الجمعة 19 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الشعر على تخوم الفلسفة

الشعر على تخوم الفلسفة
4 ابريل 2018 03:59
كل قارئ لشعر الهايكو يدرك بوضوح وجود بنية فكرية خاصة ومتميزة أدت إلى ولادة هذا الشعر المتفرد في شكله ومواضيعه. ومن يقرأ قليلاً في تاريخ الهايكو سيكتشف التأثير الكبير لتراث فلسفة الزن التأملي على هذا الشكل الشعري. لهذا من الضرورة التعريف بالزن قبل الدخول إلى عالم الهايكو. حسب أحد مفسري فلسفة الزن Zen فإن تعريف الزن من خلال بضعة جمل أو فقرات أو حتى كتاب كامل أمر مستحيل. إن أي تعريف سوف يحدد الزن بإطار زماني ومكاني مما يضعف معنى الزن ذاته، بل يذهب إلى القول إن تفسير الزن يشبه من يفسر طعم العسل لشخص لم يذقه من قبل. عليك أن تتذوق العسل حتى تعرف طعمه، وذات الأمر بالنسبة للزن، عليك أن تمارسه حتى تدرك ماهيته. في مقالنا هذا سنتعرف على علاقة الزن بالفنون وخاصة شعر الهايكو. الزن: الفراغ العظيم في الإطار العام فإن الزن هو ممارسة تأملية بوذية تم تطويرها في اليابان، وتعود في أصلها إلى مدرسة ماهايانا البوذية في الصين. عُرف الزن في عهد أسرة أو امبراطورية تانغ التي ازدهرت في الصين بين القرنين السابع والثامن للميلاد. وقد ظهرت ممارسات الزن من تمازج الممارسة التأملية البوذية والتعاليم التاوية. إن الزن البوذي طريقة ونظرة إلى الحياة. ويشير الفيلسوف الأميركي آلان واتس في كتابة «طريق الزن «، أن الزن ليس دين أو فلسفة وهو ليس علم نفس أو أي نوع من العلوم. هو ما يعرف في الهند والصين «بطريق للتحرر». وهو هنا شبيه بالممارسات التاوية واليوغا. إنه ممارسة تدور حولها وتفسرها الفلسفة أو الممارسات التعبدية البوذية أو التدينية الهندوسية. من أهم مبادئ الزن «التجربة» و»الممارسة» وليس الفلسفة النظرية. يجب الجلوس والتأمل في الزن لهذا فالتجربة العملية هي طريق الزن الوحيد. من مبادئ الزن كذلك طريقة التعامل مع الذهن والتفكير. يطمح من يمارس الزن للوصول إلى ذهن صافٍ «لا يفكر»، إلى حالة من الفراغ أو النقاء الذهني التام. هذا يعني ألا نربط تفكيرنا بشعور ما أو عاطفة أو أحاسيس أو ردة فعل أو إطلاق حكم أو تقييم ما على فكرة أو شخص أو حدث، بهذا فهم يتحدثون عما يسمونه «الفراغ العظيم». أحد أهم ممارسة في الزن هو الوعي والحضور في اللحظة الحاضرة. أن تكون على وعي بمكان وجودك، وفي كل لحظة. هذا ما يطلق عليه في التأمل الشرقي «الاستغراق الفكري التام» وهي هنا ترجمة اصطلاحية فقط للمفردة الإنجليزية Mindfulness هدفهم من ذلك نقل التجربة التأملية إلى كل تصرفاتنا اليومية، أن تكون على وعي بكل حركة وبكل لحظة. هذا يؤدي إلى الجودة في كل عمل نقوم به وإلى الاستقرار النفسي وبالتالي إلى السعادة. الهدف الأقصى لممارسة الزن هو بلوغ الاستنارة Enlightenment، وبالمصطلح الياباني ساتوري Saturi. إن هذه الحالة التي يصل إليها المتأمل بعد تجارب طويلة في العزلة تعني الرحلة الداخلية واكتشاف جوهرك الحقيقي والاستيقاظ على وحدانية وجودك مع الكون. هي توحد صوفي مع الوجود، كل شيء يتحول نحو الفراغ، تختفي الأفكار والشخصية والمشاعر، وتتلاشى أنت في الطاقة الكونية. الاستنارة، في عمقها، حالة ذهنية طبيعية، إلا أنه تحجبها عنا سحب المشاعر والأفكار التي تغطي سماء تفكيرنا. الوصول إلى هذه الحالة، حالة الاستنارة، يعني حالة من الانسجام والتوازن التام بين الذهن والجسد والعالم. الزن والفنون ما أن ولج الزن الحياة اليابانية حتى وجدنا أثره البالغ في الحياة الاجتماعية والثقافية، وسرعان ما أصبح جزءاً هاما من الهوية الجمالية والروحية