الخميس 18 ابريل 2024 أبوظبي الإمارات
مواقيت الصلاة
أبرز الأخبار
عدد اليوم
عدد اليوم

كيوتو حيث الأنهار تجري والمدينة تتسع بأناقة

كيوتو حيث الأنهار تجري والمدينة تتسع بأناقة
29 يوليو 2009 00:34
الزمن محسوب وفق أدق ساعات الدنيا، القطار الذي يأتي في العاشرة لا يمكن أن تتمدد العاشرة أكثر من تلك الفاصلة الدقيقة بين الثانية وتاليتها. قيل لنا عليكم بكيوتو، وأنا لا أعرفها، وهي حتماً لا تعرفني، لكن علي أن أسحب حقيبتي باتجاه محطة القطار، تحسست جيوبي، بقي (كوبون) إفطار لم أتناوله في الصبيحة الأولى لوجودي في طوكيو، أعجبتني اللغة المكتوبة عليه، ضممته كتذكار في جيبي، ومضيت، أتبع الباقين، نحو محطة القطارات.. يقول مرافقنا إن كيوتو، ثاني أهم المدن اليابانية، وكانت عاصمتها القديمة منذ القرن الثامن، وظلت حتى عام 1868، ونجت من الدمار في الحرب العالمية، إلا أن الحكم الامبراطوري اختار بعد ذلك طوكيو مخلفاً لكيوتو اسم العاصمة الاقتصادية للبلاد التي لا تغيب عنها شمس المعرفة. القطار يندفع كرصاصة، فوق احتمال العين على إدراك الأشياء العابرة بقوة على جانبي القطار، يمكن رؤية الأبعد فالأبعد، السرعة تبلغ 270 كيلومترا في الساعة، وأنجز المهمة في ساعتين و17 دقيقة، كما قال مرافقنا، أجناس من مختلف الأعمار يقتعدون تلك المقاعد الجميلة والأنيقة، الأطفال في أيديهم هواتف نقالة لا تستخدم للاتصالات حتماً لأنه لا أصوات هناك، ولكن للألعاب الكترونية، العقل الياباني لا يفترض به التوقف، عليه أن يعمل بجهد متواصل كي يبلغ المرحلة التالية من المنجزات التكنولوجية، أما نحن معشر الصحفيين العرب فأمضينا الوقت نثرثر ونختلف حول كل شيء.. وأي شيء. جمال آخاذ حينما بدأت طوكيو في توديعنا بآخر ملامحها من ناطحات السحاب بدأت الأرض تنكشف عن جمال طبيعي أخاذ، كأن هذه البلاد ليست موطن الأسلاك والشاشات والمصانع الضخمة، حقول الأرز منقطة في امتدادها الأخضر ببعض المصانع، كان اللونان الأخضر والأصفر يتنوعان في المشهد أمامنا، مع أن القطار يمضي كرصاصة نحو قلب كيوتو، إلا أن قلوبنا خافقة بالجمال وروعته. الحقول تبدو منظمة ومتناغمة في ألوانها ومساحاتها، انهار تطل على زرقة تتناوب في إطلالاتها، وعلى الخريطة اليابانية الزرقة واسعة تختلط بسبعة آلاف جزيرة تشكل اليابان، هذا المكان الذي يسكنه 126 مليون شخص منهم 12 مليونا في طوكيو التي تبدو ضئيلة جداً في امتداد المكان، على السطوح تنتشر زراعة الاشجار، عرفت انه توجه عام للتقليل من درجة الحرارة. وبالتالي التقليل من استهلاك الطاقة. كأن طائرة تريد أن تهبط هدأت سرعة القطار، وكان على الأبواب أن تنفتح لنزحف جماعات باتجاه المخارج والوجوه تكاد أن تكون صورة طبق الأصل، لها استدارات متنوعة وفي أحداقها عيون غالبا ما تحجبها عدسات النظارات، ألقينا أحمالنا في ردهة فندق، ووجدنا وجوها أخرى