه امرأة ريفية مصرية شبيهة بالشجرة حين تنقل الماء إلى الحياة. في “برقع” قدمت كريمة الشوملي بالإكرليك على القماش معنى الشكل الرمزي للبرقع في ذهن الآخر - كما تقول - وكأنها تتساءل لماذا نضع البرقع - بوصفه قناعاً خفياً - في عالمنا الراهن؟ المظلم والمضيء حاولت السعودية جوهرة آل سعود في فوتوغرافيتها الرقمية “عقد” ان تقيم حواراً مع العمارة الإسلامية مستفيدة من التصوير والرسم ضمن جدليات المظلم والمضيء والخاص والعام. أما عمل تمارا السامرائي والمعنون “سند” 2009 وهو تركيب فيديو على قماش لست وعشرين ثانية، فهو قراءة لفكرة الغياب، حيث يصبح قوة فاعلة - بحسب رولان بارت ـ كما ترى السامرائي، وكذلك في عملها الثاني “حائط”. يشتغل المغربي زكريا محاني في “وجوه الأرض”، بالألوان الزيتية على القماش حول فكرة تجاور الآخرين في ذهن الآخر، أما الفنان إدريس وضاحي في “لا عودة” الذي نفذ بالألوان الزيتية على القماش فقد قدم الكثافة التصويرية للمكان واللامكان. من جانبه قدم العراقي محمود عبيدي في فيديو “أزياء” مفاهيمية بالرغم من أنه لا يريد تصنيف أعماله، ويقر بأن أعماله تعكس حالات الحرب والتشرد وفقدان الهوية. وفي مطبوعتها الفوتوغرافية «رقصة صوفية» تقدم المغربية ناجية محاجي رقصة الدراويش بشكل رمزي مغاير لما هو واقعي، حيث تربط حركة الدرويش بالتفاف الروح والبدن والحياة والموت والأرض والكون. ويتجلى الفنان العُماني حسين مير بمجموعته روحانيات وهي ثلاث صور فوتوغرافية بكل ما هو جمالي مرتبط بعالم الأحلام، أما السعودي أحمد ماطر ففي صوره الفوتوغرافية الرقمية الأربعة “مغنطة 1، 2، 3، 4” يمزج بين الرمز والواقع، بل يحيل الواقع إلى رمز عبر علاقة جدلية وثنائية تجانسية بين دوران الأجساد حول الكعبة مثلما تدور برادة الحديد حول المغناطيس بذلك الانجذاب البدني الخلاق نحو مركز كوني. من جانبه اشتغل المصري عصام معروف في لوحته “بدون عنوان” بالإكلرليك على القماش بمفاهيم تجريدية. كذلك البحرينية وحيدة مال الله والسعودية مها ملوح والعراقي صادق كويش الفراجيو فإنهم قدموا رؤاهم التي لا تتقاطع ضمن ثقافة ذاتية وبيئية منفصلة. عشرات من الفنانين العراقي نديم كوفي، والفلسطيني نيسان قسنطيني، والليبية أروى أبو عون في “المطر رحمة”، والمصرية آرمن آجوب في “تمثال من حجر الغرانيت”، والقطري يوسف أحمد في فجر الصحراء، والكويتية بسمة الشريف في “بدون عنوان”، واللبناني أيمن بعلبكي في “كلام فارغ” وهو عمل تركيبي يتكون من الأقمشة المطرزة، والمغربي ماحي بنبين في “الرجل على العمود» من البرونز وأعماله الأخرى التي تقدم تنويعات على ذات الموضوع، والعراقية دوريس البيطار في “عروس بغدادية”، والسوري صفوان داحول في “حلم” نجد جميع هؤلاء الفنانين قد أبصروا العالم تخيلياً وليس واقعياً. ويقرأ السعودي عبدالناصر غارم في عمله النحتي “ختم إن شاء الله” من الخشب والكاوتشوك قراءة واعية للعالم. ونقف عند السوداني محمد عمر خليل في لوحته “فاس” وهي من الألوان الزيتية والكولاج على القماش التي قدم فيها غموض وفسيفساء وزخرفة مدينة فاس المغربية. إنه معرض يمثل رؤية بانورامية لفن جديد في عالمنا العربي.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©