اليابانية. فخلال عمل الأدباء والفنانين بدأت القيم الأخلاقية والروحية للزن تتسلل إلى ممارساتهم. لوحظ هذا في كل الأشكال الفنية مثل الشعر والرسم والخط وحتى تقاليد احتفال الشاي وتنسيق الزهور والحدائق والرياضات الحربية كفنون الساموراي والإيكيدو وغيرها. نمت هذه الفنون وتطورت بالاعتماد على المبادئ الأساسية للزن والتي تتمحور على السكون والبساطة والإتقان والتركيز والتنمية الروحية الذاتية. ولادة الهايكو ظهر شعر الهايكو الكلاسيكي الياباني الشهير في الأصل على يد شعراء، من خلال ممارستهم للتأمل بطريقة الزن، وذلك في فترة (إيدو) وبالتحديد بين 1615 و1868. إنها فترة ازدهار في شتى مجالات الحياة اليابانية، فقد ازدهرت الفنون وانتشرت الكتابات بصعود وبروز طبقة وسطى في المجتمع الياباني. عمل التجار في المدن اليابانية على الاستثمار في أنواع شتى من الفنون وانتشرت المدارس الفنية والأدبية. خلال هذه النهضة ازدهر فن شعر الهايكو بين الشباب وبين التجار والحرفيين، وكان هناك اهتمام بالقراءة والكتابة وصناعة الكتب الأمر الذي كان مقتصراً على الطبقة الغنية قبل هذه المرحلة. ارتبط شعر الهايكو على وجه الخصوص بالصمت وبالأجواء المفتوحة والترحال وكان ذلك بتأثير من الشاعر ماتسو باشو (1644 ـ 1694) على وجه الخصوص. يعد ماتسو باشو أحد أهم رواد الهايكو بل إنه هو من ولد على يده الشكل الأخير للهايكو بعد مرور هذا الشعر بعدة أشكال سابقة له. ولد باشو في إحدى القرى بالقرب من بحيرة بيوا في كيوتو، وبدأ اهتماماً مبكراً بالأدب. حين انتقل إلى كيوتو درس الشعر والأدب مع شاعر معروف يدعى كيغين. في تلك السنوات انكب باشو على دراسة الشعر الصيني والتاوية وبدأ في كتابة الشعر. بعدها انتقل إلى إدو، وهي حالياً جزء من طوكيو، حيث تأثر بالحياة الأدبية التي كانت مزدهرة هناك. قدم باشو وشعراء آخرون لغة شعرية جديدة. إنها لغة «عادية» بمقابل شعر تلك الفترة الذي كان يركز على الإيقاع والمفردات المنتقاة والمواضيع الفكرية والنفسية. تطور شعر الهايكو من شعر أقدم منه يسمى الرينغا، وهو شعر شعبي شائع يستخدم في تجمعات الطبقة الوسطى، وعادة ما يتم تأليفه بارتجال المقاطع حين تجتمع مجموعه للاحتفال والسمر. وفي العادة يأتي بعض الشعراء بمجموعة من المقاطع ويسمى هذا النوع «هوكو» إلى التجمع وكل واحد منهم يتمنى أن يتم اختيار المقطع الذي ألفه للبدء في تأليف القصيدة الجماعية. يتم اختيار مقطع واحد لشاعر واحد وتهمل بقية المقاطع. وقد شاع أن المقاطع المهملة هي التي شكلت بعد ذلك شعر الهايكو. بدأ الهايكو بالانتشار في القرن الخامس عشر على يد مجموعة من المتعلمين من الطبقة الوسطى ممن سعوا للعب دور في الحياة الأدبية الصاعدة حينها. كان تعاطي الأدب وقتها مقتصراً على الطبقة الغنية والأرستقراطية. مع بروز الطبقة الوسطى ظهر شعراء يكتبون أشكالاً شعرية متخلصة من الشعر «الرفيع» أو «السامي» كما يقول الكاتب أندرو شيلينغ. ظهر الهايكو من خلال استخدام اللغة اليومية الاعتيادية والمباشرة مع دفقة شعرية تظهر في الموضوع والإيجاز والصورة الشعرية. إنه شعر لا يشبه ما كان سائداً في القصور والمحافل الأدبية الرسمية، شعر يتحدث عن أشجار وضفادع وغربان، عن أشخاص يتأملون الطبيعة في عزلة وتوحد.    