السبت 20 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

«الوَزن» جعل المسرح الشّعري العربي بلا وَزن

«الوَزن» جعل المسرح الشّعري العربي بلا وَزن
4 ابريل 2018 03:29
كان لتجربتي الطويلة في التأليف المسرحيّ الأثر الكبير في بلورة الأفكار الخاصة بالعلاقة بين المسرح والشعر، فقد بدأت منذ تسعينيات القرن الماضي بالكتابة المنظمة للمسرح بطريقة عمليةٍ، حيث كنت أعيش مع المخرجين والممثلين والدراماتورجية تدريباتهم على مدى سبع سنوات متواصلة، لم أنشر خلالها أي مسرحية، بل كنت أصغي وأتعلم متطلبات المسرح وأنفذها في الكتابة المسرحية. كنت أكتب مسرحياتي للعرض وليس للنشر، وظهرت لي، في حينها، ما يقرب من عشر مسرحيات على خشبة المسرح، تعلمت خلالها كيف أكتب نصوصاً للعرض المسرحي وليس للأدب المسرحيّ، وكنت خلالها أصغي، بعمقٍ وتعلّمٍ، لكل ما كان يجري من حوارات ونقاشات خلال التدريب وبعد العرض المسرحي. كنت أثناء ذلك أحمل هدفاً عميقاً في كتاباتي، وهو كيفية أن يكون الشعر داخل المسرحية كشحنةٍ وقوةٍ تحمل الشعرية وليس التقنيات الشعرية، وساعدني في ذلك لجوئي إلى استخدام الطريقة النثرية في كتابة الشعر، والتي بدت لي مطواعة أكثر بكثير من التفعيلات الموقعّة للقصيدة الحديثة، وهكذا أزعم أني توصلت لحلٍ نوعيّ لمعضلة التوافق بين الشعر والمسرح في زمننا الحديث، والذي أصبح غير مبال بما يعرف بـ (المسرح الشعري). لقد سعيت لحلّ هذه المعضلة من خلال ما يقرب من 35 نصّاً مسرحيّاً جمعتها في مجلدين من الأعمال لمسرحية لي واللذين صدرا في عامي (2011 و2013) عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت. وسأوجز في هذه المقالة ما توصلت له: انحسر المسرحُ الشعريُّ العربيُّ منذ بضعة عقودٍ عن ساحة التأليف والعروض المسرحية، عموماً، ومازلنا نتساءل: لم حصل ذلك؟ وكيف يمكن عودته وديمومته؟ ومن أجل إجابةٍ صحيحةٍ، لا بد من تشخيص حقيقتين تاريخيتين تصفان طبيعة المسرح الشعري العربي في القرن العشرين وهما: أولاً: اعتمد المسرحُ الشعريًّ العربي منذ بداية القرن العشرين وحتى منتصفه على شعر الشطرين (أو ما يعرف بعمود الشعر)، وقد مثله خير تمثيل الشعراء أحمد شوقي وعزيز أباظة وعلي أحمد باكثير وخالد الشواف. ثانياً: اعتمد المسرح الشعري العربي منذ منتصف القرن العشرين على شعر التفعيلة الذي كان قد ظهر في نهاية الأربعينيات فيما كان يعرف بالشعر الحر وقصيدة التفعيلة، وقد مثله خير تمثيل الشعراء صلاح عبد الصبور وعبد الرحمن الشرقاوي ونجيب سرور. التبدلات النوعية ظل مفهوم المسرح الشعري، حتى يومنا هذا، مرتبطاً بطريقة الوزن الشعري سواء كان عمودياً أو تفعيلةً، أي أننا يجب أن نتوافر على نصٍّ مسرحيّ مكتوبٍ بطريقة الوزن الشعري أو لنقل النظم الشعري لكي نعتبره مسرحاً شعرياً، وهنا تكمن، في رأينا، الأزمة الحقيقية للمسرح الشعري العربي، فقد غرق المسرح الشعري العربي في هذه المشكلة وكاد يموت. وحتى نجد حلاً لهذه المشكلة لا بد من إعادة النقاش في هذا الموضوع، من جديد، والذي يمكن أن يأخذ، في الاعتبار، الأمور الآتية: 1. حصلت تبدلات نوعية في مفهوم الشعر على المستويين العالمي والعربي، وأصبحنا نتعرف على الشعر بمختلف نكهاته وألوانه الجديدة، فقد مالت الذائقة العامة إلى أنواعٍ جديدة من الشعر من أهمها ذلك الشعر الذي يميل إلى البساطة والغناء، وكذلك الشعر الذي تخلّص من أعباء القيود الوزنية والبلاغية والذي أصبح يكتب بالنثر ونعني به مجمل أنواع الشعر النثري ومنها قصيدة النثر والنص المفتوح؛ ولذلك نقول إن التمسك بالوزن الشعري في النصوص المسرحية وبالبلاغة الخطابية هما من يخلقان الرتابة والملل ويجعلان المستمع مقيداً بالإيقاع الموسيقي الرتيب وبالنبرة الخطابية، وهو ما سيحجب المضمون الشعري أو الشحنة الشعرية العميقة في النص المسرحي، فالمضمون الشعري هو الذي يمثل حقيقة الشعر وليس النظم. وشعرية النص المسرحي تمثلها الفكرة الشعرية المدهشة والانتباهات الاستثنائية والمفارقات النوعية التي هي الآن صلب الشعر الحديث. ولذلك يجب تقليل شرط الوزن الشعري في المسرح الشعري وصوته البلاغي العالي، وليكن مشروطاً بالشعرية فقط. 2. حصلت تبدلات نوعية في المسرح وانفتاحه على أنماط الحياة اليومية والشعبية وأصبح المسرح يميل إلى اللون والصورة والمؤثرات والفانتازيا والخيال، في الإخراج بصفةٍ خاصةٍ، وهي أمور تنسجم تماما مع الشعر الحديث النثري منه، بشكل خاص، والتي تنسجم مع هذه الأمور بسلاسة لأنها من صلب معالجاتها. 3. حصلت تطورات تقنية نوعية على جميع الصعد، وأصبحت المؤثرات التقنية حاضرة بقوة في الأعمال المسرحية، ونشطت تقنيات السينوغرافيا وأنواعها وتبدل المشهد المسرحي من مشهد خاملٍ تقليديّ إلى مشهدٍ مدهشٍ وباهرٍ ومحتشدٍ بالرموز والعلامات. وهذه أمور تنسجم مع فضاء النثر الشعري الذي تخلصت من رتابة القول، ولا شك في أن توافقاً كبيراً سيحصل بين السينوغرافيا وشعرية المضمون وهو ما سيساهم في تجاوز رتابة النص الخاملِ التقليديّ القليل الإدهاش والإبهار لغة وصورة ورموزاً. 4. حصلت تطورات نوعية في طريقة التلقي، وفي المتلقي بذاته، وأصبح من الصعب إشباعه درامياً إلا بجعله مشحوناً بالفكرة النوعية والحوار النوعي والمؤثرات النوعية، وهكذا تغيرت حساسية المتلقي، وأصبحت أكثر رفعة من الناحية الجمالية والفكرية. والذي يمكن أن يجد في فنتازيا النثرية الشعرية الحرة الكثير من رفعته الجمالية والفكرية، وسيساعده، في ذلك، هذا الفضاء المحتشد بألغاز الكلمة والصورة معاً. تغيير مكونات المسرحية يمكننا أن ننطلق من مكونات الفعل المسرحي الأربعة، وهي: النص والممثل ومكان العرض والجمهور. 1. النص: المسرح الشعري يستدعي وجود مقابل له هو المسرح النثري، وبما أن المسرح النثري هو المسرح السائد في دلالته العامة على مصطلح المسرح، فلابد، إذن، من وجود مسرح يجمع بين الشعر والنثر، وهو ما أسميه بـ (مسرح الشعر النثري). ورغم تفاوت أنواع الشعر المنثور، لكن نمط قصيدة النثر يبدو كنوع من الحل، لا لكي يصبح النص المسرحيّ الشعري مجموعة قصائد نثر، بل لتكون قصيدة النثر في خدمة النص المسرحي ووسيلته للتعبير عن الفكرة الموضوعة. وكذلك يقفز نمط النص المفتوح، وهو نوع شعريّ جديد أتى بعد قصيدة النثر ويعتمد على فتح الحدود بين الأنماط النثرية شرط أن تتحول، من حيث الأداء، إلى شعرٍ، وهكذا سيكون النص المفتوح والذي تختلط فيه الأساطير بالدراما وبالتاريخ وبنصوص الحلم والرحلات وكل نصوص المتخيل المقدٍّس والدنيوي. وبذلك ستكون شعرية النص الداخلية بديلاً عن طريقة نظمه. 2. الممثل: يمكن أن يكون شعرياً في شخصيته وطرازه وجسمه وأدائه. 