الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

الأدب الإسرائيلي واغتيال الأسرى

2 أغسطس 2009 01:05
في رواية للكاتب الإسرائيلي «أهارون ميجد»، تعالج أحداث حرب 1956، نجد أمامنا كشفاً مبكراً لجرائم اغتيال الأسرى المصريين والعرب في إصرار وتعمد. لقد صور «ميجد» في روايته «نصيب العبيط» التي نشرت عام 1960 حالة التوحد وتراص الصفوف التي تحُدثها الحرب في المجتمع الإسرائيلي. وليس أدل على ذلك من أن البطل الذي يصفه الأديب بـ«العبيط»، والذي يعاني اضطرابات نفسية وتقطع في العلاقات الاجتماعية يصل إلى حافة الانتحار في وقت السلم، ولا ينقذه سوى اندلاع حرب 1956، وهي الحرب العدوانية التي تشاركت فيها إسرائيل وبريطانيا وفرنسا ضد مصر. عندما يُستدعى «البطل العبيط» إلى الجيش، فإنه يهتف «الحمد لله.. يا لها من معجزة ها هي الحرب قد نشبت وأنقذتني من الموت». هذا البطل نفسه يتعرض في الرواية -التي تبين بعد ذلك أنها تحمل نوعاً من التوثيق التاريخي- لمحاكمة عسكرية؛ لأنه رفض إطاعة الأوامر الصادرة إليه من قائده بفتح نيران رشاشه على الأسرى المحتجزين والذين يقوم بحراستهم. أهمية هذا التوثيق الأدبي لنوايا وأوامر وعمليات اغتيال الأسرى، تظهر عندما نلاحظ أن الجنود والضباط الذين كانوا يجبرون على تنفيذ أوامر القتل بدم بارد بالفعل أثناء تلك الحرب قد استمدوا الشجاعة من «ميجد» بعد نشر روايته، وبدأوا في تقديم شهاداتهم للصحف الإسرائيلية بعد سنوات. يصف الأديب معسكر احتجاز الأسرى في ظروف إنسانية سيئة، حيث كان الجندي بطل الرواية مكلفاً بالحراسة على الباب الخارجي عندما جاء قائده العسكري وأبلغه أمراً عسكرياً من القيادة العليا بضرورة الدخول إلى المعسكر وإطلاق النيران على المعتقلين وهم في حالة استسلام. يحاول الجندي تنفيذ الأمر ولكنه يعجز عن القيام بالمطلوب فتتم إحالته إلى المحكمة. يمكننا أن ندرك من طبيعة الحوار الذي يدور في قاعة المحكمة العسكرية بين القاضي العسكري والجندي المتهم بعدم إطاعة الأوامر، لماذا وصف الأديب هذا الجندي من البداية بـ«العبيط»، حيث يتبين أن المانع الذي شل يديه عن تنفيذ أمر القتل الجماعي ببرود يتمثل في أن لديه مشاعر إنسانية تمنعه عن ارتكاب هذه الجريمة. المنطق العام الذي سيطر على أسئلة القاضي، هو منطق يجعل من جريمة اغتيال جنود (العدو المصري) منتهى الشرف العسكري للجندي الإسرائيلي القادر على تنفيذ هذا النوع من الجرائم، كما أن منطق القاضي يجعل منها ضرورة حياة للجندي الإسرائيلي وزملائه في الجيش، بل ولمجتمعه كله. من هنا، نفهم لماذا يُعتبر هذا الجندي الذي رفض الأمر عبيطاً منذ البداية؟ ولماذا تحول إلى مجرم في قفص الاتهام من وجهة نظر الجيش؟ القاضي العسكري يؤكد أن الشعار الوطني الذي يجب تطبيقه في الجيش الإسرائيلي مع الأعداء هو شعار «اقتل الآخر قبل أن يقتلك هو». الغريب في هذا الشعار الذي يرد صراحة في العمل الأدبي أنه لا يطبق على مقاتلين يحملون السلاح في الميدان، حيث يتحتم على الجندي مقاتلتهم وقتلهم بل يطبق على جنود ألقوا أسلحتهم وسلموا أنفسهم وخرجوا من المعركة، فأصبحوا طبقاً للقوانين الدولية يتمتعون بوضع الأسير الذي يستحق الرعاية والإعاشة في احترام إلى أن تتم مبادلة الأسرى. الجندي يدرك تهمته، وهي أنه لم يطبق الشعار المذكور، فيمني نفسه بعقاب مخفف، حيث يقول لنفسه: (حياتي ملك شخصي لي، وبالتالي فإنني قد عرضت نفسي للخطر بعدم إطاعة الأمر طبقاً لمنطق الشعار، وهذا ليس جرماً في حق أحد آخر، وهو ما يعني أنني سأحصل على عقاب مخفف). غير أن القاضي العسكري سرعان ما يقطع عليه خواطره وأمنياته عندما يقول «طبعاً أنت تفهم أن حياتك ليس ملكاً لك، بل هي ملك للدولة باعتبارك جندياً». وهنا ندرك مع الجندي أن الدولة تمتلك جنودها كآلات حرب، وليس كبشر، يمكن أن يضعفوا أو يتراخوا في تنفيذ الأوامر. عندما سأل القاضي المتهم: لماذا لم ينفذ الأوامر أجاب الجندي أن يديه قد تجمدتا لأن الوقت كان صباحاً وكان في المعتقل نور يكشف وجوه الأسرى وعيونهم وأنه لا يستطيع أن يقتل إنساناً وهو يرى وجهه. هنا نجد أنفسنا أمام التناقض الصارخ بين شعار الجيش الذي جاء على لسان القاضي «اقتل الآخر قبل أن يقتلك» وبين جندي عبيط؛ لأنه لا يستطيع قتل الأسرى العزل وهو ينظر في وجوههم. القاضي يعتبرهم قتلة يهددون حياة الجيش الإسرائيلي وإسرائيل كدولة، ولذا يجب قتلهم دون تردد، في حين يرى الجندي أنهم مجرد أسرى عُزل لا حول لهم ولا قوة. الحوار بين القاضي والجندي المتهم يؤكد ما نعرفه عن القيم الحاكمة للجيش الإسرائيلي، والتي تقوم على مبادئ الوحشية لتبرير ارتكاب الجرائم. د. إبراهيم البحراوي Ibrahim@bahrawy.com
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©