تنتظرنا، وكانت المفاجآت تتوالى. مواجع على بعد قيل لي أن أصحب امرأة أربعينية (حسب ميزاني العربي في تقدير العمر)، أخرجتني من الفندق بحقيبة ملابسي، وقادتني إلى محطة الباصات (ووقفنا كما يحدث في باصات أي بلد عربي)، ثم إلى محطة القطارات، وبعدها بدأنا رحلة الإمعان في الذاكرة الكيوتية. قادتني في ثلاث ساعات من المشي المتواصل حيث أرادت مستضيفتي أن تريني مدينتها، وفيما كانت الأقدام متعبة والجسد مرهق من رحلته بين مدينتين إلا أنني لم أشأ زعزعة تلك السعادة البادية في عيني المرأة الصغيرتين، عبرت بي الى ضفاف نهر ومحلات تجارية ومعابد وحدائق، وعندما تسرب إليّ تفاؤل أن جولتها انتهت قادتني الى محطة القطارات، حيث اكتشفت أن ذلك ليس مرسى الوصول، إنما يقع على بعد مسافة أخرى علينا أن نشد الرحال إليها مرة أخرى. في (حارتها) بيوت تبدو كأنها مجسمات كبيرة لمنازل حقيقية، قالت إن ثمن هذا البيت يفوق الـ350 ألف دولار أميركي، صالة صغيرة في طابقه الأول مفتوحة على ما يسمى مطبخ الواقع في زاوية من المكان، وتحت أقدام الطباخة مربع صغير فتحته لأكتشف أنه ما يشبه مخزن صغير محفور في أرضية المنزل. سألتني ماذا تريد لتشاهد على التلفزيون، لم أجد إلا مصارعة السومو، لعلي أفهم لماذا تتصارع تلك الخراتيت، أول الواصلين غيرنا كان شابا يابانيا تستضيفه العائلة ليتعلم اليابانية كونه مستقراً في الولايات المتحدة، وفي حواراتنا حضرت العراق والرأي العام الأميركي والسلام في الشرق الاوسط، حتى في تلك البقعة القصية علينا أن نتذكر مواجعنا. انتظرت جائعاً ما يسمى بالعشاء، طلبت مني انتظار (سي السيد) الياباني، سيأتي في التاسعة مساء بعد انتهاء عمله، هكذا إذن، ينتهي (الدوام) لديهم في التاسعة مساء، تساءلت: لماذا لا يكملون اليوم هناك بانتظار صبيحة اليوم التالي؟ كان الرجل الياباني ظريفاً، استقبلني بود، سألني عن السندباد ورحلاته، بحث عن موطن هذا الرجل الذي سيأتي إليهم وبماذا تشتهر بلاده، سأل عن تعدد الزوجات والشواطئ والنفط، ولم يبق إلا العشاء أسأله عنه قبل أن أنام على الكرسي. على طاولة الطعام ألح أن أمسك العصاتين لتناول الطعام، كل الأنواع غريبة باستثناء صحن البطاطس الذي لم يخلط مع شيء، عصتني العصاتان، وضحكنا كي يكتمل مشهد الاكتشاف، والذي تواصل في غرفة نومي، كلما فتحت حقيبتي صعب علي إغلاق باب دورة المياه، وتساءلت فيما كنت سأفعل لو زاد وزن الجسم عن المعقول؟! انتهى يوم الاستضافة، وعدت أدراجي إلى الموطن الذي أخذتني منه، بعد رحلة القطار ولأن الجو ممطر أركبتني سيارة أجرة، سمع الرجل نصف اسم الفندق فقط، وأوصلني إلى فندق آخر، لم يكن لدي ما يدل على المقصد الأصلي، أخرجت (كوبون) الإفطار من جيبي وكان به اسم الفندق الذي كنا به في طوكيو، دارت الاتصالات، إلا أن الانقاذ لم يتأخر كثيرا، هاتف من مرافق الرحلة لإدارة الفندق، وكأنه اعتاد