3. مكان العرض: يمكن أن يكون شعرياً في فضائه وسينوغرافيته. 4. الجمهور: سيكون على استعداد لقبول الشعرية التي يطلقها النص من حيث المضمون، بالدرجة الأساس. هذه العناصر يندر أن تكون مجتمعةً معاً، وغياب طرفٍ فيها يؤدي إلى فشل ما يعرف بالمسرح الشعري. وقد حصل هذا على أتمّ وجه في العقود القليلة الماضية. الشعرية بدلاً من الشعر الشعر ظاهرة أدبية تعتمد على اللغة والخيال والصنعة والمهارة في التعبير.والمسرح ظاهرة فنية تعتمد على جميع الفنون، البصرية والسمعية والحسية. المسرح الشعري التقليدي يرسّخ علاقة واحدة بين الأدب اللغوي والفن السمعي. وفيه تهيمن المواصفات الأدبية على المواصفات الفنية، والمطلوب أن تهيمن المواصفات الفنية على المواصفات الأدبية، وبتعبير أدق المطلوب أن تنشحن المواصفات الأدبية للشعر المسرحي بالمادة الفنية وتتخصب بها. من الأفضل أن لا يكون النص الأدبي مهيمناً على المسرحية فتتحول المسرحية إلى خطابٍ لغويّ/‏‏‏‏ أدبيّ، بل يجب أن يتحول النص الأدبي إلى نصّ فني... وهذا يحصل بالإجراءات الآتية: 1. ينشحن النص المسرحي بالشعرية وليس بتقنيات الشعر كالوزن والقافية. 2. يكون النص مصدر إلهام صوري وفنيّ وينسجمُ مع الإيقاع البصري للمسرحية. 3. يراعي النص إمكانية تحقق الخيال والفانتازيا الشعرية بأدوات وتقنيات الإخراج والسينوغرافي. 4. يدخل الشعر قلب وعقل المتلقي من خلال شحنته وليس من خلال تطريبه الصوتيّ والموسيقي واللغوي، فيكون للفكر والعاطفة صلة بالشعرية، وبذلك نخلق مسرحاً شعرياً، ونبتعد عن المنبر الشعريّ في المسرح. المسرح الشعري الغنائي المسرح الشعري الغنائي، سواء كان باللغة العربية الفصيحة أو باللهجات العربية العاميّة (الشعبي، النبطي، الزجل، الملحون.... إلخ)، يعتمد، أساساً، على الغناء والموسيقى ونصوصه تحتاج الوزن الشعري والقوافي فهي الأقرب لتمثل النمط التقليدي للمسرح الشعري والمعتمد على القوالب الوزنية والإيقاعية، فهو بحكم حاجته لها فهو قادر على استيعاب الوزن والقافية من أجل الغناء والتوافق مع الموسيقى. شعرية المضمون حصلت تطورات تقنية نوعية على جميع الصعد، وأصبحت المؤثرات التقنية حاضرة بقوة في الأعمال المسرحية، ونشطت تقنيات السينوغرافيا وأنواعها، وتبدل المشهد المسرحي من مشهد خاملٍ تقليديّ إلى مشهدٍ مدهشٍ وباهرٍ ومحتشدٍ بالرموز والعلامات. وهذه أمور تنسجم مع فضاء النثر الشعري الذي تخلصت من رتابة القول، ولا شك في أن توافقاً كبيراً سيحصل بين السينوغرافيا وشعرية المضمون، وهو ما سيساهم في تجاوز رتابة النص الخاملِ التقليديّ قليل الإدهاش والإبهار، لغة وصورة ورموزاً. ........................................... *قُدمت هذه الورقة ضمن البرنامج الثقافي المصاحب للدورة 28 من أيام الشارقة المسرحية، في 20/‏‏‏‏ 3/‏‏‏‏ 2018 في ندوة بعنوان (أبو الفنون والشعر.. هل غادر الشعراء خشبة المسرح؟).
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©