تأملات شعرية يوجد ارتباط عميق بين ما يقوم به شاعر الهايكو وبين التأمل في الزن. تعتمد تمارين الزن على تركيز المتأمل في حال اللحظة الحاضرة وهذا يشابه تأمل شاعر الهايكو في الحظة الشعرية. حين يكتب باشو: بحيرة قديمة ضفدع يقفز صوت الماء. فإنه يقدم حالة من السكون والتوحد مع الطبيعة. مع قفزة الضفدع يضطرب السكون ويُسمع صوت الماء، هناك أمر ما يحدث الآن. هذه الملاحظة التأملية للشاعر هي لحظة استنارة، أو (ساتوري) وهي هدف الزن، الوصول إلى الاستنارة. لنتأمل هذا المقطع لباشو أيضاً: فوق الغصن العاري من الورق يأتي غرابٌ ليستريح حلول ظلام ليلة خريفية. يصل غراب إلى الغصن ويقف، أين صوت خفق الجناحين؟ أين لهاث الطائر؟ لا نسمع أي صوتٍ هنا، إلا أنه من عمق هذا الصمت تشع شرارة الشعر في ظلام الليل فتستنير روح الشاعر. هذا ما يبحث عنه متأمل الزن في عمق اللحظة الحاضرة، التي يحوّلها من ليلة خريف عابر إلى ليلة أبدية. هناك شيء لا يمكن أن يُنسى في هذه الصورة/ اللحظة حتى بعد أن تصمت الكلمات. لهذا يمتلك شعر الهايكو ذلك السر الذي يتحدث عنه الزن. السر الذي لا يمكن التعبير عنه إلا بالهايكو أو بالتأمل الزنِّي. من خلال تأمل صورة الغراب، وتأمل التفاصيل المرتبطة بتحليقه في ظلام الليلة الخريفية، وتأمل ذلك الفراغ العظيم للظلام، يمكن لنا رؤية كيف تتميز قصيدة الهايكو. إنها مختصرة جداً ومجردة، تكتنز بالضوء، تاركة تأثيراً يشبه السحر. من المهم توضيح أن كل قصيدة هايكو تأتي بتأثير فصل من فصول السنة. هذه العلاقة مع الطبيعة تكشف أحد مبادئ الفلسفة البوذية التي تركز على مبدأ التغير والتحول في الحياة. لا شيء ثابت، والكون في حال تغيّر مستمر. إن الحياة بالنسبة لشاعر الهايكو أو ممارس الزن «عالم عابر». لمعان الشعر في الهايكو هو «مجازات مفتوحة» لحالاتنا الإنسانية بتعبير مارتن لوكاس. إنها تقدم فرصة للتحديق في حالاتنا دون زخرفة وفذلكة شعرية. يتيح لنا شعر الهايكو تقبل تلك الحالات بإحساس من البهجة الداخلية. اللحظات التي يصطادها شاعر الهايكو تقدم لنا «علاجاً وجودياً» ومشاركة «شعورية» بين الشاعر والمتلقي، كما يفسر الناقد كين جونز. إلا أنها، كما يرى، لحظات تتركنا معلقين في «فراغ» ما، فراغ يترك للقارئ حرية أن يملأه بالمعنى، ومع هذا، تترك صور الهايكو فينا شعوراً بأصالة اللحظة وقوة تأثيرها على مشاعرنا.      أصل كلمة (زن) اليابانية هي المقابل لكلمة (تشان) Chan الصينية والتي تعود في أصلها إلى الكلمة السنسكريتية ديهاينا (Dhayana) والتي تعني التأمل Meditation، وبالرغم من أن الزن مورس ضمن الشعائر البوذية فإنه غير مرتبط بديانة ما وهو ليس تعبداً ولا يرتبط بشعائر تدينية خاصة. بهذا الاعتبار يتقاطع مع الممارسات التأملية في كل الديانات تقريباً. إلا أننا تاريخياً يمكن لنا ربطه بالتراث التأملي الغني في الثقافة الهندية والصينية. كما يجدر الإشارة إلى ارتباطه بالثقافة الصينية أكثر منه بالهندية، ومنذ القرن الثاني عشر الميلادي وجدنا هذه الممارسة تتجذر في الثقافة اليابانية. مطر وثلج وعنكبوت شعر: ماتسو باشو بحيرة قديمة ضفدع يقفز صوت الماء. فوق الغصن العاري من الورق يأتي غرابٌ ليستريح حلول ظلام ليلة خريفية. ضوء قمر الخريف دودة تحفر بصمتٍ في شجرة الكستناء. في مطر الفجر نبتة الكركديه الملونة ببراعة كغروب جميل. شعر: يوسا بوسون أقطع نهراً صيفيا كم هو رائعٌ والنعال بين يدي. ضوء القمر يتحرك غرباً، ظلالُ الأزهار تزحف تجاه الشرق. في ضوء القمر لون وشذى نبتة الويستيريا تبدو بعيدة جداً. شعر: ماساوكا شيكي بعد أن قتلت عنكبوتاً، كم أشعر بالوحدة في برد هذا الليل. قرية جبلية تحت ركام الثلوج صوت الماء. الليل، ومرة أخرى، بينما أنتظرك، الرياح الباردة، تتحول إلى مطر. نهر الصيف، على الرغم من وجود جسر، حصاني يقطع الماء. برقٌ يلمع: بين أشجار الغابة رأيتُ الماء. ترجمة: خ. ب.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©