على حالات التيه (العربي) بين زوار تلك البلاد. الكاهن يحرق المعبد زيارة كيوتو لا تكتمل إلا بزيارة أفخم ما فيها، القصور القديمة والمعابد الشهيرة، فالمدينة اهم المدن اليابانية على المستوى التاريخي لوجود عدد من الآثار لليابان القديمة بها، وهناك معابد ترجع للبوذية والشانتو تجد إقبالا كبيرا لزيارتها، ويتمثل التناقض في أن هذا البلد المعروف عنه أنه مجتمع المعرفة التكنولوجية، وكيوتو بالذات هي العاصمة الاقتصادية لليابان إلا أن الناس يقفون في طوابير طويلة للدخول وفق طقوس تقوم على خلع الحذاء. تجولنا طويلا في أحد قصور فترة الساموراي، كان جميلا يزدان بلوحات مدهشة، ويسمى الحاكم باسم الشوجن، ونظرة على دهاليز القصر المبني وفق الاسلوب التقليدي للبناء الياباني، لكنه ناطق بالفخامة والقوة، كان الشوجن قوميا وغنيا ويستطيع فعل ما يريد، في مكان آخر شاهدنا بناء من ثلاثة طوابق مغطاة بالذهب، لكن أحد الكهنة تعرض لمأساة في حياته فأحرق المعبد، وأعادت الحكومة اليابانية بناءه بتكلفة قدرت ببليون ين، وحوكم الكاهن ومن ثم انتحر في السجن. على مقربة منه كانت هناك مساحة مغطاة بالحصى الصغير تسمى بحديقة الصخر طولها 03 مترا وعرضها 01 أمتار تشير الى مكونات الارض. في الحديقة 51 صخرة لا يمكن رؤيتها كلها مرة واحدة رغم صغر مساحة المربع. وترمز الى الموجودات في الارض، ويجلس حولها السياح للتأمل والتفكر في العالم من خلال تلك المكونات، رغم أن المكان يحمل اسم معبد إلا أن وقوعه في حديقة شديدة الروعة يجعل من امر التمتع بالرؤية مدهشا، فالحديقة مصممة على يد أمهر خبراء الحدائق اليابانية الشهيرة، وعبر تلال خضراء وبحيرات صغيرة وازهار اللوتس وأشجار الصنوبر فإن المكان ينطق بالبهجة، واكتملت جمالية المشهد بذلك الرذاذ الذي يضيف لسحر الطبيعة سحرا، وهناك شجرة عمرها 600 عام شكلت بمساعدة خشب المامبو على هيئة سفينة، في موقع آخر كان الناس يرمون بالعملات، اتضح ان القبر هو لحية بيضاء كانت حارسة للشوجن، كانت تماثيل بوذا حاضرة في امكنة لا تحصى، قيل لنا إنه كان اميرا ذكيا، لكنه هرب لأنه يريد أن يتعرف على الحياة فذهب الى الغابة وعلم نفسه بنفسه. ساديا تتكلم ياباني سألت نفسي مرارا: كيف يبدو الفصل الدراسي في اليابان؟ مستحضرا صورا من حياة التكنولوجيا الحاضرة بقوة في هذه البلاد، باب السيارة المنفتح بكبسة زر من السائق، ودورة المياه العاملة بالأزرار.. أخذونا إلى مبنى عتيد تحجبه الأشجار، قدم لنا مدير المدرسة خيارين للاستضافة من مشروبين أمامنا، الشاي وقد عرفناه، أما الآخر فجربه هواة المغامرة، شدتني على حائط مكتب المدير لوحة كتب عليها باللغة العربية أشهد أن لا إله إلا الله، انبرى زميل لنا يشرح معناها، وأحسب أن المدير قد يرفعها من مكانها بعد ذلك الشرح غير المطلوب من زميل. في جولتنا في الصفوف عادت صور المدرسة كما اعتدتها، رجل