الأربعاء 24 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

أرض التعاسة

أرض التعاسة
11 مارس 2015 21:20
كانت التغطية الإعلاميّة والتلفزيونيّة لإنقاذ العبّارة الإيطاليّة «نورمان أتلانتيك» التي اشتعلت في 28 ديسمبر الماضي، بينما كانت في محاذاة الساحل اليوناني، مرفقة بقدر كبير من الامتنان والجلبة. ومع أنّ الروايات مختلفة، أشارت الترجيحات إلى أنّ هذه الأخيرة كانت تقلّ 478 شخصاً، بين ركّاب وأفراد طاقم، وقد تمّ إنقاذ 432 منهم، وسط ظروف مناخيّة قاسية. وعلى الرغم من وفاة البعض وبقاء آخرين في عداد المفقودين، بدت عمليّة الإنقاذ فعّالة في القسم الأكبر منها. وسلّطت وسائل الإعلام ضوءاً خاصاً على أفعال القبطان أرجيليو جياكومازي الذي وجّه عمليّة الإنقاذ عن متن العبّارة وكان آخر مغادريها. ولم يسع المعلّقين إلاّ ملاحظة ذلك، لا سيّما في أعقاب حادثة مماثلة منذ وقت قريب، غادر فيها القبطان العبّارة قبل الركّاب، فلم يكن عمله هذا شجاعاً على الإطلاق. وبالتالي، بدأ لقب «البطل» يتوارد بصورة متزايدة عند الكلام عن القبطان جياكومازي. متى صبّت وسائل الإعلام اهتمامها على بعض الروايات، لا مجال أبداً للحدّ من حماستها ومغالاتها. واليوم، إنْ اعترض أحدهم على أحد المواضيع، قيل إنّه «يرعد» وكأنّه جوبيتر على جبل أوليمبوس. وإنْ كان أحدهم عالقاً في جدال، قيل إنّه «في عين العاصفة». وهذا خطأ أيضاً، لأنّ الهدوء هو سيّد الموقف متى كان المرء في عين العاصفة. بيد أنّ الجمهور بحاجة إلى حصّته من الحماسة. بالعودة إلى جياكومازي، لا شكّ في أنّه شخص فاضل (حتّى لو تبيّن لاحقاً أنّه يتقاسم جزءاً من المسؤوليّة في الحادثة). ولا يسعنا إلاّ أن نأمل أن يتصرّف كلّ قبطان في المستقبل كما فعل. ولكنّه ليس بطلاً. بل هو رجل قام بواجبه بكلّ صدق ولم يكن جباناً، علماً بأنّ العرف البحري والقانون الإيطالي يفرضان على القبطان أن يكون آخر مغادري السفينة، وبأنّ هذا الواجب يعرّضه طبعاً للمخاطر. من يكون بطلاً؟ يرى توماس كارليل، وهو مؤلف مقالات ومؤرخ اسكتلنديّ من القرن التاسع عشر، أنّ الأبطال هم رجال عظماء يتمتّعون بكاريزما هائلة، ويخلّفون أثراً في التاريخ. ومن هذا المنوال، يدخل شكسبير ونابليون في عداد الأبطال. بيد أنّ تولستوي، وبعض المؤرخين لاحقاً، ندّدوا بفكرة كارليل، بعد أن أولوا قدراً أقل من الاهتمام للأحداث العظيمة، وفضّلوا التركيز على بعض التوجّهات الجماعيّة، أو التركيبات الاقتصاديّة والاجتماعيّة. على صعيد آخر، تُعرّف القواميس البطل على أنّه شخص يقوم بعمل استثنائي – لم يكن مطلوباً منه، فيعرّض نفسه لخطر كبير – ويحقّق منفعة للآخرين. وقد كان الشرطي الإيطاليّ الشاب سالفو داكويستو بطلاً بهذا المعنى – إذ أنقذ 22 شخصاً من أعمال النازيين الانتقاميّة خلال الحرب العالميّة الثانية، بعد أن تولّى المسؤوليّة الكاملة عن جريمة لم تحصل. ولم يطلب منه أحد أخذ اللوم على نفسه، أو الوقوف أمام فرقة إعدام لإنقاذ حياه مواطنيه. ولكنّه تخطّى نداء الواجب وهذا ما فعله بالتمام، فكلّفه الأمر حياته. من غير الضروريّ أن يكون المرء جنديّاً أو قائداً كي يكون بطلاً. فالبطل هو شخص يخاطر بحياته لإنقاذ طفل غريق، أو عامل منجم زميل، أو يتجاهل وسائل الراحة التي يوفّرها الطب الحديث، ويجازف بحياته لمساعدة مرضى الإيبولا في أفريقيا. ويبدو أنّ جياكومازي بحدّ ذاته رفض لقب البطل، عندما أجريت معه مقابلة في أعقاب كارثة العبّارة، لاعتباره أنّه غير مبرَّر. وقد أفاد قائلاً في هذا الصدد، «بأنّ الأبطال لا يخدمون أيّ غاية، لأنّ كل ما يفكّر فيه المرء هو الأشخاص الذين ما عادوا بيننا». ولا شكّ في أنّها طريقة ذكيّة لإبعاد هالة القداسة التي أحاطته بها وسائل الإعلام. لماذا نعتبر بعض الأشخاص أبطالاً، إنْ اقتصرت أعمالهم على أداء واجبهم؟ في مسرحية «حياة غاليليو»، كشف لنا المؤلف المسرحي الألماني بيرتولت بريخت، أنّ «أرض التعاسة هي التي تحتاج إلى أبطال». لماذا أرض التعاسة؟ لأنّها مكان يفتقر إلى أشخاص طبيعيّين يؤدّون واجبهم ولا يتقاعسون أمام مسؤوليّاتهم، ويُقدِمون عليها (كما ورد) «بمهنيّة». وبالتالي، ومع غياب مواطنين من هذا القبيل، تبحث البلاد يائسةً عن شخصيات «بطوليّة» وتوزّع الميداليّات الذهبيّة يمنةً ويسرةً. وهكذا، نفهم أنّ الأرض التعيسة هي تلك التي ما عاد سكّانها يعرفون معنى الواجب، وباتوا يبحثون، كالمسعورين، عن زعيم ديماغوجيّ يتمتّع بكاريزما وينصّ عليهم ما يجب فعله. وسأشير، إن لم تخنّي ذاكرتي، إلى أنّها بالتحديد الفكرة التي أعرب عنها هتلر في كتابه «كفاحي». تنشر بالتنسيق مع خدمة نيويورك تايمز
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©