الخميس 25 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

موجات النسويّة..

موجات النسويّة..
11 مارس 2015 21:20
مرت الحركة النسوية في العالم بمراحل عدة، يصعب اختصارها في هذه العجالة، لكن هذا لا يمنع من القول إنها شهدت ثلاث موجات/ منعطفات كبيرات منذ أن بدأت مجرد حركة مناهضة للظلم الاجتماعي، وباحثة عن تحقيق حقوق المرأة في العمل والحصول على أجر مساوٍ للرجل والمشاركة في الحياة السياسية، وإلى أن أصبحت نظرية اجتماعية ثقافية متماسكة لها منظّراتها ومنظروها أيضاً. في الممارسة العملية حققت المرأة الكثير مما طالبت به، لكن خلف هذا النجاح ثمة فكر، ونظرية، وممارسة نقدية وسوسيولوجية كانت هي المرجع الفكري الذي تستند إليه الحركات النسائية ومؤسساتها، لا سيما في أوروبا.. ومثل كل نظرية، شهدت الحركة النسوية على الصعيد الفكري تغيرات كثيرة يمكن تسميتها موجات كبيرة. يصنف الباحثون تاريخ الحركات النسائية إلى ثلاث موجات أساسية: الموجة الأولى بلغت أوجها مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. ظهرت هذه الموجة في بداية الأمر كحركة سياسية في الأساس تهدف إلى النضال من أجل تحقيق مطالب اجتماعية وسياسية محددة: الحق في التصويت والمشاركة السياسية، والحق في العمل والأجر المتساوي... وغيرها. أما المرحلة الثانية فقد بدأت في الستينات والسبعينات من القرن العشرين، وفيها انتقلت الحركات النسائية من الكفاح الميداني إلى الاهتمام ببناء النظرية النسوية التي تركز على تفكيك الثقافة البطريركية ونقدها، وهنا تحضر سيمون دوبوفوار كرمز لهذه المرحلة بكتابها «الجنس الآخر» الذي اعتبر عمدة المؤلفات الخاصة بالحركات النسائية في هذه الفترة. أما الموجة الثالثة فبدأت منذ الثمانينات وهي مستمرة إلى اليوم، وتركز اهتمامها بشكل خاص على طرح مسألة الاختلاف بين الجنسين، وهوية الأنثوي، وتمثلها حاليا المحللة النفسية والفيلسوفة لوسي إريغاراي (Luse Irigaray). بين سيمون وإريغاراي كانت سيمون دوبوفوار تعتقد أن الوضع البشري واحد بالنسبة للجميع ذكراً كان أو أنثى، وكانت تدافع عن ضرورة تجاوز الاختلافات التي لم يصنعها سوى السياق الثقافي والتاريخي، وهذا هو ما تدل عليه القولة الشهيرة: «إن المرأة لا تولد امرأة ولكنها تصير كذلك». أما اليوم فإن المقاربات الجديدة تميل أكثر إلى الاعتراف بالنوع وإلى إبراز مفهوم الأنوثة كهوية ضرورية للنسوية، وكما ترى إيريغاراي فإن فكرة المساواة ذاتها هي فكرة ذكورية لأنها تعني بكل وضوح أن المرأة ينقصها شيء يمتلكه الرجل وأن من حقها الحصول عليه لأنها تستحقه (1)، وبالتالي فإن هذه المساواة تتم تسويتها ضمن المنظور الذكوري، أي ضمن الشروط والمقاييس التي يفرضها الرجل. هكذا.. ضد الفكرة الشهيرة لسيمون دوبوفوار القائلة بأن «المرأة لا تولد امرأة ولكنها تصير كذلك»، ترى إريغاراي أن المرأة عليها أن تضع رهانها من أجل أن تصير امرأة؛ فالأمر يتعلق ببناء الذات وتأسيسها في هذا الاتجاه. تقول: «أنا أولد امرأة لكن يجب علي مع ذلك أن أصبح هذه المرأة التي أكونها بالطبيعة». (2) باراديغما جديدة في كتابه الموسوم بـ «باراديغما جديدة لفهم عالم اليوم» يبين ألان تورين أن مجمل تاريخ الحركة النسائية يمكن أن يقسم إلى قسمين: الأول يدافع عن المساواة أي على ضرورة إدماج مشاركة المرأة في المجتمع مثلها مثل الرجل تماما. أما الثاني فهو يدافع عن الاختلاف أي عن ضرورة امتلاك المرأة لهوية خاصة بها ووضع اعتباري يميزها كذات مخصوصة. السؤال إذن هو كالتالي: هل للمرأة الحق في الاختلاف أم الحق في المساواة؟ والحق أن الكاتب يشير إلى صعوبة التوفيق بين المطلبين غير أنه، - رغم هذه الصعوبة - يرى أن مسألة الاختلاف هذه ينبغي أن لا يتم التفكير فيها بلغة سيكولوجية بل بلغة اجتماعية تطرح الهوية والوعي الذاتي للمرأة في سياق التفاعل الثقافي والاجتماعي، وبالتالي سيصبح هذا الاختلاف له طابع مؤثر على التراتبية الاجتماعية (4). إن الأطروحة التي يدافع عنها الكاتب هي أننا: «لا نتقدم نحو مجتمع مساواة بين الرجال والنساء... لكننا دخلنا في ثقافة، أي في حياة اجتماعية موجهة، وبالتالي محكومة من قبل النساء لقد دخلنا في مجتمع نساء» (5). ألان تورين، بقوله هذا، لا يقصد أن الهيمنة الذكورية اختفت وأن المرأة أصبحت هي المتحكمة في مصيرها، إذ أن الرجل مازال حاضراً وهو يمسك بمفاصل اجتماعية أساسية مثل الأجور والسلطة ومراكز القرار. مع ذلك، تمتلك المرأة - في نظره - شيئا هاماً هو الثقافة النسوية الصاعدة، والقدرة على التعبير الحر عن الذات. إننا نفهم من جانبنا أن المرأة أصبحت تمتلك اللغة وهنا يبرز جوهر القضية ماذا ستفعل بهذه اللغة: هل ستستعملها من أجل بلورة قيم إنسانية جديدة وبديلة، أم أنها ستكتفي بالسعي نحو احتلال مواقع اجتماعية والصراع حول السلطة أساساً. بين الأمومي والعمومي تعيش المرأة اليوم في شد وجذب بين نموذجين تحن فيهما إلى الأول بينما هي تنجرف نحو الثاني، وهذين النموذجين هما: النموذج الأمومي؛ الذي يجعل المرأة ربة بيت وليس ربة أسرة، فمكانها محصور ها هنا تحديدا فيما تمليه عليها طبيعتها وخصوصية جسدها، إنه فضاء الأمومة، والعواطف العشقية التي لا تعترف بمنطق العقل أو المردودية النفعية التي وضعتها الحضارة المعاصرة كمبدأ أعلى. والثاني هو النموذج العمومي؛ الذي يفرض عليها بفعل الانتصارات التي حققتها شكلاً محدداً من الوعي بذاتها وبالتالي طريقة نمطية في الوجود، وهو فضاء لا يعمل إلا على ضياع الفعل الحر والتلقائي للذات، والانجراف القسري في شبكة من العلاقات المؤسساتية التي تتعالى عليها وتجعلها مثل ذرة تائهة مجبرة على ضرورة الكفاح من أجل العثور لها على مكان داخله. بين هذين النموذجين يقع الوعي الشقي للنسوية المعاصرة، فالمرأة تتأرجح اليوم بينهما، وهو تأرجح ينتهي إلى نوع من التمزق في الكيان والوجدان.. إنها تصطدم يوميا مع المجتمع الذي يطاردها ويريد أن يدوس على خصوصيتها ويتنكر لجسدها، لكنها أيضا في صراع مع نفسها لأنها لا تريد أن تخسر معركة راهنت عليها بكل كيانها. هويات نسوية جديدة أمام وضعية كهذه ما هو الحل الذي تطرحه النسوية المعاصرة؟ إن الحل الذي تنادي به هذه الحركات هو الجندر (Gender) وهو مفهوم ينطلق من ضرورة إلغاء الاختلاف البيولوجي بين الرجل والمرأة، وتقديم الكائن البشري كما لو أنه كائن مجرد، كائن محايد على استعداد لأن يؤدي الدور الذي تتطلبه الظروف دون ارتباط بالخصائص التشريحية الجسدية. يرفض الجندر إذن الاعتراف بالاختلاف البيولوجي بين الرجل والمرأة، أو هو بالأحرى يقول إن علينا أن لا نستند إلى ما هو بيولوجي من أجل تعريف هويتنا. هذا معناه أن هذا المفهوم لا يعترف بخصوصية الأمومة أو الأنثوية أو الأبوية أو غير ذلك من المشاعر الطبيعة المألوفة. ليست هناك سوى جنوسيّات، كائنات مجردة، أنواع محايدة لا هوية لها سوى ما تمنحه لها الظروف وتقلبات الحياة. إن الخوف من غياب التكافؤ والمساواة بين الجنسين أدى بالحركات النسائية إلى التنكر نهائياً لمسألة الاختلاف ورفض تجنيس قضاياها. هكذا أصبحنا نعيش عودة لأسطورة الأمازونيات اليونانية اللواتي ذهبن إلى جزيرة نائية فقمن بقطع أثدائهن رغبة منهن في أن يصبحن رجالًا. إن المرأة/ المحاربة، والمرأة/ الأمازونية، والمرأة/ الجندر كلها أنماط جديدة ظهرت إلى الوجود نتيجة العمل الطويل الذي قامت به هذه الحركات من أجل تفكيك البنيات التاريخية للمركزية الذكورية، فكانت النتيجة هي تثبيت مركزية جديدة لا تختلف في شيء عن المركزية السابقة عليها. ويبدو أن الحركات النسائية في الكثير من اتجاهاتها، وخاصة المتطرفة منها، تعمل على تنصيب مركزية جديدة مكان المركزية البطريركية التي تريد مناهضتها والحال أن الأمر لا يتعلق بإلغاء وجود الرجل من طرف المرأة، أو إلغاء وجود المرأة من طرف الرجل، أي لا يتعلق الأمر بخلق التبعية والهيمنة وأشكال السلط والمركزية بل بإدراك ثقافة الاختلاف وقيم المغايرة، وكما لاحظ عديد من المتتبعين للفكر النسوي المعاصر فإن فكرة القول بأن (المرأة هي الأصل) وهو العنوان الذي يحمله أحد المفكِّرة والكاتبة النسوية نوال السعداوي لا تختلف كثيرا عن الطرح البطريركي الذي يقول إن (الرجل هو الأصل). لقد صاغت الحداثة العلاقات الاجتماعية والمؤسساتية والرمزية بشكل تجعل فيه التفوق دائما للرجل، غير أن الحداثة، بما هي مجاوزة مستمرة لذاتها ولمشاريعها الخاصة، تجد نفسها اليوم أمام ذوبان هذه العلاقات التي أنتجتها؛ فالثقافة الأنثوية أصبحت تتقدم حثيثا وببطء من أجل فرض ذاتها ضد القيم الذكورة البائدة. ويظل هناك، على ما يبدو، بعض الأمل في أصوات جديدة تريد أن تترك بصماتها في ميادين مثل الإيكولوجيا والعلم والأدب.. والتي تدفعنا، بالإضافة الى الاعتبارات السابقة، إلى الحديث عن حداثة أنثوية، أو عن حداثة ناعمة (soft Modernité) ضد الحداثة الذكورية الأنوارية. إن الموجة الثالثة للحركات النسائية عليها أن تفكر في اتجاه هذه الحداثة الإنسانية، وهي حداثة لا تتأسس على منطق القوة والسلطة بل تتأسس على منطق الاختلاف والغيرية والنسبية والتسامح وثقافة الاعتراف. الهوامش 1. جون ليشته: خمسون مفكرا أساسيا معاصرا من البنيوية إلى ما بعد الحداثة، ترجمة فاتن البستاني، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الإولى بيروت 2008 2. لوس اريغاراي من كتابها: أحب إليك. نقلا عن كتاب ثنائية الكينونة: النسوية والاختلاف الجنسي، مجموعة من الكاتبات، ترجمة عدنان حسن. دار الحوار، الطبعة الأولى 2004 ص 47 3. ألان تورين: باراديغما جديدة لفهم عالم اليوم، ترجمة جورج سليمان، المنظمة العربية للترجمة، الطبعة الأولى بيروت 2011. 4 المرجع السابق (ص 318 و319). 5 نفسه (ص 335). مركزية بديلة إن المرأة/ المحاربة، والمرأة الأمازونية، والمرأة الجندر كلها أنماط جديدة، ظهرت إلى الوجود نتيجة العمل الطويل الذي قامت به هذه الحركات، من أجل تفكيك البنيات التاريخية للمركزية الذكورية، فكانت النتيجة تثبيت مركزية جديدة لا تختلف في شيء عن المركزية السابقة عليها. ألم غير قابل للبوح يكمن نجاح النسوية في بحثها عن غيرية جذرية، أي عن اختلاف تتميز به عن النموذج الذكوري، وبما أن هذا الاختلاف المبتغى لا يمكن أن يعاش إلا كممارسة نديّة؛ فإن هذه الغيرية تتحول في نهاية المطاف إلى تشظي للذات وألم غير قابل للبوح.
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©