يقف في مقدمة الصف يحاول أن ينتهي من المنهج قبل الامتحانات، بل رأيت بما يشبه جلسة في مقهى وكأنه لم يدخل غريب الى الفصل، كان الجو الحميمي يسير بحماسة بين الطالب والمدرس.. الفصول: فصل للمهارات الإلكترونية، بين يدي الطلبة لعبة إلكترونية مفككة يعيدون تجميعها. وفصل للمهارات الحياتية حيث الطلبة والطالبات بين أيديهم مقاص وأقمشة وأدوات لتعلم الاقتصاد المنزلي. فصل تدرس فيه مادة التربية الوطنية ويشرح المدرس الازمة الاقتصادية في اليابان وسبل الخروج منها، أي أنهم يدرسون الواقع لا الأمس، وفي هذا الصف او ذاك يجلس الجميع كأنه في بيته حيث الاعصاب مسترخية دونما فوضى. بين وجوه الطلبة التي لا يمكننا إيجاد الفوارق بينها رأيناها تلك السمراء الجالسة وراء مقعد دراسي، قيل لنا إنها ساديا، الباكستانية القادمة مع والدها الذي ترك أمها في بلدهم الأصلي وهاجر مع زوجته الجديدة، اختارها يابانية، وحرص على أن تتعلم ساديا لغة البلاد الجديدة، والزوجة الجديدة، تجيب ساديا على الأسئلة بابتسامة وثقة تثيران الإعجاب، هذه السمراء التي يشار اليها بالبنان بين تلك الوجوه المتشابهة، وحدها من ينفرد بعينين ناصعتين وسمرة جميلة وذكاء لا يقل عن كل هؤلاء، تقول إنها بدأت في تعلم الحروف اليابانية وتتقنها جيدا رغم أنها أمضت سنة فقط في هذه البلاد. طقوس الشاي للشاي موقع خاص في قلب الياباني وفي بيته أيضا، وهو لا يشبه تلك الأنواع التي ألفناها، بل ربما لا علاقة له بها مطلقا فالشاي الياباني يحضر من الورق الأخضر على شكل بودرة ومن ثم يوضع في ماعون صغير كالذي تقدم فيه الشوربة. ضمن غرف البيت التقليدي الياباني توجد غرفة تسمى غرفة الشاي، يجلس الجميع على أرض مفروشة بالحصير المصنوع من الاشجار «كالنخيل على سبيل المثال» وهذا الأثاث التقليدي تحتفظ به البيوت اليابانية الحديثة. وقبل أن تدخل الفتاة التي تقدم الشاي الغرفة تجلس لتفتح الباب، وبعد خروجها تجلس أيضا لتغلقه.. تتقدم اولا لتوزيع مناديل ورقية عليها ملعقة خشبية مستقيمة، أمام كل شخص من الجالسين تضع ما في يديها وتنحني فيرد الجالس بانحناءة أيضا وتتوالى الطقوس مع قطعة الحلويات التي تسبق تناول الشاي، وهي أنواع من الحلويات تتغير كل كل شهر حسب موسم الفواكه، ثم يأتي الشاي غليظا وقليل الكمية، بخضرته المستمدة من ورق الشاي الاخضر المختلط بالماء الساخن، عند تناول الشاي من على الطاولة الصغيرة تستدير اليد اليمنى على الماعون وتمتد اليسرى تحت الاناء، وبعد الانتهاء من الكمية يلف الشارب الاناء ماسحا اياه من حيث وضع شفتيه عليه، وهذه التقاليد متوارثة من عصور الساموراي حيث كانت منتشرة في عصر الحاكم «الشوجن» وتحفظها الاجيال ولتعلم مبادئ تقديم الشاي تحتاج الفتاة الى سنة، أما إذا أرادت أن تتعمق فعليها قضاء سنوات أكثر.
المصدر: كيوتو
جميع الحقوق محفوظة لمركز الاتحاد للأخبار 2024©